back to top
المزيد

    التطرّف ومستقبل الدول الهشّة في آسيا الوسطى

    إحسان تقوایی نیا، خبير في شؤون آسيا الوسطى، مركز دراسات إيران وأورآسيا (إيراس).

    لم يكن الإرهاب ظاهرة حديثة في جمهوريات آسيا الوسطى، بل ظهر منذ الأيّام الأولى من استقلال هذه الدول، وفي السنوات التي أعقبت الاستقلال أصبح الحديث عن التطرّف والعمليات الإرهابية في آسيا الوسطى أمراً رائجاً ومتداولاً، واحتلّ موضوع الإرهاب ومسألة التصدّي له مكانةً في الفجوة التي تركتها صمامات الأمان لدى هذه الأنظمة السياسية في هذه الدول، حتّى بات الإرهاب والتطرّف في بعضٍ منها -مثل طاجاكستان- حجّةً لقمع التيارات السياسية والفكرية ذات البُعد الإسلامي حتّى تلك الحركات التي تعمل بطريقةٍ سلمية.

    ويميل شعوب هذه الجمهوريات في آسيا الوسطى في الظروف الاعتيادية إلى النزعة القومية، كردّ فعلٍ للضغوط التي تتحمّلها هذه الدول من القوى العظمى، فضلاً عن أنّ التطرّف الإسلامي ليس له نفوذ فاعل في هذه المجتمعات؛ غير أنّ السلطات السياسية في هذه الدول تتخذ من التصدّي لنشاطات الجماعات المتطرّفة حجّةً لقمع المخالفين والمنتقدين؛ مما أدّى هذا النهج الحكومي القمعي إلى ظهور خطاب التطرّف والأساليب الإرهابية من قبل بعض المجموعات التي تتبنّى هذه الأفكار، ورواج ذلك في الأوساط الاجتماعية والسياسية. وبالنظر إلى أنّ التيارات الإسلامية تُعَدّ من القوى النادرة -أو بالأحرى القوى الوحيدة- التي تمتاز بالطابع التنظيمي؛ لذا ساعد المناخ الاصطدامي على انتشار نزعة التطرّف والصراع بين الأفراد؛ وبالتالي وجد التطرّف بيئة خصبة للنموّ والانتشار في هذه المنطقة.

    إن زعماء الجمهوريات الخمس في آسيا الوسطى (كازاخستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان) متشددون في قمع أيّ صوتٍ مناهض لنظامهم السياسي، وإن الحركات الإسلامية غير مستثناة من هذا الأمر، إذ تواجه قمعاً شديداً على الرغم من القبول الشعبي الذي تتمتع به. وفي الوقت الراهن اتخذت تلكم الحكومات إجراءات أكثر تشدداً مع الحركات والنشاطات الإسلامية بحجّة التصدّي للحركات الإرهابية مثل داعش، وبحجة تنامي التهديدات من قبل الإرهاب العالمي، فعلى سبيل المثال أن تصنيف حزب “النهضة الإسلامية” في طاجيكستان ضمن الحركات الإرهابية هو من أبرز النتائج التي خلفها الخطاب الحكومي الداعي لمحاربة الإرهاب في آسيا الوسطى، حتّى بات زعماء الجمهوريات الخمس في آسيا الوسطى ينقضون الحريّات المنصوص عليها في الدستور بحجّة محاربة الإرهاب.

    الدول الهشّة في مستقبل آسيا الوسطى

    تشكّل الحركات الإسلامية الراديكالية في أفغانستان وغرب آسيا تهديداً جديّاً ضد الجمهوريات في آسيا الوسطى، ولا ريب في أن هذا التهديد بالنسبة لهذه الجمهوريات التي تعاني من عدة مشكلات داخلية، والتي تصنَّف ضمن الدول الهشّة هو أكثر من أيّ تهديد آخر، ويمكن بسهولة أن نشهد دولاً هشّة قد تحوّلت إلى دولٍ فاشلة. ويرى بعض الخبراء المتخصصون أن جمهوريات آسيا الوسطى توفّر أرضية مناسبة لتنمية المجاميع الإرهابية كداعش؛ لأنّها تصنَّف ضمن الدول الهشّة في العالم.

    ويوضّح الجدول الآتي مرتبة جمهوريات آسيا الوسطى من حيث المستوى الأمني بين سائر دول العالم خلال العام 2015.

    تشير تقديرات الخبراء إلى وجود تهديد جدّي موجّه إلى الدولة في أغلب النقاط المذكورة، وأن احتمال تدهور الحالة الأمنية في هذه الدول في مستوى (تحذير عالٍ جدّاً)، وإنْ كان هذا التدهور لم يتحقق حتّى هذه اللحظة، فضلاً عن أنّ هناك تمايزاً واضحاً بين مستوى التهديد في دول آسيا الوسطى، إذ إن كازاخستان تحتلّ مرتبة أفضل، وإن احتمال التدهور الأمني في هذه الدولة أقلّ بكثير من سائر الجمهوريات.

    ويعود سبب “الهشاشة” في هذه الدول بالدرجة الأساس إلى أنّها المعبر الرئيس لانتقال المخدّرات من أفغانستان إلى روسيا، إذ إن أفغانستان تُعدّ المصدر الأوّل لإنتاج المخدّرات في العالم، وإن الخبراء في القضايا الأمنية يعلمون جيّداً بأن أرباح نقل المخدرات تُصرَف غالباً في مجال دعم الإرهاب والتطرف الديني، وخير مثال على هذا الأمر نجده في حرب “باتكن” التي حدثت في سنة 1999، فقد أُعلَن في حينها بأن هدف المنظمة الجهادية التي هاجمت قيرغيزستان هو توفير مجال لتهريب الهيروئين.

    والعامل الآخر في هشاشة جمهوريات آسيا الوسطى هو ارتفاع معدّل الفساد في هذه المنطقة، فبالاستناد إلى الإحصائيات المعلنة من قبل منظمة الشفافية الدولة تصنَّف دول آسيا الوسطى كـ”تركمانستان” و”أوزبكستان” ضمن أفسد الدول على مستوى العالم، إذ إن المستوى المرتفع للفساد في هذه الجمهوريات تسبب في غياب المساواة الاجتماعية، ومن اللافت للنظر أن الجماعات الإسلامية الراديكالية من أمثال داعش تركّز على هذه القضية (أي الفساد) ضدّ السلطات.

    ويعد التصدّي للأنظمة العلمانية في المنطقة هي وسيلة إعلامية أخرى تروّج لها الجماعات الأصولية من قبيل داعش، ولكن إلى جانب كلّ هذه العوامل تجدر الإشارة إلى الفقر المدقع في جمهوريات آسيا الوسطى (وعلى وجه الخصوص في “وادي فرغانة” الذي تتقاسمه كل من (أوزبكستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان) الذي تسبب بهشاشة هذه الدول. ولا شكّ في أن إعلام داعش وسائر المجاميع الإرهابية والأصولية يكون مؤثّراً في الشباب الريفيين في هذه المناطق الذين يعانون من تفشي الفقر، فعلى مدى الأعوام الأخيرة ازداد الأمر سوءاً؛ بسبب تراجع قيمة العُملة الروسية (الروبل)، وانخفاض فرص العمل في هذه الدولة؛ وبالتالي فقد الكثير من العمّال الطاجيكيين الأوزبكيين فرص عملهم في روسيا.

    والعامل الرابع الذي يشكّل تهديداً لدول هذه المنطقة فيتمثّل بهيمنة الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات الفردية (شبه الملكية) التي تسيطر على هذه الدول منذ سنوات طوال، إذ إن الهيكلية الداخلية المبنية على أسس قَبَليّة واختيار رئيس الجمهورية على هذا الأساس بعد وفاة الرئيس السابق تمثّل سبباً في هشاشة هذه الدول.

    أما العامل الخامس في هشاشة جمهوريات آسيا الوسطى فيكمن في الخلافات العميقة بين هذه الدول على مصادر المياه، إذ نشهد هذه الخلافات بوضوح بين الدول التي تقع في أعلى النهر (طاجيكستان وقيرغيزستان) والدول التي تقع أسفل النهر (أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان)، ولا شكّ في أن هذه الخلافات تشكّل عائقاً في التعاون المشترك ضد التهديدات الأمنية.

    والعامل السادس نجده في نفوذ القوى العظمى (روسيا، والولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، والدول الإسلامية) في هذه الجمهوريات، فصراع المصالح بين هذه القوى في هذه الدول يُزيد من التهديدات الأمنية في هذه المنطقة؛ وبالتالي يُفشل كلّ المحاولات الرامية إلى التصدّي لهذه التهديدات.

    إنّ الوضع الراهن في أوزبكستان من حيث المواجهة بين الحكومة والجماعات المتطرفة متباين من بعض الجهات، فمن جانب نجد أن أوزبكستان تمثّل بؤرةً لبروز أقوى الجماعات المتطرفة، ففي عام 1999 حدثت عمليات إرهابية نفّذتها الحركة الإسلامية في أوزبكستان، وفي شهر أيار من سنة 2005 قامت منظمة “إركرامية” المتطرفة بتنظيم مظاهرات في منظقة إنديجان بوادي فرغانة، ومن جانب آخر اتخذت القوات الأمنية مزيداً من التدابير للسيطرة على نشاطات الجماعات المتطرفة.

    وفيما يخصُّ الدولة التي تواجه القدر الأدنى من خطر التطرّف في آسيا الوسطى نجد كازاخستان هي الأفضل حالاً بالنسبة لسائر الجمهوريات المجاورة لها، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ابتعاد هذا الخطر عن هذه الدولة، ففي السنوات الأخيرة شهدت المنطقة الغربية في هذه الدولة أزمة خطيرة، وأن اكتشاف مصادر البترول في هذه المنطقة تسبب في تجمّع فئات مختلفة من المهاجرين في هذه المنطقة، وبطبيعة الحال تبقى القوّة الكامنة على إيقاظ الجماعات المتطرفة في مثل هذه البيئة الصعبة متوافرة دوماً.

    النتيجة

    إن التطورات الأخيرة في طبيعة العلاقات الدولية تحثّ الجماعات والتنظيمات الإرهابية على بذل مزيدٍ من الجهد للبحث عن المجالات الحيوية لتنفيذ الأعمال التخريبية، إذ إن تحوّل الإرهاب السلفي من النماذج السابقة إلى أساليب جديدة وأشد تطرّفاً (مثل داعش) في السنوات الأخيرة خلق مزيداً من المخاوف في المناطق التي تتوافر فيها الأرضية الخصبة لنموّ هذه الجماعات. وثمّة عدّة عوامل مثل انضمام مقاتلين من هذه المناطق إلى صفوف داعش، وكذلك جيرة أفغانستان بصفتها الدولة الحاضنة للجماعات الإرهابية القديمة مثل مقاتلي طالبان الذين التحقوا بتنظيم داعش في الآونة الأخيرة، خلقت مزيداً من مخاوف انتشار الإرهابيين في آسيا الوسطى؛ وبالتالي -وفي الظروف الراهنة- تكون أبرز المخاوف لدى زعماء دول آسيا الوسطى هي القلق من نفوذ الإرهاب وتقويته في هذه المنطقة عن طريق انتقال الأزمات من أفغانستان، وكذلك عودة مواطنيهم الذين كانوا في صفوف داعش في العراق وسوريا، وهذا بدوره ينمّي التطرّف وخطورة التهديدات الإرهابية.


    المصدر:

    http://www.iras.ir/www.iras.irfa/doc/article/3566