مقدمة
يشكّل التعداد السكاني أهمية قصوى للمجتمعات والدول كافة؛ ذلك أنه يرتبط ارتباطاً مباشراً بالتركيبة السكانية التي تنبني عليها القوى المحركة لأدق التفاصيل الحياتية من شتى الوجوه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؛ فهو لا يمثل جسراً معرفياً وإحصائياً لعدد السكان فقط، وإنما هو الأداة المثالية المُحكمَة التي يمكن من خلالها تشريح القطاعات البشرية والأنشطة الصادرة عنها تشريحاً بنيوياً على وفق مؤشرات رقمية وحسابية دقيقة، تساعد على دقة التخطيط الآني والمستقبلي، وتضمن عمق الاستشراف التنموي والنهضوي، وتوفر سلاسة الوصول البياني والمعرفي في أوقات قياسية، لقاء جهود رشيدة وتكاليف زهيدة[1].
وتتضح جدوى النتائج المترتبة والقائمة على التعداد من كون السكان في أي مجتمع ولاسيما المجتمعات المعاصرة بشقيها النامي والمتقدم هم عنصر أساس لإنتاج الثروة المادية وتوزيعها، ولا يتسنى تخطيط تنمية اقتصادية واجتماعية وتنفيذها ونشاط إداري أو بحث علمي، إلا بوجود بيانات تفصيلية موثوق بها عن أحجامهم وتوزيعاتهم وطبيعة تكوينهم، وتعداد السكان هو المصدر الرئيس لهذه الإحصاءات الأساسية[2].
وعلى الرغم من قدم تجارب الإحصاء السكاني في حضارة بلاد الرافدين، ومرور العراق الحديث بأكثر من تجربة تعداد سكاني، لكنه منذ العام 1997 وحتى العام 2018 -أي منذ أكثر من 20 عاماً- فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة في إتمام التعداد الأحدث، على الرغم من استشعارها أهميته، وعلى الرغم من العوار[3]الذي طال آخر تعدادين في البلاد وهما تعداد 1987، و1997؛ الأمر الذي اضطرت معه الدولة العراقية خلال كل هذه المدة، إلى الاعتماد في حساب مؤشراتها الاقتصادية والقومية والمجتمعية، على بعض جهود (الحصر والترقيم) السكانية، التي تُحصِّل على أغلبها خلال مرحلة التحضير الأولي لإحدى محاولات إنجاز التعداد، وتحديداً في عام 2010؛ مما يعني دخول كافة المؤشرات الإحصائية الصادرة عن الدولة العراقية، بشأن مجمل القطاعات الحيوية العامة والخاصة في البلاد حيّز التخمين، وخضوعها لمؤثرات النقص الرقمي والإحصائي للبيانات السكانية، وهو ما ترتب عليه فعلياً فشل معظم خطط التنمية الوطنية؛ كونها مرتكزة هي الأخرى إلى البيانات التقديرية غير الموثوقة نفسها.
وبالنظر إلى خطورة الآثار السلبية المترتبة على غياب التعداد السكاني بالعراق، وبصفة خاصة تلك الآثار السلبية المرتبطة بالتنمية الآنية والمستدامة والرؤية التنموية والتطويرية لعام 2030. ويأتي هذا العرض التحليلي ليرصد أهم هذه الآثار، ويستعرض أمام صانع القرار العراقي -ومعه عموم العراقيين- أهم الأسباب المؤدية إلى عرقلة الجهود المبذولة في الماضي والحاضر من أجل إتمام التعداد السكاني للبلاد، فضلاً عن استعراض أهم الحلول المقترحة للخروج من هذه الإشكالية، إلى جانب إبداء الرأي في مستحدثات الموقف العراقي من هذه المسألة، وعلى رأس ذلك ما يمكن رصده من توقعات مستقبلية بشأن ما أعلنته وزارة التخطيط والجهاز المركزي للإحصاء “من تبني قرار المجلس الأعلى العراقي للسكان بإجراء التعداد السكاني الأحدث خلال عام 2020، إلكترونياً”[4].
وقد جاءت جزئيات هذا العرض بمدخل وأربعة محاور، أما المدخل فاحتوى على استعراض تقييمي وتصنيفي موجز لأهم التجارب العراقية مع التعداد، ثم المحور الأول وحمل عنوان: (معوقات إجراء التعداد السكاني في العراق) وفيه إشعارات مركزة حول الأسباب الكامنة وراء عرقلة التعدادات السكانية بالعراق، بينما يأتي المحور الثاني تحت عنوان: (غياب التعداد وآثاره السلبية على مستقبل التنمية في العراق) ومن خلال استعراض أهم ملامح السلبيات التي طالت القطاعات التنموية جراء غياب التعداد، وأما المحور الثالث فحمل عنوان: (الحلول المقترحة لإجراء التعداد السكاني في العراق) وفيه إجمال لأهم ما استخلصه العرض والتحليل من حلول ممكنة اُسْتُقرِئت لإشكاليات التعداد ومعوقاته، ثم المحور الرابع والأخير تحت عنوان: (مستقبل تعداد2020 والتعدادات القادمة في العراق) وفيه استشراف لمصير تعداد 2020، وإبداء رأي مآلات التعدادات المحتملة المقبلة في العراق.