back to top
المزيد

    الإسلاموية العثمانية والطائفية في الحياة السياسية التركية المعاصرة

    مرکز دراسات السلام الدولية – IPSC

    المركز الدولي لدراسات السلام: هل كان لدى قادة حزب العدالة والتنمية باتباعهم لنهج طائفي استراتيجيةٌ من أجل الاستفادة من ذلك في الساحة السياسية الداخلية؟

    في رأيي، لقد كان أحد الأهداف الرئيسية للطائفية في السياسة الخارجية، هو تسلط الهيمنة الحزبية المنبعثة من الإسلام السني في السياسة الداخلية، وقد فسر قادة حزب العدالة والتنمية الثورات العربية وما أعقبها من تغيير النظم السياسية في المنطقة باعتبارها فرصة من أجل إيجاد تحولات أساسية في السياسة الداخلية. وفي أيار من العام 2011 صرح أحمد داوود أوغلو أن الربيع العربي هو ربيع تركي أيضاً؛ وبهذا المعنى فإن التطورات المحيطة كانت قد هيأت فرصة استثنائية من أجل إسقاط ميراث العسكريين في الحكومة التركية وسياستها، وكان قادة حزب العدالة والتنمية (AKP) في تلك الظروف يفسرون الثورات العربية بوصفها عملية مشابهة من أجل التغلب على القوة البنيوية للزعماء العلمانيين والعسكريين الموالين للغرب التي كانت تستطيع خلال مدة من الوقت أن تجعل سياسة الحزب الحاكم وهويته رسمية في سماء السياسة الداخلية والمجتمع المدني.

    في الانتخابات المحلية والرئاسية التركية للعام 2014، والانتخابات البرلمانية 2015، وحتى استفتاء 16 نيسان 2017، كانت السياسة الخارجية قد تحولت إلى جزء غير قابل للانفصال في الحملات الانتخابية التركية؛ فعلى سبيل المثال، كان أردوغان يستعين بالتشبيه ما بين إسقاط حكومة محمد مرسي الإخوانية في مصر وحزب العدالة والتنمية، وكذلك اعتمد على تحذير المواطنين الأتراك بأن تجربة مشابهة لسقوط الإخوان المسلمين في مصر على وشك الحدوث في تركيا أيضاً، وكان يهدد الأنصار وقاعدة الناخبين المحافظين من أن القوى الخارجية تتحد مع النخبة العلمانية والعسكريين الأتراك كما فعلوا مع الإخوان المسلمين في مصر، بهدف إضعاف حزب العدالة والتنمية وإزالة حكومته.

    والنخبة حينما يسعون إلى السيطرة الهوياتية في سماء السياسة الداخلية، يحولون منافسة الهويات القومية إلى ساحة السياسة الخارجية. وعلى هذا الأساس، فإن قادة حزب العدالة والتنمية بإتباعهم سياسة هيمنة هويتهم (الإسلاموية السنية-العثمانية) في الساحة الخارجية عن طريق التدخل واتخاذ اتجاهات نشطة في تقلبات الشرق الأوسط العربي، من ناحية كانوا يسعون إلى التغلب على الهويات القومية المنافسة، ومن ناحية أخرى يحاولون تقوية دعم الإسلاموية العثمانية في سماء السياسة الداخلية.

    بهذا الوصف، هل تحول النهج الطائفي في السياسة الخارجية كاستراتيجية من أجل الهيمنة الحزبية وترویج الإسلام السني في سياسة ترکيا الداخلية؟

    حين يتبع القادة سيطرة الهویة في عالم السياسة الداخلية، فإنهم بذلك يحولون منافسة الهویات القومية إلى السیاسة الخارجية؛ وبناءً على ذلك، فإن قادة حزب العدالة والتوسعة باتباعهم هيمنة هويتهم (الإسلاموية السنية-العثمانية) في السياسة الخارجية عن طريق التدخل واتخاذ سياسات نشطة ومؤثرة في تطورات الشرق الأوسط العربي، يحاولون من جهة التسيد على الهويات القومية المنافسة لمنافسيهم، ومن جهة أخرى ينوون اتساع دائرة الدعم للإسلاموية العثمانية في السياسة الداخلية أيضاً. إن تصدير المنافسات الهوياتية في السياسة الخارجية، حين تكون هناك موانع كبيرة أمام هيمنة هوية حزب الحاكم في السياسة الداخلية، يمكنه أن يكون استراتيجية ناجحة من أجل تنفيذ استراتيجيات هوياتية. وقد مهدت اتخاذ الأيديولوجية في سياسة حزب العدالة والتوسعة الخارجية بعد الثورات العربية الأرضية لقادة الحزب الحاكم كي يتنافسوا مع المنافسين في الداخل والدوليين كذلك من أجل الحصول على موقع الهيمنة الهوياتية.

    ما الغرض من جعل الإسلاموية العثمانية الهوية الغالبة على حزب العدالة والتنمية، وما عمل الحكومة من أجل الهيمنة الأيديولوجية؟

    في السياسة التركية المعاصرة توجد ثلاثة آراء هوياتية قومية متنافسة، هي: الليبرالية الغربية، والقومية الجمهورية، والإسلاموية العثمانية. والإسلاموية العثمانية كونها الهوية الغالبة على الحكومة التركية، عبارة عن مزيج من حلقات حوارية إسلامية سنية نقشبندية والتراث الفكري السياسي للإمبراطورية العثمانية، وتشمل المعايير الهوياتية لأعضاء هذه الجماعة مسلماً مؤمناً مفتخراً بعظمة الإمبراطورية العثمانية، وأولويات هذا الرأي الهوياتي في تصريحات قادة حزب العدالة والتنمية ولاسيما أردوغان جديرة بالبحث حيث إن أغلبها تشير إلى ميل قادة الحزب الحاكم الإسلامويين إلى تربية جيل مؤمن. وتصنيف أردوغان للمجتمع التركي الداخلي باستخدام كلمتي “نحن” و”هم” يدل على هوية أعضاء الجماعة المنسوبة إلى الإسلاموية العثمانية، وتضادها مع الجماعات المنسوبة إلى الآراء الأخرى. إن كلمة “نحن” تحيل إلى كلمة “خير”، أي الإسلام المحمدي النقي، وكلمة “هم” أو الآخرون تتعلق بالإمبريالية الغربية والمعارضين الداخليين. والأسلوب البناء الضمني لكن الواضح للمقالة الإسلاموية العثمانية هو التعريف بسنية أعضائها؛ وهذا التعريف يضع سائر المسلمين الأتراك ومن ضمنهم العلويين أيضاً في جماعة كلمة “هم”. إن مشروع تكثير السنة[1] من قبل حزب العدالة والتنمية يشبه مشروع تكثير التتريك[2] خلال سنوات تأسيس الجمهورية التركية؛ وبصدد هذا المشروع، يستفيد حزب العدالة والتنمية من استعدادات المؤسسات التعليمية والدينية من أجل نشر الأيديولوجية السنية في تركيا.

    يعني أن الحزب الحاكم يحاول إيجاد تغييرات أساسية والترويج للإسلام السني من أسفل إلى أعلى وعن طريق المؤسسات المدنية والدينية؟

    كان السعي من أجل هيمنة الهوية الإسلاموية العثمانية متزامناً مع السيطرة الكاملة على المؤسسات الدينية والتعليمية التركية من قبل زعماء (حزب العدالة والتنمية) AKP، ولمتغير الدين أهمية لدرجة أنه سواء في حقبة السلاطين العثمانيين، أو في عهد الجمهورية التركية الحديثة، يعد السعي من أجل السيطرة على الشؤون الدينية من أولويات الحكومة. وفي عهد الإمبراطورية العثمانية، كانت يتم السيطرة على هذه المهمة بواسطة العلماء وتحت قيادة شيوخ الإسلام؛ وبعد تأسيس الجمهورية، كانت هذه الوظيفة ملقاة على عاتق وزارة الشؤون الدينية[3]، بينما كانت وزارة الشؤون الدينية قد تحولت إلى إحدى المؤسسات القوية في تركيا حتى السنوات الأخيرة لكنها قد ضعفت في ظل سياسة أسلمة المجتمع التركي العلماني من قبل قادة العدالة والتنمية. وفي الأساس، كانت مؤسسة الشؤون الدينية قد تأسست من قبل كمال أتاتورك والعلمانيين الجمهوريين الأتراك من أجل السيطرة على أنشطة الجماعات الدينية وعدم انتشار التطرف الإسلامي في تركيا.

    وفي عهد حزب العدالة والتنمية ذي 15 عاماً، كانت مؤسسة الشؤون الدينية قد جربت تغييرات كثيرة. وكان أوضحها هو النمو التصاعدي لمؤسسات وزارة الشؤون الدينية. وفي أقل من عقد، ازدادت ميزانية هذه الوزارة إلى أكثر من 2 مليار دولار، وقواها العاملة إلى أكثر من 120 ألف شخص؛ ما قد حول هذه الوزارة إلى أكبر مؤسسة حكومية تركية حتى أنها أكبر من وزارة الداخلية. وبالتوازي مع نمو المؤسسة الدينية، وجد خريجو مدارس الأئمة والخطباء نفوذاً في ذلك، وأن النظام التعليمي والدراسي لهذه المدارس يتوافق تماماً مع أحكام المذهب السني وفروعه حيث أن كثير من زعماء تركيا الفعليين ومن ضمنهم رجب طيب أردوغان من خريجي هذه المدارس. بينما كانت الرسالة الأصلية لوزارة الشؤون الدينية هي الابتعاد عن دائرة السياسة، لكنها تحولت بعد 2010 إلى مؤسسة سياسية، ويستفيد أردوغان من الشؤون الدينية من أجل نشر أحكامه السياسية والمذهبية بتعيين دميته محمد كورمز رئيساً لها؛ وفي الوقت الحاضر تمتلك وزارة الشؤون الدينية محطة تلفزيونية ومحطة إذاعية وجريدة رسمية، وتصدر الفتاوى في جميع النواحي السياسية والدينية، وتتدخل في المعادلات السياسية المذهبية لقادة تركيا الإسلامويين بصفة رسمية. وتطرح وزارة الشؤون الدينية ومدارس الأئمة والخطباء نفسها كبديل لنفوذ جماعة كولن بإبراز وفائها التام لأردوغان وأحكامه الدينية.

    وقد جعل انتقال الإسلام السياسي ونظامه التعليمي من المساجد إلى المدارس، أردوغان وأنصاره الإسلامويين قادرين على أن يشكلوا إيديولوجية الأجيال التركية الشابة والمجتمع المدني التركي على أساس الهوية الإسلاموية السنية العثمانية؛ وتم عرض هذه الأيديولوجية من قبل مدارس الأئمة والخطباء، وتم إعدادها وتدوينها على أساس الأفكار السنية العثمانية المعادية للغرب والمضادة للصهيونية. حتى المساجد قد تحولت إلى قواعد مدنية لنشر الإسلام السياسي لحزب العدالة والتنمية، ويلقي أئمة الجمعة الخطب في مدح أردوغان وتكريمه ودعمه.

    ويتضح التحول في علاقات الإسلام والعلمانية في تركيا حين نشير إلى الوقت الذي تم فيه سجن أردوغان 4 أشهر بسبب قراءة قصيدة سياسية بمضمون مذهبي فقط. وفي نظرة شاملة، نرى أن الإصلاحات التعليمية الأخيرة قد زادت من المحتوى والماهية المذهبية السنية للنظام التعليمي التركي، وتحول كثير من المدارس إلى مدارس أئمة وخطباء، وأكثر من 15% من تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية في الوقت الحاضر يتعلمون في تلك المدارس. والتعليم وبرامجها التربوية على أساس اعتقادات أحكام الإسلاموية العثمانية تماماً، ومن الناحية السياسية أيضاً تعرف هويتها بالمانيفستو الإسلاموي لحزب العدالة والتنمية.

    وعلى المستويين المدني والاجتماعي أيضاً قد تم إنجاز خطوات في سبيل تعميم مقالة الهوية الإسلاموية العثمانية، مثل حرية ارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات والبرلمان والجيش، وزيادة الضرائب على بيع وشراء الكحوليات، ومنع بيع الكحول واستهلاكه حول الجامعات، وإغلاق الاستراحات المختلطة، والتوسع في بناء المساجد في أنحاء المدينة المختلفة وحول الجامعات، وكذلك تسمية الأماكن والجسور والشوارع على اسم السلاطين العثمانيين مثل جسر الياووز سلطان سليم على مضيق البسفور، وهو الإمبراطور الذي اشتهر بمذبحة العلويين.

    إن الهدف الاجتماعي للإسلاموية العثمانية هو زيادة المجالات لنشر الإسلام السني في سماء المجتمع المدني والإقبال على تحالف الدول الإسلامية مع تركيا تحت زعامة قادة AKP في مجال السياسة الخارجية، ومعنى رابطة مقالة الهوية الإسلاموية العثمانية أيضاً هو ابتعاد الاتجاهات السياسية الخارجية التركية عن العلاقات الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي، وتعريف نفسها باعتبارها هوية مستقلة في المناطق المجاورة ولاسيما الشرق الأوسط العربي. 

    هل كان للفُرقة ما بين القوى الإسلاموية لجماعة غولن وأنصار أردوغان تأثير على عملية الطائفية في السياسية الداخلية التركية؟

    كانت الفرقة بين القوى الإسلاموية التركية ناجمة عن الجدال من أجل احتكار القوة ولم تكن منبعثة من الاختلافات الأيديولوجية أو التفسير المختلف لدور الإسلام في الحياة السياسية التركية. ومع تأسيس حزب العدالة والتنمية، ودخول هذا الحزب إلى بنية القوة في تركيا، تقريباً دعمت كل الجماعات الدينية الإسلاموية للمرة الأولى حزباً واحداً في ساحة الحكم والسياسة في تركيا؛ ولقاعدة القيادة المركزية لهذا الحزب جذور في حركة الاهتمام القومي التي كانت أيديولوجيتها تحت تأثير الأحكام الدينية النقشبندية، وقد جعل الخلاف والجدال بين حزب العدالة والتنمية وحركة غولن عملية الإسلام السياسي في تركيا تدخل  مرحلة جديدة من أهم نتائجها السعي من أجل ترسيخ القوة والنفوذ الديني في المجتمع المدني وسماء السياسة التركية. ومع أن الاختلافات والتباينات الأيديولوجية موجودة جلياً بين زعماء حزب العدالة والتنمية وحركة غولن، إلا أن الخلاف والجدال بينهما يجب ألا يُتصور في إطار الاختلافات الأيديولوجية، بل إن المنافسة كانت أساساً على رأس السلطة وعدم رغبة أردوغان في تقاسمها مع الزعماء الإسلامويين الآخرين في البلاد، لقد كان ظهور حزب العدالة والتنمية متزامناً مع نهضة القوى السياسية الإسلاموية والاجتماعات الدينية. لقد ملأت هذه الجماعات الدينية على هيئة جمعيات تطوعية الفراغ الموجود في فترة ضعف القوى الكمالية والعلمانية، لكن على عكس كثير من الجمعيات التطوعية في سائر أنحاء العالم، تعمل هذه الجماعات تحت برنامج سياسي قوي يشمل تشكيل المجتمع على أساس أولوياتهم السياسية والمذهبية.

    مع ملاحظة سياسات نشر الإسلام السني في المجتمع التركي العلماني، وسطوة أردوغان الدينية بعد الاستفتاء على الدستور في 16 أبريل 2017، هل تتقدم تركيا نحو الأسلمة؟

    إن البحث عن أسلمة تركيا بمعنى غلبة الإسلام السني بوصفه الهوية والمذهب الرسمي، يحتاج إلى مجموعة من الشروط المسبقة الداخلية والخارجية تكون أهمها التحول الكامل في علاقة الإسلام والعلمانية الوثيقة في المجتمع المدني التركي التعددي. وبعد الاستفتاء على الدستور، فإن تركيا جديدة بتعريف جديد عن الحكومة والسياسة في طور الولادة تختلف مع القواعد الجمهورية الكمالية، لكن هذا لا يعني أن التراث الكمالي واللائيكية قد رحلا عن تركيا، وعلى عكس كثير من وجهات النظر السائدة، إنني لا أعتقد في هذه العبارة أن تركيا ستتحول إلى جمهورية إسلامية. وهذا ما يبدو بعيداً على الأقل في مدة قصيرة. إن الإسلام في تركيا ليس شأناً أيديولوجياً، بل إنه شأن ثقافي وسياسي أكثر، وما زال لم يدخل مرحلة أن يكون باستطاعته أن يُطرح باعتباره الهوية القومية السائدة؛ وبهذا المعنى في الظروف الحالية فإن تعبئة القوى الداخلية مع ملاحظة تعدد أقطاب المجتمع، ليس ممكناً تحت مظلة الإسلاموية، حتى أن كثيراً من الإسلامويين كانوا معارضين لتغيير النظام السياسي.

    إن العلاقة بين أردوغان وأنصاره ليس علاقة روحية بين إمام وأمّة، بل إنها نابعة أكثر من شخصية أردوغان المتدينة. ومن ناحية أخرى، ما زالت العلمانية التقليدية والكمالية في المجتمع المدني التركي تتمتع بقوة كبيرة على الحشد ضد أي انحراف عن الأيديولوجية الحاكمة لهذه الجمهورية. ومهما كانت الكمالية التقليدية على وشك الأفول إلا أن عملية السيطرة الدينية لأردوغان تستطيع أن تتسبب في تقوية العلمانية. وعلى المستوى الخارجي أيضاً يبدي حلفاء تركيا الغربيون التقليديون -ولاسيما أمريكا- حساسية بشأن تلك التطورات في تركيا العلمانية ولن يقفوا مكتوفي الأيدي.


     

    [1] . Sunni-fication

    [2]. Turk-ification

    [3] . Diyanet Işleri Başkanlığı

    المصدر:

    http://peace-ipsc.org/fa