سجّل نظام الرعاية الصحية العراقي -الذي كان يُنظر إليه على أنه أقوى نظام صحي في الشرق الأوسط- تراجعاً حاداً منذ أواخر الثمانينيات؛ نتيجة للصراعات والاضطرابات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد. وفي بدايات القرن الحادي والعشرين وتحديداً ما بعد العام 2003 شهدت البلاد حروباً داخليةً خطرة أفضت إلى نشوء مجموعة من التنظيمات الإرهابية على رأسها تنظيم داعش في العام 2014. وقد أدى ظهور داعش إلى قيام معارك من أجل تحرير الأراضي العراقية منه أدت بدورها إلى تدمير كبير في مرافق الرعاية الصحية التي كانت في طور استرجاع عافيتها بعد حرب عام 2003. ولأن النظام المركزي الذي تأسس في السبعينيات والذي بقي منذ ذلك الحين ثابتاً دون تغيير يُذكر، هو بالكاد قادرٌ على تلبية مطالب المواطنين العراقيين واحتياجاتهم لم تكن حرب التحرير سهلة وبمتناول اليد؛وعلى ذلك بات من الواضح أن هناك حاجة إلى إحداث تغيير في هذا النظام المثقل بالأعباء.
وبعد الهزيمة العسكرية التي لحقت بداعش في أواخر العام 2017، يبدو أن جدول الأعمال لعام 2018 وما بعده سيكون حول إعادة إعمار البلاد، فالاحتياجات والتحديات الناتجة عن عمليات إعادة بناء المدن والبنى التحتية في العراق تحمل في طياتها فرصة لإعادة هيكلة النظام من أجل تلبية احتياجات الشعب العراقي بنحوٍ أفضل، فضلاً عن التصدي للتحديات الجديدة الناجمة عن تأريخ البلاد المضطرب وإن العديد من التحديات لم تكن سائدة في العراق حينما شُكِّلَ النظام، مثل إصابة العديد من الموطنين بالتشوهات إثر الحروب، والتدهور البيئي، والعجز، والفساد، وتزايد معدلات تعاطي المخدرات بين المواطنين.
وستأخذ هذه الدراسة على عاتقها بعضاً من الأمور التي من شأنها تطوير قطاع من قطاعات العراق المتأخرة عن الدول الأخرى وهو القطاع الصحي، وستسلط الدراسة الضوء في الأنموذج البريطاني وكيفية الاستفادة من هذه التجربة.
أُسّست هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية كطريقة للتغلب على أزمة بريطانيا الصحية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان لدى هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية -مثله مثل نظام الرعاية الصحية العراقي- بنية مركزية للغاية ولكنها تغيّرت وتطورت على مرّ السنين في خضم ظهور مشكلات وآفاق وتقنيات جديدة. وعلى الرغم من أنها ما تزال تعاني من مشكلات اليوم غير أنها ما تزال واحدة من أكثر أنظمة خدمات الرعاية الصحية التي تحظى بتقدير كبير في جميع أنحاء العالم.
الملامح العامة لنظام الرعاية الصحية العراقي
لم يتغير الهيكل التنظيمي لنظام الرعاية الصحية العراقي كثيراً منذ السبعينيات، فهو يتكوّن من مستويين رئيسيين هما: وزارة الصحة كمستوى تخطيطي مركزي، ومديريات الصحة التي تدير الرعاية الصحية في المحافظات المحلية. ووزارة الصحة الكردية التي تأسست بعد عام 1991في كل من محافظات أربيل ودهوك والسليمانية تحت سلطة حكومة الإقليم. وفي كلتا الحالتين، اتبعت الوزارتان (الصحة المركزية والصحة الكردية) أنموذجاً مركزياً، حيث تركزت معظم الموارد والطاقات في بغداد. ويركز هذا الأنموذج أيضاً على المستشفيات والرعاية العلاجية، إلا أن الوضع بقي على حاله حتى بعد أن وظفت الحكومة مراكز للرعاية الصحية الأولية ضمن نظامها في عام 1983.
تتوافر الخدمات الصحية في القطاع العام من خلال شبكة من مراكز الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات، وتقدم مراكز الرعاية الصحية الأولية خدماتٍ وقائيةً وأساسية. وقد تُقدّم الخدمات في المناطق الحضرية من قبل الأطباء ولكن في معظم المناطق الريفية يُزودون بالخدمات عبر المساعدين الطبيين. وبالتزامن مع البطء في إيصال الإمدادات، تعاني المراكز الريفية من انخفاض في الجودة. وعلى الرغم من إمكانية إحالة المرضى إلى المستشفيات من قبل مراكز الرعاية الصحية الأولية، ولكن لا يستطيع العديد من العراقيين الوصول بسهولة إلى المستشفيات، بسبب عدم المساواة في التوزيع، فالنهج المركزي الذي بقي دون تغيير على نطاق واسع قد جعل النظام قادراً -بالكاد- على التغلب على التحديات السابقة في تكوينه الأولي.