يُصنّف الفساد على أنّه أسوأ مرض لأي دولة من الدول النامية في العالم الثالث، بل حتى في الدول الناشئة من العالم الثاني؛ لأنها تجعل الاقتصاد يعمل بنحوٍ غيرِ فعالٍ مسببةً زيادةً في الأسعار وانتشاراً للجريمة، وفي بعض الحالات تقود إلى ثورات كارثية وحروب أهلية كما شهدنا في السنوات الأخيرة، والسؤال المطروح هنا هو كيف تتشكّل سلسلة الفساد؟
والحقيقة فإن الطبقة الفاسدة التي تشمل المسؤولين المتواطئين، والنواب، ورجال الأعمال، وموظفي الخدمة المدنية، يشتركون جميعاً تدريجياً في تكوين تنظيمٍ سريٍّ يرتكب الجرائم، وهذا التنظيم لديه من الموارد الإدارية ما يجعله يشعر بأنه يأمن العقاب؛ لذا فهم يسعون إلى غسل الأموال والتهرب من الضرائب؛ لأنهم يعلمون أنه إذا حدث أي شيء قد يشكل خطورة عليهم فإن المتواطئين معهم من المسؤولين سيدعمونهم وينقذونهم.
وحينما يحاول مواطن أو رجل أعمال يعاني من الفساد الاستعانة بالقانون لمعاقبة المسؤولين الفاسدين، فإنه لن ينجح فعلاً. وفضلاً عن ذلك -وبسبب الاعتماد على القانون- قد يتعرض المواطن أو رجل الأعمال هذا إلى الملاحقة القانونية من قبل الفاسدين. وفي ظل مثل هذه الظروف تصبح مكافحة الفقر، والجريمة، وتطوير الاقتصاد عديمة الجدوى ما لم يُقضَ على الفساد بنحو كامل.
وحين مراجعة تصنيف منظمة الشفافية العالمية لعام 2017 نجد أن دولة سنغافورة تحتل المرتبة السادسة عالمياً في مكافحة الفساد، ولعل السبب الأساس في الإدارة الناجحة لرئيس وزراء سنغافورة (لي كوان يو) الذي حكم لمدة 40 عاماً على التوالي، ونال لقب (والد سنغافورة المستقلة) الذي نجح في القضاء على الفساد في البلاد.
وتعدُّ التجربة السنغافورية من التجارب الجديرة بالمتابعة في مكافحة الفساد؛ لأن دولة سنغافورة تحوّلت بعد تطبيق استراتيجية مكافحة الفساد إلى دولة من أفضل عشر دول في مجال مكافحة الفساد بعد أن كانت تعد واحدة من الدول الأكثر فساداً في ستينيات القرن الماضي.
ويمكن الاستفادة من التجربة السنغافورية في معالجة أسباب تعثّر سياسات مكافحة الفساد في العراق التي لم تنتج ثمارها حتى الآن في كثير من القطاعات. وربما يذهب بعضهم إلى عدم إمكانية تطبيق الأنموذج السنغافوري في العراق بسبب البيئة المختلفة.
نالت سنغافورة استقلالها من الاحتلال البريطاني في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وترك البريطانيون سنغافورة باقتصاد ضعيف وملاكات إدارية غير كفوءة، ونسبة تعليم متواضعة، وأجور منخفضة، ولعلَّ الأهم كان في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. اعتمدت الدولة السنغافورية الجديدة في مكافحة الفساد على مجموعة عناصر تمثلت في تأسيس هيئة قوية لمكافحة الفساد، وتفعيل قانون “من أين لك هذا”، وتحسين مرتبات الموظفين، والسماح للإعلام بالبحث عن الفاسدين.
والجدير بالذكر أن السلطات البريطانية غادرت سنغافورة بعد أن أسست مكتب التحقيق في الفساد، ولكن موظفي هذا المكتب كانوا متورطين في الفساد مع جهاز الشرطة. وقد شرعت الحكومة السنغافورية في إجراء حزمة تغييرات جذرية في هيئة مكافحة الفساد شملت إلغاء حصانة المسؤولين أمام المساءلة، وطالت المساءلة عوائل المسؤولين والتحقيق في الحسابات المصرفية، وجرد جميع الممتلكات ليس فقط للمسؤولين، وإنما لأعضاء عوائل المسؤولين، وأقاربهم، وحتى أصدقائهم.
وتضمن التحقيق مستوى معيشة الموظف المسؤول لمطابقة إمكاناته المالية الحقيقية مع ما يحصل عليه من مرتبات، وكانت التحقيقات تدار من دون أي أوامر مسبقة من الجهات العليا في المؤسسات، ويُصادر أي دخل ناتج عن أفعال فاسدة بعد استصدار أمرٍ قضائي.
وحتى تحصل هيئة مكافحة الفساد على مصداقية حقيقية حققت مع الرئيس نفسه ومع أفراد أسرته، ثم نشطت في التحقيق مع الوزراء وجميع مسؤولي الدولة واعتقلت بعضهم. على سبيل المثال: قام وزير البيئة برحلة إلى أندونيسيا مع عائلته بعد أن حصل على تكاليف الرحلة من قبل المقاول الذي كان يبني منازل موظفي الوزارة، وإن الوزير نفسه حصل على منزل كبير وقروض باسم والده التي صدرت تحت ضمان هذا المقاول. وعلى إثر هذا، وجّهت هيئة مكافحة الفساد اتهامات إلى الوزير، وأدين وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة أربع سنوات وستة أشهر.
والعنصر الثاني في مكافحة الفساد كان في تفعيل قانون “من أين لك هذا” الذي يسمح بمراجعة مستويات معيشة الموظفين ممن يعيشون خارج حدود إمكانياتهم، أو لديهم ممتلكات وأموال تحت تصرفهم لم يكن في مقدورهم الحصول عليها من مرتباتهم، كدليل على الرشوة؛ وبالتالي تُعدُّ أيُ مكافأة يتلقاها المسؤول من أي شخص يسعى إلى الاتصال بمؤسسات الحكومة رشوة حتى يثبت العكس؛ وهذا يعني أنّ على المسؤول الحكومي إثبات براءته، وإقناع المحكمة بعدم تلقي الرشوة أو الدخول في أي شبهة فساد. وفي حالة فشل المسؤول في إثبات نزاهته، واقتناع المحكمة بفساده، تعرض ممتلكاته للمصادرة مع غرامة كبيرة، وربما يُلقى في السجن في وقت لاحق.
وفي خط متوازٍ حسّنت الحكومة رواتب الموظفين ولاسيما المسؤولين، واتبعت الحكومة سياسة تقوم على جعل رواتب الموظفين الحكوميين هي الأعلى في المجتمع، وقد أدّى ارتفاع الرواتب إلى جذب القطاع العام لأفضل المتخصصين بعيداً عن المحاباة والمحسوبية. وحينما بدأت البلاد في الانتعاش الاقتصادي السريع، بدأت أجور القطاع الخاص بالارتفاع، وما كان من الحكومة إلا زيادة مرتبات موظفيها، وتلقى الموظفون المدنيون والقضاة رواتب تعادل مرتبات كبار المديرين في الشركات الرائدة.
وحتى لا تغفل أجهزة الدولة عن شبهات الفساد، استعانت الحكومة بالإعلام في كشف الحالات المشبوهة عبر تشكيل وسائل إعلام مستقلة وموضوعية تغطي جميع حالات الفساد التي عُثِرَ عليها أو التي غفلت عنها. وصارت الصحف ووسائل الإعلام الأخرى تبحث عن ضابط شرطة يحصل على الرشوة، أو موظف مدني يعرقل شؤون المواطنين من أجل الرشوة ليكونا في الصفحة الأولى.
فكانت هذه هي الخطوات التنظيمية الأربع التي حوّلت دولة فاشلة من حالة سيئة دون موارد طبيعية، إلى واحدة من الاقتصادات الرائدة في العالم في أقل من 40 عاماً، وهي جديرة بالدراسة والتحقيق.
والسؤال هنا: هل يمكن الاستفادة من التجربة السنغافورية؟ نعم يمكن الاستفادة منها في مكافحة الفساد حينما تتواجد إرادة سياسية تؤمن بمواجهة الفساد، وتتحول إلى أسوة عليا في السلوك النزيه؛ وذلك بتطبيق سياسات مكافحة الفساد على كل من يثبت تورطه في الفساد دون مراعاة موقعه، وإلا فإن سياسة مكافحة الفساد تفقد مصداقيتها؛ وينبغي أن تكون سياسات مكافحة الفساد جذرية؛ لأن الفساد لا ينفع معه سياسات ترقيعية، ولعلّ الأهم أن تكون السلطات المعنية بمكافحة الفساد ذات نزاهة عليا مرتبطة بإرادة سياسية نزيهة.