تسبّب تفاقم الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا بتوتر العلاقات بين البلدين في حالة لم تشهدها البلاد إلا عام 1974 حينما اجتاحت القوات التركية شمال قبرص، واقتربت العلاقات بين البلدين حليفي الناتو -حينها وحتى الآن- من نقطة الانهيار.
لقد أدّت مجموعة من العوامل إلى الأزمة الحالية في تركيا، وبدأ تأثر العملة بشدة بفعل الانقلاب الفاشل ضدّ الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016، حيث تطورت الأمور السياسية بعد الاستفتاء المثير للجدل في 2017 الذي منح على إثره أردوغان صلاحيات واسعة.
واندلعت الأزمة الحالية التي تسارعت من خلال تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استمرار احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون، بتهمة الإرهاب والتجسس لصالح الولايات المتحدة ودعم الانقلابيين، منذ سنتين تقريباً بعد حملة اعتقالات واسعة النطاق في تركيا إثر فشل الانقلاب العسكري.
لكن الأثر الكبير انعكس بسبب المخاوف المتفاقمة من إدارة الرئيس أردوغان للشؤون الاقتصادية في تركيا، الذي أعيد انتخابه في تموز مع سلطات شبه مطلقة. وإن المشكلات في تركيا يمكن أن تزعزع استقرار اقتصاد الدول التي تقع على الحدود مثل العراق وسوريا وإيران.
وعلى الرغم من أن اقتصاد تركيا هو في المرتبة السابعة عشرة في العالم لكن مشكلاتها تزداد سوءاً، ولاسيما أن الحرب التجارية التي بدأها ترامب تربك التجارة العالمية، وتضعف التحالفات الدولية، وتهدد النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم.
وتنبع مخاوف المستثمرين الأجانب في تركيا من أن تؤدي الحكومة الشعبوية لأردوغان إلى انتهاج سياسات اقتصادية غير مسؤولة تقوض استقلال البنك المركزي التركي، ويخشى المراقبون كذلك أن تمنع تلك السياسات من اتخاذ الخطوات الضرورية لوضع الاقتصاد على أسس أكثر استقراراً.
وكانت الأسواق تتداول الليرة التركية بسعر 4.7 للدولار قبل تموز لكنها انخفضت بعد الانتخابات الرئاسية إلى 5.5، ثم استمرت في الانخفاض حتى نهاية آب. وحينما شعر ترامب بأن الضغوط السياسية والإعلامية على تركيا تؤتي أكلها بعد أن أصدر عقوبات ضد وزيري العدل والداخلية في تركيا لاعتقال القس الأمريكي، أعلن فرض عقوبات اقتصادية بمضاعفة التعريفات الجمركية على الصلب التركي المستورد إلى خمسين في المئة وعلى الألمنيوم إلى عشرين في المئة؛ وقد أدّت هذه العقوبات الأمريكية إلى جعل الصلب التركي الأغلى في السوق الأمريكية، مما شكل انتكاسة للصادرات التركية من الصلب (1).
وأثارت المواجهة شبه الشخصية بين الزعيمين الأمريكي والتركي تساؤلات في حال كان الرئيسان سيخوضان مزيداً من الرد ورد الفعل وما يتبعها من فوضى على نطاق أوسع، وقد بدأ الخلاف الشخصي بينهما يظهر في شكل صراع دبلوماسي آخذ في الاتساع يركز بنحو كبير على شخصنة الأمور السياسية.
لقد وجه أردوغان انتقادات مباشرة إلى الولايات المتحدة في قضية تنسيق الانقلاب العسكري عبر الداعية التركي فتح الله غولن من منفاه في بنسلفانيا، وطالب بتسليمه وهو ما رفضه المسؤولون الأمريكيون.
وكلما زاد الرئيس ترامب من حدة خطابه زاد الرئيس أردوغان أيضاً من لهجته، ولم يبد أي علامة على التراجع، وهاجم القوى الأجنبية التي اتهمها بتدبير الأزمة الاقتصادية في تركيا، وتعهد بعدم الرضوخ للضغوط الغربية. وقال أردوغان: «إن أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يجعلونا نركع بالتلاعب الاقتصادي، لم يفهموا هذه الأمة على الإطلاق، لا يمكنهم استخدام لغة التهديد ولغة الابتزاز ضد هذه الأمة»(2).
أراد ترامب من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية عقد اتفاق مع أردوغان لإطلاق سراح القس. في المقابل، وافقت الولايات المتحدة على إعادة مصرفي تركي كبير -عمل في خلق بنك التركي- مسجون لديها بتهمة خرق العقوبات الأمريكية على إيران، لإتمام ما تبقى من عقوبته في تركيا. وأُطلق سراح معتقل تركي في إسرائيل بطلب من الرئيس الأمريكي.
ويبدو أن هناك محاولات دبلوماسية تركية لرفع العقوبات الأمريكية ضد خلق بنك التركي المملوك للدولة بسبب ما اعتبرتها الولايات المتحدة «تآمراً» لانتهاك عقوبات أمريكية ضد إيران، بيدَ أن عدم الإفراج عن القس الأمريكي أصاب المحادثات بحالة من الجمود وسط تشدُّد الرئيسين في مواقفهما.
ومضى الرئيس التركي أكثر صرامة ودعا الأتراك إلى بيع الذهب والدولار وشراء الليرة لتعزيز العملة التركية، قائلا: «أولئك الذين لديهم دولارات، ويورو، وذهب تحت الوسائد، يجب أن يذهبوا ويغيروها في مصارفنا بالليرة التركية، فهذا هو الكفاح الوطني»(3).
أدّى هبوط الليرة إلى قلق الأسواق المالية لأنه أثار الشكوك حول الاستثمار في الأوراق المالية التركية، وارتفع العائد على السندات التركية ذات العشر سنوات بنحو حاد ليصل إلى أكثر من 20%، وهو ما يعني أن التجار يطالبون بعائدات أعلى بكثير لما يعدونه استثماراً ينطوي على مخاطر متزايدة. وامتد القلق إلى شكوك حول استثمارات المصارف الآسيوية والأوروبية التي استثمرت بنحو كبير في تركيا، وشاركت في انخفاض أسواق الأسهم حول العالم (5).
وقد عكس الانخفاض الحاد في قيمة العملة المخاوف بشأن السياسات الاقتصادية لأردوغان، الذي اعتمد على الاستثمارات في البناء. وإن الانحدار الأكثر حدة في الليرة منذ إعادة انتخاب السيد أردوغان تغذيها المخاوف من أنه صار معزولاً أكثر من أي وقت مضى ويتبع سياسات اقتصادية لا تفيد المستثمرين، مثل رفضه رفع أسعار الفائدة للحد من التضخم وتخفيف الضغط على الليرة، وذهبت الحكومة التركية أبعد حينما أعلنت عن توجهها اقتصادياً إلى الدول المؤيدة لتركيا، مثل روسيا وإيران على الرغم من العقوبات الأمريكية ضدهما.