د. إبراهيم رومينا، أستاذ الجغرافيا السياسية، ومتخصص في القضايا الجيوسياسية في جامعة “تربيت مدرس” الإيرانية.
يواجه الحُلم الكردي في تأسيس حكومةٍ كردستانية مستقلّة تحديات إقليمية ودولية، ويبدو أن هذا الحُلم سيبقى محدوداً بعملية الاستفتاء الأخيرة، وستضطرّ القيادة الكردية لتأجيله إلى وقتٍ آخَر.
إنّ عملية الاستفتاء التي أجرتها حكومة إقليم كردستان في شهر أيلول الماضي هي دليل على التعقيدات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وتدلّ على ابتعاد الأكراد عن تحقيق حُلُمهم في تأسيس الدولة الكردية، وأنّ هذا التعقيد ناتج عن طبيعة الواقع الجغرافي من جانب، ومن جانبٍ آخَر عن عدم انسجام المطالب والمصالح السياسية لدى الدوّل المؤثّرة والمتأثّرة من استقلال كردستان. ويتناول هذا المقال التعقيدات الجيوسياسية المرتبطة بمحاولة تشكيل الدولة الكردية المستقلة في شمال العراق، وإنّ التحديّات والعوائق التي تواجهها الدول الإقليمية والأنظمة السياسية الأخرى بإزاء هذا الاستقلال يتمّ تناولها في مقالٍ آخَر.
1- على الرغم من أنّ النظام السياسي العراقي مبنيّ على دستورٍ يتبنّى الفدرالية، ولكن بالنظر لهيكلية السلطة ولآلية ممارستها في كردستان العراق، ولعلاقتها مع الدولة المركزية فهي عابرة للفدرالية، وإنّ هذا الجزء من الأراضي العراقية يمتاز بنوعٍ من الاستقلالية يختلف عن الأنظمة الفدرالية؛ مما جعل النشاطات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية في هذا الجزء من العراق تمتاز بحريّة أكبر، وفي حال تشكيل حكومة كردية مستقلة فلن يحدث تغيير جذري في الحياة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية لدى الأكراد. فضلاً عن أن هناك أجزاءً من هيكلية الحكومة العراقية الحالية كمنصب رئاسة الجمهورية وبعض الحقائب الوزارية الحساسة والمهمة هي تحت تصرّف الأكراد، وأن استقلال العراق يعني حرمان المكوّن الكردي من هذه المناصب والامتيازات.
2- على الرغم من أنّ دور القوى العالمية مهمّ جدّاً في استقلال الدول الصغيرة، ولكن استقلال كردستان وطريق تحقيق الحلم الكردي يمرّ من طهران وأنقرة وبغداد، وليس من واشنطن، فهذا الأمر هو واقع جيوسياسي مفروض على الأكراد بما فيه من صعود ونزول وعوائق دائمية، وجعلهم أن يبنوا علاقات جيّدة إلى حدِّ ما مع هذه الحكومات المجاورة، وفيما لو استمرّ الأكراد بإصرارهم على النزعة الانفصالية ستتحالف هذه الأنظمة السياسية الثلاثة لمواجهة الأكراد؛ وهذه هي واقعية جيوسياسية متبلورة في مواقف هذه الدول بإزاء الاستفتاء الأخير، وقد تجلّت للعيان مع إجراء عملية الاستفتاء.
3- إن نسبة احتمال تحقيق الحُلم الكردي في الظروف المتأزمة الراهنة هي أكثر من الظروف المستتبة، فعدم الاستقرار في الوضع الجيوسياسي في جنوب غرب آسيا -وتحديداً في العراق- يكشف عن فجوة في السلطة، ومن شأنها أن تحقق الحلم الكردي. ولكن هذا الوضع مختلف فيما يتعلّق بإيران وتركيا، فكِلا البلدين يمرّان في ذروة قوّتهما الإقليمية. فإيران أشبه ما تكون بطائر العنقاء، تؤدي دوراً بارزاً ورئيساً في مجريات المنطقة، وقد عجزت القوى العالمية عن تحجيم هذا المدّ والنهوض الإيراني، وإن سائر القوى الإقليمية كالسعودية وإسرائيل على الرغم من اتخاذ كلّ الجهود ولكنّها عجزت حتّى الآن عن التصدّي للدور الإيراني. ومن جانبٍ آخَر نجد تركيا قد تبوأت مكانة اقتصادية وسياسية إقليمية وعالمية لا بديل لها؛ مما تجعل أيّ محاولة من الأكراد تواجه عائقاً كبيراً. فضلاً عن أنّ محور الدول العربية في المنطقة ينظر بتشاؤم للنزعة الانفصالية الكردية؛ مما جعل استحالة بلورة موقف متفائل لتشكيل كردستان مستقلة. أمّا الحكومة العراقية فهي الآن تمرّ بأعلى مستويات القوّة منذ سقوط نظام صدّام حسين، وتتمتع بقوّة عسكرية وشبه عسكرية (الحشد الشعبي) متميزة ومشحونة بالقوّة والحماس على أعقاب انتصارها على تنظيم داعش، وإنّ هذه المعنويات والقوّة العسكرية كلّها تحت تصرف الحكومة العراقية التي تستطيع تعزيزها بقوى إقليمية ودولية لمجابهة الأكراد.
4- إنّ السجن الجغرافي الذي يحيط بأكراد العراق هو واقع آخر، وهو بدوره يشكّل عائقاً أمام إنشاء دولة كردية مستقلة، فكردستان العراق تعجز عن أن تكون سويسرا الشرق الأوسط، وإن دول المنطقة لا تنسجم مع مثل هذا الواقع، وحتّى إمكانيات أكراد العراق الراهنة لا توفّر لهم مثل هذه الفرصة؛ وإنّ ردود الأفعال الإقليمية هي خير دليل هذا الواقع.
5- إنّ كلّ دول المنطقة والعالم (باستثناء إسرائيل) هي ضدّ إجراء الاستفتاء. وقد تبيّن الهدف الإسرائيلي من تأييد الاستفتاء في خطاب نتانياهو الأخير، إذ تحدّث عن إيجاد دولة معتدلة كردية بإزاء سائر دول المنطقة، بمعنى آخر لم يكن الهدف من أجل حصول الأكراد على دولةٍ مستقلة في الأوساط الدولية، إذ أن كردستان العراق – بحسب الرؤية الإسرائيلية- ستكون مصدّاً وستجلب قوّات داعش.
6- إن الاعتراف هو الشرط الأساس في تشكيل أيّة دولة مستقلة في العالم، لكن مجرد اعتراف إسرائيل بكردستان العراق لا يكفي، ولا يحقق اعترافاً دولياً.
7- إن كردستان المستقلة طوال القرن الماضي كانت تمثّل الحلم الكردي في الشرق الأوسط، ولكن تجربة الأكراد في إيران وتركيا وسوريا خلال العقود الأخيرة غيّر كثيراً في طبيعة هذا الحلم؛ إذ أصبح هؤلاء منسجمين مع الواقع الراهن، وباتوا يبحثون في دولهم عن حقوقٍ متناسبة ومتلائمة مع مكانتهم وحجمهم بحسب تكوينهم الاجتماعي والسكّاني.
8- إن كردستان العراق تتدرب على الديمقراطية، وإن تحقيق أهداف الديمقراطية تحتاج إلى وقتٍ طويل، ومن جانبٍ آخَر فإنّ البُنية القومية والطائفية في هذا الجزء من العراق قويّة ومؤثّرة، وإنّ الأحزاب والمكونات السياسية بصفتها الطرف الرئيس في مجمل العملية الديمقراطية في كردستان العراق هي أضعف من أنْ تمارس دوراً سياسياً ذا معنى، فقد شهدنا الأطراف الحزبية في السنوات الأخيرة على الرغم من فوزها في الانتخابات المحليّة ولكنّها عجزت عن مجاراة العناصر القومية والطائفية.
9- إنّ العصب الاقتصادي في كردستان العراق يعتمد على النفط. بعبارةٍ أخرى إن الميزة الاقتصادية التي تتمتع بها كردستان هي ميزة النفط، إذ إنّ عائدات بيع النفط أدّت إلى تنمية نسبية في كردستان العراق. ولكن في حال الإصرار على المضيّ بالنزعة الانفصالية فقد تتضاءل قوّة تصدير النفط لدى كردستان، وتصل لأدنى مستوياتها؛ وبالتالي ستواجه الحياة الاقتصادية في إقليم كردستان خطراً كبيراً، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخَر فإن الأنظمة الاقتصادية والشركات النفطية الفاعلة في هذه المنطقة ستتصدع في حال بروز أيّ أزمة أو معضلة، وإن هذه الشركات نفسها تعمل على الحدّ من النزعة الانفصالية.
10- إن لكردستان العراق في الوقت الحاضر علاقات اقتصادية واسعة من نظامَين سياسيَين مجاورَين (أي تركيا وإيران)، حتّى أصبحت الحياة الاقتصادية لدى المواطنين الكرد في شمال العراق مرتبطة بالموقف الاقتصادي لدى إيران وتركيا. وإنّ أيّ حراكٍ سياسيّ من نوع الانفصال والاستقلال قد لا يتحدد مصيره برفض هاتين الدولتين فحسب، بل إنّهما ستقفان مع الحكومة المركزية في بغداد لممارسة الضغط على القطّاع الاقتصادي في المناطق الكردية، وستُرسَم نتائج اقتصادية معقّدة وغامضة من شأنها أن تضعّف المكانة الكردية الحالية العابرة للفدرالية.
11- ثمّة خلاف وتوتّر بين كردستان والحكومة المركزية على صعيد ممارسة السلطة، ولاسيما فيما يتعلّق بقضيّة كركوك والمحافظات ذات المكوّن الكردي في المحافظات الواقعة جنوب كردستان وغربها. وفي حال نجاح عملية الاستقلال ستكون هذه المناطق محلّ نزاع وخلاف دائم بين كردستان والعراق.
12- إن دولة مثل كردستان -المكوّنة من كلّ أكراد المنطقة- قد تتمتع بميزات اقتصادية وجيوسياسية مثل طرق النقل البرّي والسيطرة على مسارات الأنهر (التحكّم بدبلوماسية الماء)، ولكن إنشاء دولة كردستان في شمال العراق من دون سائر أكراد المنطقة يفتقر لهذه الميزة الجيوسياسية، وستكون مجرّد مسرحٍ للتعريف بالمكانة القومية والعرقية لأكراد العراق، ولكن هذه المكانة ستجلب عدة عوائق وأزمات جيوسياسية مستمرة لأكراد العراق ولسائر أكراد المنطقة.
إنّ المحاور المذكورة آنفاً تشير إلى أنّ الحلم الكردي لتأسيس دولة كردستان ترافقه في الوقت الراهن عوائق إقليمية ودولية؛ مما تجعله يبقى في حدّ الاستفتاء، وتفرض على القادة الكرد في شمال العراق تأجيل هذا المطلب لزمانٍ آخَر.
المصدر: