المقدمة
تمرّ السياسة العالمية اليوم بمرحلة من الاضطرابات، إذ يجري في العديد من البلدان استبدال الأحزاب، التي تسلمت مقاليد السلطة لسنوات وعقود بأحزاب جديدة تدفع باتجاه تحقيق أجندات بديلة غالباً ما تكون مناهضة للمؤسسة القديمة. ويحدث في أحيانٍ أخرى أن تدفع الأحزاب بمرشحين مخالفين للاتجاهات السائدة، ويحصلون بذلك على تعاطف الناخبين في هذه العملية.
تتناول هذه الورقة دراسة لحالات ثلاث، هي: حزب العدالة والتنمية في تركيا عام 2002، وحزب الجمهورية إلى الأمام في فرنسا عام 2017، والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة عام 2008. وتقدم رؤىً مختلفة بشأن كيفية تعبئة الدعم الشعبي والحفاظ عليه، وإن كانت تقدم قصصاً مختلفة لأسباب نجاحها، ابتداءً بوسائل التواصل الاجتماعي، وليس انتهاءً بالمجتمع المدني والديمقراطية المباشرة.
أولاً: تركيا: حزب العدالة والتنمية:
يُعدّ حزب العدالة والتنمية (Adalet ve Kalkınma Partisi) حزباً سياسياً جديداً نسبياً، تأسّس في عام 2001، ثم فاز بعد ذلك في أول انتخابات في عام 2002. وقد ازدادت شعبية الحزب بثبات، وإن كان قد تعرض إلى نكسة انتخابية يسيرة في انتخابات حزيران 2015، لكنه عاد ليعوِّضها في انتخابات تشرين الثاني 2015، وانتخابات حزيران 2018، وتشير إحصائيات الحزب للعام 2018 إلى وجود 10 ملايين عضو في صفوفه.
قد كانت قدرة الحزب في الحفاظ على النجاحات الانتخابية على الرغم من العديد من الأزمات والمشكلات في الاقتصاد أو السياسة الخارجية مثالاً رائعاً على المرونة في بلد يُعرف عنه بروز وتلاشي الأحزاب السياسية بسرعة. ويعزو الكثيرون النجاح المتحقق إلى الشخصية الكاريزمية لمؤسس الحزب رجب طيب أردوغان، وكثيراً ما صوَّر الخطاب السياسي للمعارضة التركية مؤيدي أردوغان على أنهم سُذَّج أو جهلة؛ لاستمرارهم في دعمه والتصويت له. غير أن نجاح أردوغان يعود إلى تأريخ أقدم.
يتطابق نهج هذه الحركة تقريباً مع نهج المسلمين المحافظين وسكان الأرياف الذين لم تكن السياسات العلمانية ذات الطابع الغربي لمؤسس البلاد مصطفى كمال أتاتورك تلائمهم، والذين تكوَّنت لديهم قناعة للتصويت لأحزاب بديلة عن حزب الشعب الجمهوري (Cumhuriyet Halk Partisi) الذي أسَّسه أتاتورك. فكانت تلك الأحزاب -بدءاً بالحزب الديمقراطي الذي سحبت إجازته- عرضة لضغط قانوني من قبل الجيش التركي الذي يعد نفسه المدافع عن العلمانية، وحظر نهائياً فيما بعد. لقد منعت فترات القمع تلك الحركة من الوصول إلى هرم السلطة السياسية، لكنها منحتها في الوقت نفسه هوية ذاتية وحجة اضطهاد سيستمر أردوغان في استغلالها.
وقد وجدت الحركة لنفسها مجالاً سياسياً أكبر للعمل في أعقاب العنف السياسي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إذ اتسمت هذه الحقبة بتصاعد الهجمات بين الشيوعيين الاشتراكيين والقوميين؛ مما أدى إلى قيام السلطات الحكومية والجيش التركي بقمع الطرفين. وخرج المجتمع المدني الإسلامي الأصولي نسبياً ونما مع تراجع الأطراف الأخرى سياسياً. ويمكن القول واقعاً إن المجتمع المدني الإسلامي في تركيا قد جاء لملء الفراغ الذي تركته الجماعات السياسية الأخرى.