يعود تأريخ تأسيس ما يطلق عليها منظمة العيون الخمس (FVEY)إلى خمسينيات القرن الماضي، وذلك في بدايات اشتعال الحرب الباردة بين المنظومة الغربية والاتحاد السوفيتي السابق. وقد جاء ذلك نتيجة تعاون وثيق بين بريطانيا، والولايات المتحدة في المجالات الاستخبارية وتبادل المعلومات الأمنية فيما بينهما منذ الحرب العالمية الثانية. وقد سبق ذلك توقيع اتفاقية (يو كي يو أس أي) الاستخبارية في عام 1946، التي نظمت التعاون في مجال استخبارات وسائط الاتصال وتبادل المعلومات عبر أجهزة الاتصال بين البلدين. ولكن مع مرور الزمن التحقت بلدان أخرى بهذه المنظمة، وهي: كندا، ونيوزيلندا وأستراليا، إذ يلاحظ أن تلك البلدان تشترك بأنها إنكلوساكسونية من حيث اللغة والأصل. ولا تشارك المنظمة -على الرغم من وجود اتفاقيات بينها وبين عشرات البلدان لتبادل المعلومات- المعلومات التي لديها مع أي مؤسسة أو بلد خارجها مهما كانت العلاقة معها استراتيجية، ومن ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو). لكنها تشارك المعلومات الاستخبارية بنحو انتقائي مع من هم في خارجها من حلفاء ومن ذلك المعلومات عن تنظيم داعش. فعلى سبيل المثال: وافقت المنظمة في عام 2015 على مشاركة بعض المعلومات الحساسة التي لديها عن تنظيم داعش في سوريا مع الفرنسيين، وذلك بعد حصول اعتداءات إرهابية طالت العاصمة الفرنسية باريس. فيما تتبادل المنظمة في أحيان أخرى المعلومات مقابل معلومات مع بلدان صديقة من خارج المنظمة.
يضم تحالف منظمة العيون الخمس المؤسسات الاستخبارية الآتية: وكالة الأمن القومي الأميركية، والقيادة العامة لاتصالات حكومة المملكة المتحدة، ومؤسسة أمن الاتصالات الكندية، والمديرية الأسترالية للإشارات، ومكتب أمن اتصالات الحكومة النيوزيلندية. ويتحرك جهد المنظمة في:
- جمع المعلومات التي تتحرك في منظومات الاتصال المختلفة.
- الاستحواذ على الاتصالات، والوثائق والمعدات.
- تحليل حركة الاتصالات.
- تحليل الشفرات والرموز.
- فك الشفرات والترجمة.
- الحصول على المعلومات الخاصة بالمؤسسات العاملة في مجالات الاتصالات، والأساليب، والتطبيقات والمعدات.
وتعمل هذه المنظمة الاستخبارية على تشكيل شبكات تعاون استخبارية كبيرة ومعقدة وتطويرها مع عدد كبير من أجهزة مخابرات وأمن البلدان، وأحياناً عبر توقيع عدد من الاتفاقيات معها. وقد تم تصميم نظام مراقبة أطلق عليه الاسم الرمزي “إيكيلون” لمراقبة أنظمة اتصالات الاتحاد السوفيتي والبلدان المتحالفة معه، ولكنه يستخدم في يومنا هذا لمراقبة الاتصالات في العالم، وتستطيع شبكة إيكيلون التجسس على الاتصالات التي تتم عبر الهاتف وأجهزة الفاكس، وجميع الأجهزة الرقمية والاتصالات التي تتم عبر الأقمار الاصطناعية. وتتحدث بعض التقارير عن أن إيكيلون لديها أجهزة مثبتة على أسلاك نقل إشارات الإنترنت الموجودة في قعر البحار؛ لمتابع الإنترنت ومراقبته. وعلى الرغم من أهمية إيكيلون وخطورته فإن هنالك العديد من الشبكات التي تنشط في العالم بالطريقة نفسها سواء على مستويات محلية أو إقليمية أو دولية. وتبرز بعض التقارير بعض المحطات الرئيسة التي تديرها المنظمة بنحو مباشر، وهي تغطي مناطق في الولايات المتحدة وبريطانيا، والبرازيل، وألمانيا، والهند، وتايلاند، واليابان، وعمان، وكينيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وقبرص.
الذي يفهم من عمل منظمة العيون الخمس أنها كانت في الأساس معنية بمراقبة الاتصالات واعتراضها، وجمع أنواع المعلومات التي يتم تبادلها عبر وسائط الاتصالات المختلقة في الاتحاد السوفيتي السابق؛ ولكن عملها توسع إلى مستوى المراقبة على المستوى الدولي في أيامنا هذه. وقد وصف الجاسوس الأميركي المنشق إدوارد سنودن هذه المنظمة بأنها “منظمة لا تعمل ضمن قوانين البلدان التي تشكلها؛ وهي بالتالي منظمة تعمل خارج الأطر المعروفة للمؤسسات الحكومية ضمن بلدانها”. وقد كشفت وثائق سربها سنودن بأن هذه المنظمة لا تألو جهداً في التجسس على مواطنيها على الرغم من منع ذلك من قبل قوانين تلك الدول؛ لذا هي تتبادل المعلومات عنهم فيما بينها.
للمنظمة اتفاقيات شراكة مع عدة بلدان، إذ ينظر إليها على أنها شريك كطرف ثالث لتبادل المعلومات الاستخبارية. وهكذا يلاحظ وجود منظمات أخرى مثل (العيون التسع) التي تضم إلى جانب دول العيون الخمس كلًا من الدانمارك، وفرنسا، وهولندا، والنرويج. ومنظمة (العيون الأربع عشرة) وهي تضم ألمانيا، وبلجيكا، وإيطاليا، وإسبانيا، والسويد. أما منظمة الـ (41 عيناً) فتضم عدداً مهماً من البلدان الأخرى من ضمنها أفغانستان.
يبدو أن هذه المنظمة تتحرك على وفق فلسفة مشتركة ومتفق عليها للعمل الأمني للدول المشتركة بها، ومن ذلك أن العمليات الاستخبارية التي تقوم بها المنظمة تخضع لحاجة تلك الدول لمعرفة القدرات والنوايا لدى الآخرين وفهمها، ولتكوين صورة واضحة عند صياغة السياسات والمبادرات الدبلوماسية، وتحديد المخاطر قبل حصولها. وذلك يعني من بين أمور أخرى، أن الدول لا تحصر جمع المعلومات بما يخص أعداءها الحقيقيين والمحتملين فقط، وإنما الأصدقاء والحلفاء والشركاء أيضاً، ومن ذلك: التعرف على قدرات الأصدقاء ونواياهم؛ للالتزام بالاتفاقات المبرمة معهم، والتعرف على الخطط المحتملة للاصدقاء الذين يرومون من خلالها تنفيذ أجندات خاصة بهم.
إن أغلب العمليات التي تقوم بها المنظمة سرية ولم يكن يعرف عنها الكثير، وتحدد الاتفاقية بشكلها الأصلي بين بريطانيا والولايات المتحدة سرية وضع المنظمة أنه “سيكون الكشف عن وجود الاتفاقية لأي طرف ثالث مخالفاً اها، ما لم يتم الاتفاق على غير ذلك”.وقد بقي وضع المنظمة طي الكتمان حتى شهر آذار عام 1999، حينما أقرت الحكومة الأسترالية أن المديرية الأسترالية للإشارات تتعاون مع نظيراتها خارج أستراليا تحت إطار اتفاقية يو كي يو أس أي.
ويعود الفضل إلى الجاسوس الأميركي المنشق سنودن الذي فرّ ومعه ما يزيد على 200 ألف وثيقة بالغة السرية من وثائق أجهزة الاستخبارات والأمن الأميركي في عام 2013 في الكشف عن بعض تفاصيل طبيعة عملها. ومن تلك التفاصيل أن المنظمة تدير خمسة برامج مراقبة اتصالات واعتراضها على الأقل، وتدار بنحو مشترك من قبل دول المنظمة، منها برنامج (بريسم) الذي يجمع معلومات من مختلف قنوات الإنترنت الأميركية، وبرنامج (أكس كي سكوب) الذي يعنى بجمع المعلومات من شبكة الإنترنت العالمية وتحليلها، وبرنامج (تيمبورا) الذي تديره القيادة العامة لاتصالات حكومة المملكة المتحدة بنحو رئيس، ويجمع المعلومات من الكابلات البصرية التي تستخدم لنقل إشارات الإنترنت.
ويصف أحد عملاء الاستخبارات هذه المنظمة بأنها “إمبراطورية خفية تعمل دونما توقف”. ويتم تبادل موظفي المنظمة في مختلف بقاع الأرض، إذ تعمل بالطريقة نفسها لعمل وكالات الأنباء، فهي تغطي أغلب مناطق العالم وعلى مدار الساعة. من الصحارى الأسترالية إلى السفارات العاملة في آسيا، إلى القطع البحرية، إلى الريف الإنجليزي، وإلى مراكز التنصت التابعة لأجهزة الاستخبارات الأميركية في ماريلاند. وتبعاً للخبرة الطويلة وتوظيف آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا التنصت والمراقبة الإلكترونية فإن محاولات البلدان المنافسة لم تنجح في اللحاق بركب المنظمة في تأسيسها مؤسسات تشبه هذه المنظمة، ولاسيما من حيث الاندماج؛ إذ إن هذه المنظمة مندمجة اندماجاً كاملًا فيما بينها، إذ تمتلك البلدان الأعضاء في المنظمة بنحو مشترك -فضلاً عن اللغة- معايير أمنية متشابهة، ونظام تصنيف وسرية متشابهاً أيضاً. وعلى الرغم من أن أعضاء المنظمة لديهم وضع الشركاء المتساوين فيها، إلا أن الولايات المتحدة تعدّ الجهة التي تقودها، ولاسيما من ناحية التمويل الأميركي للجهود الاستخبارية الذي وصل إلى 60 مليار دولار لعام 2018 وحده. ويذكر أحد المتخصصين أن هذه المنظمة تمتلك ثقافة مؤسساتية حاكمة تمت بلورتها على مدى أكثر من سبعين عاماً مفادها “جمع كل ما يمكن جمعه بلا استثناء”.
وعلى إثر التفجيرات التي طالت مدينة مانشستر البريطانية في عام 2017، تسربت إلى واجهات الأنباء الأميركية تفاصيل عن تلك العملية، إذ نشرت صحيفة نيويورك تايمز صوراً للمتفجرات وأجهزة تفجير كانت قد صورتها الشرطة البريطانية ضمن تحقيقاتها، فضلاً عن معلومات أخرى كانت الأجهزة الأمنية البريطانية قد شاركتها مع نظيراتها الأميركية ضمن منظمة العيون الخمس؛ وقد أدى ذلك إلى اتخاذ الحكومة البريطانية آنذاك قراراً مؤقتاً بإيقاف تبادل المعلومات الاستخبارية مع نظيراتها الأميركية فيما يخص هذه العملية بالتحديد. وإن هنالك تقارير أخرى تحدثت عن أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب كان قد أقدم على مشاركة بعض المعلومات الحساسة التي تم تبادلها في داخل المنظمة مع الروس. وقبل ذلك ألقت قضية الضابط الكندي جيفري ديليسل الذي كان يعمل في المنظمة الضوء على حساسية وضع منظمة العيون الخمس حينما أُلقي القبض عليه في عام 2012 بتهمة تسريب معلومات أمنية خطيرة للروس منذ عام 2007. أما في عام 2016 فقد ذكرت تقارير صحفية بريطانية أن كندا قد أوقفت في عام 2013 مؤقتاً تعاونها الأمني مع أعضاء المنظمة؛ بسبب الكشف عن قيام المنظمة بجمع معلومات عن مواطنين كنديين وتخزينها دون إعلام الحكومة الكندية، وبنخو مخالف لبنود الاتفاقية.
كشفت بعض التقارير عن تجسس المنظمة على هانس بليكس رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق في أثناء قيامه بعمله، فيما قامت بعمليات مراقبة للبعثات الدبلوماسية لستة بلدان في الأمم المتحدة لممارسة ضغوط عليها؛ لاستصدار قرار دولي يسمح باستخدام القوة ضد العراق في المدة التي سبقت غزوه. وفي عام 2014 أصدرت المحكمة الدولية في لاهاي حكماً منعت بموجبه أستراليا من التجسس على شرق تيمور، وأن تُغلق الملفات والوثائق والمعلومات كافة التي استولت عليها بعمليات تجسسية ضد ذلك البلد ضمن منظمة العيون الخمس وبالتعاون مع أعضائها.