حسين درويش العادلي، باحث وأكاديمي.
“العراق مركز تقاطع للأمم الثلاث (العربية، والإيرانية، والتركية)، وتماسكه يعني تماسكاً لأمم الشرق الأوسط الثلاث، وتفكّكه يعني بالضرورة إعادة رسم للجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها؛ فتقسيمه ممنوع، وبقاؤه دولة قلقة غير ممكن؛ فأنموذج دولة التوازن هو الخيار الأفضل له وللمنطقة بأسرها”.
العراق الجيومجتمعي/السياسي
- العراق هو البلد المرتكز شرق أوسطياً؛ بسبب موقعه الجيومجتمعي/السياسي الرابط بين أمم ثلاث، هي: العربية، والإيرانية، والتركية، فهو الدولة الشرق أوسطية الوحيدة الرابطة جغرافياً، ومجتمعياً، ودينياً، ومذهبياً، وإثنياً بين إيران، وتركيا، والبلاد العربية برابطة التقاء وتداخل وتشابك، ومآله النهائي سيؤثر بنحوٍ مباشرٍ على خارطة تماسك الجغرافيا المجتمعية والسياسية لهذه الأمم الثلاث أو تداعيها؛ فهنا تكمن أهمية العراق تماسكاً أو انهياراً، وهو ما يجب إدراكه وتوظيفه بإدارة العملية السياسية الإقليمية والدولية الدائرة على أرضه.
- إنَّ الدولة العراقية -حالياً- منقسمة على نفسها انقساماً أفقياً كأمّة -إلى أمم فرعية-، وعمودياً كمراكز قوى معبرة عن مكوناتها المجتمعية، مع مركز حكم يسعى للملمة أمة الدولة واحتواء مراكز قوى المجتمع والدولة؛ ليكون معبّراً عنها وحاملاً لها لتجاوز نقطة الانهيار.
- بسبب وضعه الفعلي يشكّل العراق حالياً منخفضاً جيواستراتيجياً بين استراتيجيات الأمم الثلاث المذكورة؛ لذا فهو محط صراعاتها الفعلية. وبسبب تداخل الملفات الإقليمية والدولية فإن العراق -سياسياً واقتصادياً- هو مورد صراع المحاور الدولية المعنية بالمنطقة.
- إن أهم الاستراتيجيات الساعية لضمّ العراق إلى مجالها الحيوي هي: الاستراتيجية الأميركية والأوروبية -مع خصوصية للاستراتيجية الألمانية والفرنسية التي تتمايز في محاورها مع الأميركية في العديد من الملفات-، والاستراتيجية الروسية النشطة في محورها الإقليمي الإيراني-السوري، والاستراتيجية السعودية -والدول العربية السائرة على منوالها-، والاستراتيجية الإيرانية، والاستراتيجية التركية-القطرية، مع خصوصية للاستراتيجية الإسرائيلية-القطرية التي تعتمد إعادة رسم خارطة المنطقة على المستوى المجتمعي السياسي. وقد تقترب أو تبتعد أو تتغيّر أجندة هذه الاستراتيجيات حسب تعقيد الملفات وحركة المصالح المستجدة هنا وهناك.
- الاستراتيجيات الإقليمية والدولية متماهية مع الداخل العراقي؛ بسبب تداخل الجغرافيا المجتمعية، والاشتراك بخارطة الثروات، وبتقاطع ممرّ مصالح القارات على أرضه، ويترجم هذا التداخل بتبني العديد من قوى الدولة رؤى هذه الاستراتيجيات وأجنداتها في فعل الدولة العراقية وتموضعاتها، والعكس صحيح.
عوامل أزمة العراق الراهنة
هناك أربعة عوامل تتضافر لإنتاج أزمة العراق الراهنة:
- التركة الكارثية للنظام الصدامي المباد على مختلف الصعد التي حطمت جميع البنى اللازمة لإجراء التحوّلات النوعية لأنساق المجتمع والدولة، وصعّبت جميع محاولات النهوض بالتغيير.
- فشل العملية السياسية الحالية بإنتاج دولة ناجحة؛ بسبب إخفاق نخب التأسيس، وتعارض الرؤى، واختلاف السياسات، وتضارب الأجندات داخل العملية السياسية عينها. إذ إنّ جوهر انتكاس العملية السياسية يتمثّل بالنظام التوافقي العرقطائفي الحزبي المحاصصي الذي تم اعتماده لبناء الدولة؛ وهو نظام يؤدي -على وفق الاشتراطات الحالية- إلى قيام نظام الدويلات العرقية والطائفية المتناحرة (الأنموذج اللبناني)، أو تتعارض لتتماسك بوحدة شكلية (الأنموذج اليوغسلافي)، أو تضعف لتنهار (الأنموذج الصومالي).
- الفعل النوعي المضاد لمعظم دول الإقليم لاحتواء التغيير في العراق وإجهاضه من خلال سياسة: المقاطعة السياسية، والإرهاب المنظم، والإعلام المضاد، والاحتواء السلبي.
- صراع استراتيجيات الاحتواء والتوجيه والتوظيف الإقليمية والدولية الذي أنتج استقطاباً وصراعاً حاداً على أنموذج الدولة العراقية المراد إنتاجها بعد 2003.
النماذج الثلاثة للدولة العراقية
هناك ثلاثة نماذج مفترضة للدولة العراقية كناتج عن الصراعات الحالية هي: (دولة اللا أنموذج، ودولة الانحياز، ودولة التوازن الاستراتيجي)، ويتوقّف وجود أحدها على نتائج الصراع العراقي-العراقي، وعلى احتكاك الاستراتيجيات الإقليمية والدولية وتصادمها أو تفاهمها، وهذه النماذج هي:
- أنموذج الدولة القلقة: وهو أنموذج الدولة العراقية الحالية بعد التغيير 2003، وأعني به أنموذج غياب شكل الدولة، وفشل انتظام سياقاتها، ومؤسساتها، ووحدتها المعيارية، فهو أنموذج التعايش الهش المهدد كل لحظة بالعودة للمربع الأول، وأنموذج انقسام (الأمة/الدولة) على نفسها، وأنموذج الفساد والفشل الاقتصادي، والتداخل والتدخل والاستلاب الإقليمي والدولي، والتدويل الدائم النافي للسيادة، وتفريغ شحنات التصادم لاستراتيجيات المنطقة المتصارعة، وأنموذج تمرير الأجندات الدولية لخلق أوضاع كونية جديدة، وأنموذج امتصاص الأزمات وتصفية الحسابات، وغير ذلك. وهو أقرب إلى الأنموذج اللبناني، ولا يمكن له الصمود كثيراً؛ بسبب موقع العراق الجيومجتمعي والجيوسياسي، وبسبب شدة تعارض الاستراتيجيات واستقطاباتها.
- أنموذج دولة الانحياز: وهو أنموذج وقوع الدولة العراقية في المجال الحيوي لإحدى الاستراتيجيات، كأن تكون (منحازة عربياً)؛ لتكون (بوابة شرقية) جديدة ضدَّ المحور الإيراني، أو تكون (منحازة إيرانياً) لتكون موقعاً إيرانياً متقدماً ضد المحور العربي، أو تكون (منحازة أميركياً) لتكون محطة متقدمة للسياسة الأميركية في المنطقة، وسوى ذلك؛ فيعدُّ أنموذج الانحياز أنموذجاً انتحارياً يؤدي إلى إعادة إنتاج أزمات العراق والمنطقة.
- أنموذج دولة التوازن الفعّال: وهو أنموذج الدولة العراقية المتوازنة داخلياً والمؤدية دور التوازن الإقليمي والدولي بما يؤهّل العراق ليكون قوة استرتيجية حقيقية متوازنة، وموازنة للاستراتيجيات الإقليمية الكبرى؛ فيحول دون تصادمها الوجودي ويخلق استقراراً استرتيجياً شرق أوسطياً.
إنّ التوازن الفعّال يعني “دولة عراقية قوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قادرة على حفظ التوازن الإيجابي بين استراتيجيات المنطقة”، وهو الأنموذج الأفضل للعراق والمنطقة، فبقاء العراق ضعيفاً سيقود -لا محالة- إلى تصادم وجودي بين الاستراتيجيات الكبرى، وتشتته سيؤدي إلى إعادة رسم للخارطة السياسية الإقليمية لأغلب دول المنطقة.
- ملحوظة (1): إن خيار الحياد غير ممكن في ظلِّ الضعف النوعي الذي يعيشه العراق، وفي ظل (تغوّل) المجال الحيوي للاستراتيجيات الإقليمية، وثقل الصراع الدولي على منطقة الشرق الأوسط. إنَّ اشتراطات الواقع الفعلي سيقضي على إمكانية ممارسة سياسة الحياد، فالحديث عنه لا يمكن أن يتم إلاّ بعد تماسك الدولة، وخلق كينونتها الذاتية، وتخليق هويتها ومصالحها المعبرة عن أمتها الموحدة، ويتطلب خيار الحياد الإيجابي ضمناً قوة الدولة على فرض سياستها، فيجب ألاّ ننسى أن الخيارات بين الدول إنما يتم فرضها من خلال قوة الدولة نفسها.
- ملحوظة (2): إن خيار تقسيم العراق مستبعد، فالتقسيم الناجز غير مسموح به إقليمياً ودولياً على وفق البنية الحالية للخارطة السياسية للمنطقة، وهذا الأمر لا يتّصل بتطلعات قومية أو طائفية عراقية بقدر تعلُّقه بالعامل الإقليمي-الدولي، فتقسيم العراق يعني -بالضرورة- تقسيم الأمم السيادية الثلاث (العربية، والإيرانية، والتركية)؛ وهذا يعني إنتاج خارطة سياسية جديدة للمنطقة والعالم، وهذان لا يستطيعان هضم هكذا تحوّل وتداعياته.
العراق البلد المرتكز شرق أوسطياً
لا يمكن كسب أنموذج العراق المتوازن والموازي من دون ملاحظة العوامل الآتية:
- العراق مركز تقاطع للأمم الشرق أوسطية الثلاث (العربية، والإيرانية، والتركية)، ويعدُّ المركز الأمني الاستراتيجي سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً، فانهياره أو وحدته، وقوته أو ضعفه، سيحدد مصير المنطقة بأسرها، فهو مركز الثقل ونقطة التوازن بين الأمم الثلاث.
- العراق حجز الزاوية لمعادلات نقطة التوازن ومصالح دول الشرق الأوسط، وأي إضعاف أو تقسيم له سيجر هذه الأمم والشعوب إلى صراعات كبرى، وسنشهد جغرافيا سياسية جديدة لا يستطيع العالم التعامل مع استحقاقاتها، وأي استقرار بالمنطقة يستوجب خلق عراق التوازن الاستراتيجي الموازن للاستراتيجيات الثلاث، والحائل دون تصادمها (المميت).
- إن عراق التوازن الاستراتيجي هو: أنموذج الدولة العراقية المتزنة داخلياً والمؤدية دور التوازن الإقليمي والدولي الفعّال؛ بما يؤهل العراق ليكون قوة استرتيجية حقيقية مسالمة، وموازنة، ومتوازنة.
- إن عراق اليوم مصاب بضعف بنيوي كبير، سببه فشل أنموذج الدولة العراقية الحديثة بالإدارة والحكم، واعتمادها سياسة المحاور الإقليمية الذي ترجمته نظرية البوابة الشرقية؛ بسبب نظرية حكم الأحزاب، ونظام المحاصصة الطائفي العرقي المتماهي مع استراتيجيات المنطقة التي تحاول ضمها إلى فضائها الاستراتيجي أو خلق محميات تابعة لها للدفاع عن مصالح استراتيجيات دول المنطقة.
- إن استقرار المنطقة مرهون باستقرار العراق، وأي انحياز للعراق صوب الاستراتيجيات الإقليمية سيمزقه ويمزّق المنطقة، وإنَّ استقرار العراق والمنطقة يتطلّب خلق عراق التوازن الاستراتيجي، وهذا الأنموذج يحتاج إلى إعادة نظر بسياساته وإدارته، مع الحفاظ على تجربته الديمقراطية ومؤسساته الدستورية فالعراق اليوم يحتاج إلى نظرية الدولة/الرمز المتمثلة بنواة صلبة للحكم تُضبِطُ إيقاع الدولة وفعلها وواجباتها. إنَّ سلب المجتمع القوة من الحكم، وابتلاع الأحزاب للدولة، والصراع التنافسي الوجودي بين قوى ومكونات الدولة، واستخدام العنف والإرهاب كأداة سياسية، والترهُّل والفساد والاستلاب، وغير ذلك، كلُّها عوامل أوصلت الدولة إلى ما هي عليه؛ فالمطلب الموضوعي يقول بضرورة اعتماد سياسة القوة المتنامية لإعادة عربة الدولة إلى السكة. وتتجلى هذه القوة المتنامية بمشروع حكم عادل وحاسم يتّسم بإصلاحات جريئة، ومغامرة محسوبة، وسياسة تعدُّد محاور المواجهة والضبط، وسياسة التوازن السياسي المرن، والابتعاد المحسوب عن صراع الكتل والأحزاب، والبلورة المدروسة لرمزية الدولة الحاكمة وهيبتها وسيادتها.
خلق عراق التوازن الاستراتيجي
لخلق عراق التوازن الاستراتيجي نحتاج إلى:
- تمركز وبلورة وفاعلية للنواة الصلبة للحكم من خلال مشروع الدولة (الرمز) على حساب فاعلية مشروع الحكم (الأحزاب)؛ لضمان وحدة الدولة وقوة سلطاتها ومؤسساتها، بما في ذلك إعادة هيكلة فاعلة ومنضبطة للقوى العسكرية والأمنية والسلاح، وإعادة الهيبة للدولة، وتعزيز سيادة القانون، وفرض خطط أمنية حازمة للمدن، وخطوات جريئة لضرب الفساد.
- مصالحة تأريخية سياسية مجتمعية عراقية تضمن إنهاء التضاد القومي والطائفي والإثني الذي شتت الدولة، وتضمن أيضاً مستوى مقبولاً من الوحدة الوطنية للدولة وسلطاتها، بما يضمن العدالة والمصالح لجميع العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم وإثناياتهم.
- استمرار الإصلاحات الجذرية والشاملة والحاسمة لجميع بنى الدولة الإدارية والاقتصادية والتعليمية والتنموية، على وفق قواعد الحكم الرشيد، وتقوية الشراكة مع القطاع الخاص.
- اعتماد سياسة تخادُم المصالح وتؤمّن الاحتواء الإيجابي للمحاور الإقليمية وبما يولّد تفهماً إقليمياً ودولياً بأنَّ عراقاً موحداً وقوياً ومسالماً سيحفظ المصالح والتوازنات الإيجابية في المنطقة، ويحول دون التصادم المميت بين الاستراتيجيات المتصارعة.
- فكُّ الارتباط بملفات المنطقة قدر الممكن؛ فهذا الأمر يؤمّن عدم التماهي بالجبهات الجيوطائفية، ويسهّل إدارة الأنموذج العراقي، وتحقيق مصالحه بعيداً عن التأثر المباشر بملفات المنطقة المعقّدة.
- خارطة طريق واضحة لحماية أنموذج عراق التوازن الاستراتيجي من التدمير الذاتي، أو الافتراس الخارجي؛ لحين وقوف مشروع الدولة على قدميه.