جابر عاشوري
الملخص:
لا يتلخّص الحراك الإسلامي في تركيا -على خلاف الكثير من الدول الإسلامية- في محاولة الإسلاميين للوصول إلى السلطة السياسية، فالإسلاميون في هذا البلد قد جعلوا الهيمنة على المجال الاقتصادي بنحوٍ خاص من ضمن أولى أهداف برامجهم وتخطيطهم، مقدّمين تفسيراً وتبريراً دينياً لذلك. وحتّى قُبيل وصول «حزب العدالة والتنمية» لرأس هرم السلطة كانت وتيرة نشاط الإسلاميين في القطاع الاقتصادي متصاعدة بنحوٍ ملحوظ؛ مما هيّأت الظروف لصعود هذا الحزب في المسرح السياسي؛ وبهذا -وبعد صعود الإسلاميين في المجال السياسي بتركيا- تضاعف هذا الحِراك الاقتصادي، وساعد على بقائهم في السلطة السياسية.
يحاول هذا المقال أنْ يسلّط الضوء في مبادرة الحِراك الإسلامي في تركيا لإنشاء مؤسسةٍ غير حكومية واسعة في القطّاع الاقتصادي، وبيان كيفية اعتماد القيم والثقافة الإسلامية لدعم هذه المؤسسة، وكيف تكوّنت علاقة جدلية وثنائية ومستمرّة بين الحراك الاقتصادي والحراك السياسي لدى الإسلاميين الأتراك، وكيف تبلورت حركةٌ ذات أبعاد اقتصادية وسياسية في تركيا. لقد تحصّل كلّ ذلك بإنشاء أهم مؤسسة اقتصادية غير حكومية لدى الإسلاميين في تركيا، ألا وهي (نقابة التجّار وأصحاب الحِرَف المستقلّة).
المدخل:
نقابة التجّار وأصحاب الحِرَف المستقلة،التي تُختصَر تسميتها باللغة التركية في كلمة (موسياد)، هي مؤسسة غير حكومية ذات أهداف اقتصادية، تعمل في تركيا منذ ثلاثة عقود.
سُجّلت هذه النقابة في تركيا ضمن المؤسسات غير الحكومية(NGO)، وهي في طور النموّ المستمر منذ تأسيسها، وتُعدّ في الوقت الحاضر من أهم المؤسسات غير الحكومية في القطّاع الاقتصادي التركي.
يُنظَر لهذه النقابة في تركيا على أنها مؤسسة ذات توجّهٍ إسلامي، وتُصنَّف ضمن الحِراك الإسلامي التركي في العقود الأخيرة. فمنذ عام 2003 كان (حزب العدالة والتنمية) يمثّل التيار الإسلامي التركي من الناحية السياسية، فيما مثّل الإسلاميون الأتراك من الناحية الاقتصادية (نقابةَ التجّار وأصحاب الحِرَف المستقلة.)
يسلّط هذا البحثُ الضوءَ في نشوء هذه المؤسسة وتطوّرها، والأيديولوجيا المعتمدة لديها، ويعدّ لها ثلاث خصائص، نادراً ما نجد نظيراً لها في دولٍ إسلاميةٍ أخرى، وهذه الخصائص هي:
- عدم الارتباط بالحكومة.
- الاعتناء التام بالمجال الاقتصادي.
- النشوء في الأوساط التركية قبل وصول الإسلاميين الأتراك إلى السلطة.
وكما سنرى فإن هذه المؤسسة نجحت في بلورة هويّة إسلامية لمسلمي تركيا، إذ استطاعوا مواكبة ظاهرة العولمة، والسوق الحرة، والتعرّف على طرق الحياة الحديثة.
إن أعضاء هذه النقابة ليبراليون من الناحية الاقتصادية، ومن أنصار العولمة، ودينيون من ناحية الهوية، ومحافظون من الناحية الثقافية؛ وبهذا يمثلون جزءاً من التيّار الإسلامي الناجح التركي في المجال الاقتصادي، الذين يُعبَّر عنهم بـ«نمور الأناضول».
لم تتمتع هذه النقابة في سنواتها الأُوَل بالدعم الحكومي، بل استثمرت الفرص التي وفّرتها حركة العولمة والسوق الحرّة؛ولكن في السنوات الأخيرة -مع وصول القوى الإسلامية إلى المناصب السياسية، ولاسيّما إبان رئاسة رجب طيب أردوغان لبلدية أسطنبول، وبعدها رئاسته للنظام السياسي- حظيت هذه النقابة بالدعم الحكومي.
ويمكن أن نعدّ هذه النقابة مصداقاً لتغلغل المؤسسات غير الحكومية في الحراك الإسلامي التركي؛ ويعود ذلك إلى حقيقةٍ تفيد بأن الحراك الإسلامي في هذا البلد حتّى مدّة ليست ببعيدة كان محروماً من المشاركة في العمل السياسي، وإن جيرته مع الغرب والاتحاد الأوروبي لم توفّر له إلا قدراً ضئيلاً جدّاً من فرص النشاط المدني. وبهذا فإن الحراك الإسلامي في تركيا قد انتهز الفرصة بنحوٍ جيّد واستفاد من الأدوات الديمقراطية لممارسة حضور جادّ ومؤثّر في الساحة السياسية. وقد استمرّت هذه المنهجية إبّان صعود الإسلاميين، ووصول حزب العدالة والتنمية للسلطة. لقد أدت هذه المؤسسات غير الحكومية المتعددة أدواراً مهمّة في المجتمع التركي، وفي إطار مؤسسات اقتصادية، وتعليمية، وثقافية، وخيريّة، فضلاً عن أنها تحوّلت إلى أدوات مهمّة وفعّالة ضمن الدبلوماسية الثقافية العامّة التي تعتمدها الحكومة التركية في مجال سياستها الخارجية.