وضعت تقارير التنمية البشرية منذ انطلاقتها الأولى عام 1990 الإنسانَ محوراً للتنمية وغايتها، فهي لا تركز فقط على الدخل القومي كونه أحد أهم محاور التنمية، بل تمتد لتشمل قدرات الأفراد، وطاقاتهم، وأدوارهم، ومكامن قوتهم وضعفهم؛ لضمان حياة طويلة، وصحية، وخلاقة.
لقد واجهت المجتمعات الإنسانية على اختلاف مراحل تطورها وبناها وأنماط معيشتها مختلف أنواع الأزمات والتحديات الخارجية والمعوقات الداخلية التي أثرت وبأشكال متفاوتة في مسارها التنموي بدءاً بالاقتصاد، والمتغيرات الديمغرافية، والنسيج المجتمعي، وصولاً إلى الكوارث الناجمة عن الفيضانات والزلازل.
ومن دون شك أن التأثير الواسع والخطير للنزاعات والأزمات في العراق وما صاحبها من مخاضات عسيرة متلاحقة ولأكثر من ثلاثة عقود تفرض واقعاً يتطلب التركيز على تناول موضوع الصمود بتكثيف الحوارات والمناقشات الجادة في السعي إلى تخفيف الصدمات ودرء المخاطر، ومن خلال تقويم قدرات المجتمع وطاقاته الحيوية ودور رأس المال الاجتماعي في بناء الدولة، وتعزيز التماسك المجتمعي؛ لذا فإن هذه الدراسة تتطلع إلى تحسين فرص الفهم وإثارة الوعي بين جميع شركاء التنمية على المستوى المحلي والوطني والدولي، بأهمية القوة الحيوية الفاعلة للشراكات، والتعاون، والتشبيك، والعمل التطوعي، والاندماج الاجتماعي في بناء الصمود المجتمعي. وهذه المظاهر لرأس المال الاجتماعي تصبح أكثر أهمية حينما يفتقد نظام درء المخاطر، وتخفيف الصدمات للموارد المادية، وضعف القدرات البشرية، ووضوح الرؤية والاستجابة للآثار الناجمة عن الأزمات.
وبالترابط مع حقائق الوجود الاجتماعي، تنظر الأدبيات التنموية إلى الصمود Resilience Societal بوصفه عملية متنامية تعكس قدرة الحكومات المحلية وشركاء التنمية الآخرين، وفي مقدمتهم القوى الفاعلة في المجتمع المحلي على المطاولة، ومقاومة التحديات الناجمة عن آثار الأزمة، واستيعاب الصدمات، والتكيَّف، والتعافي، وتضميد الجراح من آثار الإرهاب والعنف والنزوح، وإعادة البناء بنحوٍ أفضل. وهناك إدراك متزايد بأن الأزمات تتأثر في الواقع بالعمل الإنساني أو التقاعس عن العمل، فضلاً عن طبيعة الخيارات التنموية. ومن دون شك، أن البلدان التي حققت تقدماً ملموساً في مؤشرات التنمية البشرية في الوقت الحاضر، تدفع كلفاً عالية في مواجهة الأحداث المدمرة، فالأضرار الناجمة عن تلك الأزمات قد تدفع بالبلاد إلى الركود، والتشظي، والصراع، وربما تؤدي إلى التفكك.
وبناءً على هذه المعطيات يصبح رأس المال الاجتماعي حجر الزاوية في رسم السياسات الناجعة للوقاية والحد من الخسائر الناجمة عن تراكم الأزمات؛ لتشكل بالنتيجة الأساس الصلب لصمود المجتمع واستقراره، وتخفيف الكلف الاجتماعية عن كاهله.
ولعل من دواعي الاهتمام بموضوع رأس المال الاجتماعي -كونه الوجه المخفي للمرونة والصمود- ما تمتلكه المجتمعات التقليدية الأصيلة المتكافلة المتناغمة، برصيدها الحضاري وامتدادها التأريخي من عمق أنطولوجي -بتعبير عالم الاجتماع باسكر- ولاسيما في زمن الأزمات، ففيها مستويات من الوجود تحت ما يظهر على السطح أبعد مما يبدو للعيان، وهذه المستويات التحتية ذات أهمية خاصة؛ لأنها تساعدنا على فهم عناصر رأس المال الاجتماعي ومكوناته؛ وبالتالي تفسير ما هو بادٍ لنا. وتكون الخصوصية هنا مفهوماً ثقافياً ورأس مال ومسؤولية اجتماعية ومدنية يكرّس الالتزام بها الأمان الفردي، والأسري، والسلم الأهلي، والتماسك الاجتماعي.