في عام 1744، أسّسَ أمير الدرعية في نجد (محمد بن سعود آل مقرن) الدولة السعودية الأولى بالتحالف مع الحركة الوهابية، واستمرت تلك الدولة في التوسع حتى سقوطها عام 1818 على يد الجيش المصريّ بقيادة إبراهيم باشا. وخلال تلك الفترة، سيطرت الدولة السعودية على القبائل العربية في نجد مستخدمة الحركة الوهابية على أنها إعادة لنشر رسالة التوحيد ومحاربة البدع والخرافات ومظاهر الشرك.
لقد شهدت تلك المرحلة سلسلة من غزوات النهب والسلب من قبل الدولة السعودية الأولى اعتماداً على مبدأ الحركة الوهابية في تكفير الآخرين، فخطورة مبدأ التكفير تكمن في إباحة قتل المخالفين وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم، وهو ما كانت القبائل العربية تعتمده في تلك الفترة بالجزيرة العربية، وما كان على الأمير محمد بن سعود إلا أنْ يتفق مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب على إنشاء دولة تشرع القتل والسلب والسبي لتجمع قبائل نجد حولها؛ وعلى هذا الأساس، بدأت الإغارات على القبائل عبر الجزيرة العربية ووصلت إلى أطراف اليمن والخليج والحجاز، مهددة مكة والمدينة -رمز السلطة الدينية للخليفة العثماني-، ووصلت غزوات الدولة السعودية إلى جنوب العراق والشام؛ وحينما فشل الولاة العثمانيون في العراق والشام بمواجهة الدولة السعودية، طلب السلطان العثماني من محمد علي والي مصر مواجهة التهديد السعودي، ودخل الجيش المصري الدرعية بعد معارك انتهت بهزيمة السعوديين واستسلام ملكهم، وأَرسلَ محمد علي ملكَ السعودية إلى إسطنبول حيث صلبه العثمانيون بعد التنكيل به.
وبعد انسحاب الجيش المصريّ، حاول شيخ قبيلة يدعى مشاري بن معمر أن يوحد قبائل نجد، وأن يكون حليفاً لمحمد علي، لكنه اصطدم بشقيق عبد الله بن سعود آخر ملوك الدولة السعودية الأولى، الذي كان قد نجح في الفرار من أسر القوات المصرية، وتمكّن ابن معمر من اعتقال شقيق الملك مشاري بن سعود، ثم تقدم نحو الرياض مركز آل سعود الجديد بعد أن هرب منها حاكمها تركي بن عبد الله آل سعود الذي جمع رجال القبائل واستعاد لاحقاً الدرعية فالرياض، واتخذ الأخيرة عاصمة له.
وبدأ عهد الدولة السعودية الثانية التي أنشأها تركي بن عبد الله آل سعود في سنة 1824، وعلى الرغم من محاولات محمد علي في بسط نفوذه على نجد إلا أنه لم ينجح. ومن بعد تركي -وخلال عهد فيصل بن عبد الله- أخذ ال سعود العبرة من التصادم مع الدول الكبيرة التي انتهت بسقوط الدولة الأولى؛ لذا أقام ابن عبد الله علاقات طيبة مع الدولة العثمانية ومصر.
ولكن بعد وفاة الملك فيصل بن عبد الله في عام 1865، ظهرت الصراعات الداخلية في العائلة المالكة بين ولي العهد وأخيه الطالب للملك، وتطور الصراع إلى مواجهة عسكرية، وقد طلب ولي العهد من والي العراق التدخل عسكرياً فأرسل الوالي رجال القبائل العراقية لمساندته، وانتهت المعركة بعد تدخل العراقيين بهزيمة شقيق ولي العهد، إلا أنَّ الوالي العثماني ضمَّ منطقة نجد إلى الإقليم العراقي وأطلق عليها اسم متصرفية نجد.
واستمرت المواجهات المسلحة داخل العائلة الحاكمة لسنوات حتى وفاة الملك سعود بن فيصل في عام 1875، وتولّى الحكم شقيقه عبد الرحمن بن فيصل، لكنه دخل في صراع مع شقيقه محمد بن فيصل؛ انتهى بتولي الأخير الحكم، وطالب عبد الله بن فيصل عم الملك محمد بن سعود بن فيصل بالحكم، واستنجد بمحمد بن رشيد حاكم دولة آل رشيد الذي قام باحتلال الرياض، ولم يسلّمها إلى عبد الله بن فيصل بل عيّن عليها حاكماً من طرفه. وثار عبد الرحمن بن فيصل -والد الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة- في الرياض على حكم آل رشيد؛ وتمكّن من حكم الرياض، وحاول عبد الرحمن التوسع؛ فهاجم القصيم، وأصيب جيشه بهزيمة كبيرة جداً قتل فيها كثيرٌ من رجاله، وتسببت تلك المعركة في استعجال آل رشيد بالقضاء على الدولة السعودية الثانية في عام 1891، وهرب عبد الرحمن بن فيصل مع ابنه عبد العزيز إلى الكويت ولجأ إلى آل صباح.
وبات واضحاً للعائلة المالكة السعودية أن الصراع والحروب الداخلية بسبب اختلاف أبناء فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود أدّيا إلى إضعاف الدولة وسقوطها على يد آل رشيد حكام إمارة شمّر؛ لذا تدارك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مسألة “التوازن في العائلة” في الدولة الثالثة، مع التغلُّب على معضلة تأثير الدول القويّة في المنطقة بالتحالف مع بريطانيا ثم الولايات المتحدة بعد اكتشاف النفط.
وتولّدت قناعة راسخة لدى أمراء الدولة السعودية الثالثة -التي بدأت رسمياً في عام 1932- أنّ أساس استقرار المملكة يعتمد على مبدأين أساسيين هما: التوازن الداخلي للعائلة الحاكمة تفادياً لأي صراع بين الأمراء، وعدم مواجهة الدول القويّة في الشرق الأوسط؛ وصارت تلك الرؤية استراتيجية الملك عبد العزيز قبل إعلان الدولة السعودية الثالثة، وبعدها حتى وفاته في عام 1953؛ وسار الملوك من بعده على هذه الاستراتيجية في توزيع المناصب والصلاحيات والأموال بين الأمراء لتحقيق التوازن، وأيضاً تفادي الوقوع في أخطاء الدولة السعودية الأولى في تهديد الدول القوية بالشرق الأوسط.
وفيما يخصُّ الصراع الذي دار بين الملك سعود بن عبد العزيز وولي عهده فيصل بن عبد العزيز، فنجد أن أمراء آل سعود وقفوا جميعاً إلى جانب فيصل بسبب محاولة سعود كسر مسألة التوازن والتفرُّد بالحكم، وخلال سنوات 1953-1964 في عهد سعود بن عبد العزيز، قاد جمال عبد الناصر حملة لإسقاط الدول الملكية ونجح في اليمن بإقصاء الملكيين وتولي الجمهوريين الحكم، وهو ما أثار الرعب لدى الأمراء السعوديين؛ لذا شهدت المملكة صراعاً صامتاً بين الملك وبقية الأمراء انتهت بعزل سعود وتولي فيصل؛ لأن الامراء وجدوا في سعود عدم الأهلية في مواجهة عبد الناصر فضلاً عن مسألة التوازن العائلي.
وسار فيصل (1964-1975) ومن بعده خالد (1975-1982) وفهد (1982-2005) وعبد الله (2005-2015) على المبدأين السابقين، فمثلاً كان بإمكان الملك خالد عزل الأمير عبد الله عن قيادة الحرس الوطني ولكنه لم يفعل، وأيضاً كان باستطاعة الملك فهد رفض تولّي عبد الله ولاية العهد واختيار أحد إخوته الستة الأشقاء المعروفين بالجناح السديري ولكنه لم يفعل؛ تطبيقا لمبدأ التوازن. وحتى الملك عبد الله كان بمقدوره عزل سلمان وعهد ولاية العهد لولده متعب قائد الحرس الوطني، ولم يفعل، فكل أمير من الأمراء الأقوياء يرتبط بعلاقات قبلية ومصالح سياسية واقتصادية تجعل من عزله استهداف لطبقة متنفذة وقوية قد تقود لصراعات داخلية مشابهة لما حصل في نهاية الدولة السعودية الثانية.
فالجيش المعروف في السعودية باسم الحرس الوطني، تولّى قيادتها الملك عبد الله منذ عام 1963، وصارت قوة أمنية داخلية أشبه بجيش موازٍ يُمثّل حصناً في وجه أي محاولة انقلاب محتملة، وهمزة الوصل الرئيسة بين القبائل ذات النفوذ في البلاد والحكومة، ويصل تعدادها إلى مئة ألف من وحدات قبلية تدين بالولاء لعبد الله ومن بعده لمتعب منذ 1963 وحتى 2017.
والجدير بالذكر أن الملك عبد العزيز آل سعود -مؤسس الدولة- اعتمد في سياسته لبسط الأمن إلى جانب القوة مبدأ المصاهرة مع القبائل القويّة، وكل قبيلة دخلت في مصاهرة مع الملك عبد العزيز ترتبط في تحالف مع قبائل أخرى حسب المناطق والعلاقات التأريخية، وكل أمير من الأمراء الأقوياء يحتفظ بعلاقات متجذرة مع قبيلة والدته وقبائل أخرى مناطقية؛ لذا فإن إقصاء هؤلاء الأمراء وتجاهل زعماء تلك القبائل قد يعود بالمملكة إلى عهد مشابه إلى أواخر الدولة السعودية الثانية.