الباحث والأكاديمي أحمد الجعفري، إدارة وسياسة تربوية – جامعة بافلو – أميركا
حين تحليل مسارات الحياة المهنية للتعليم العالي في كوريا الجنوبية، وأمريكا، وألمانيا، وسنغافورة، واليابان، وبريطانيا، وأستراليا، يتجلى واضحاً أن تلك الدول استجابت إلى فلسفة قدمت قدراً أوفر من المرتكزات التي ساهمت في تصميم هياكل التعليم العالي، وتوجهاته، وسياساته، وإدارته، ووظائفه العلمية والمعرفية، فضلاً عن تفعيل نظام المحاسبة، والرقابة الخارجية، والشفافية، وتحفيز البحث العلمي؛ مما جعلها دولاً منتجة للمعرفة العلمية، والإبداع، والابتكار، والريادة؛ لكن السؤال الأهم هو: كيف حصل كل ذلك؟
تأتي الإجابة من مفهوم الحوكمة الذي يعدُّ منطقاً مهماً وحاسماً في إنتاج تعليم عالٍ فعالٍ ومتماسكٍ وقويّ؛ فقد جاهدت هذه الدول من أجل تفكيك الحوكمة الكلاسيكية لتحلَّ محلَها بنحوٍ أساسٍ أنماطٌ جديدةٌ من الحوكمة على رأسها نظام لا مركزي ساهم في تطور نظم التعليم العالي، وجعلها متميزة. وشأنه شأن عدد من مؤسسات التعليم العالي فهو يتعيّن النظر في إعادة تشكيل التعليم العالي في العراق من عدة زوايا وعلى رأسها الحوكمة؛ لأن في ظل الواقع الحالي للتعليم العالي في العراق فلا يمكن أن يتطور البلد ولاسيما في اتباع نظام مركزي تأسس في سبعينيات القرن الماضي يعتمد على تراكم السلطات، والقرارات في المراكز العليا من الإدارة. ومن خلال اطلاعي على نظُم تعليم عالمية، أرى أن إعادة هيكلة النظام التعليم العالي في العراق على وفق التشكيل الآتي قد يحقق التميُّز ويفكك المهام التقليدية، وسيوفر حراكاً مهماً لتطوير مؤسسات التعليم العالي ومخرجاتها؛ وبالتأكيد أن ذلك سينعكس على تطور المجتمع واقتصاد الدولة.
مجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية
يعمل هذا المجلس على رسم الرؤى، والتوجهّات، والبرامج، ووضع الآليات، والترتيبات اللازمة؛ لتحقيق الرؤية والأهداف، ووضع برامج وتصورات تساهم في تنظيم قطاع اعتاد أن يكون محلياً، ومن ثم العمل على نقله إلى العالمية. ويعمل هذا المجلس على تعزيز مفهوم الجدارة، والاستحقاق، والريادة، والابتكار، والتوجه نحو الأفضل بما يتناسب مع الانسجام والتكامل مع الجامعات، وإزالة العوائق، والصعوبات اللتين تؤثران على تحقيق كل ما هو متعلق بذلك. أما مالياً فيتولى هذا المجلس وضع آليات اعتماد تمويل البرامج والمبادرات وتحديثها، وإعداد الآليات التفصيلية التي يتم من خلالها اعتماد المتطلبات المالية للبرامج والمبادرات وتحديثها أيضا؛ ولتحقيق ذلك لا بدَّ من الارتكاز إلى مرحلتين جوهريتين أساسيتين ترتكز كل منهما إلى الأخرى، الأولى: مرحلة تحديد الرؤى ووضع التصورات ورسم الاستراتيجيات، والثانية -وهي المهمة جداً-: هي مرحلة تحويل الرؤى والتصورات والاستراتيجيات إلى برامج تنفيذية على وفق مراحل وخطوات عملية، يكون لها أثر ملموس على أرض الواقع، ويشترك في عضوية المجلس خبراء من داخل العراق وخارجه متخصصون في شؤون التربية والتعليم، وليس لهم أي ارتباط مباشر وغير مباشر بالجامعات، ومن أمثلة المراكز الاستراتيجية: لجنة الاتحاد للتخطيط التربوي والبحث العلمي في ألمانيا، ومكتب التربية والتعليم في البيت الأبيض.
تشكيل اتحاد الجامعات
لا يعني اتحادُ الجامعات العملَ في ظل تشابه الأنظمة الإدارية في الجامعات، بل هو إعطاء الاستقلالية للجامعات والعمل ضمن أنظمة مختلفة تساهم في تحقيق الأهداف ولكنها تنخرط ضمن اتحاد أو مجلس للجامعات. وإن وظيفة اتحاد الجامعات هو تنفيذ الخطط الاستراتيجية التي يضعها مجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية ولكن بطرق تناسب إمكانية الجامعة وثقافتها. وهناك وظيفة أخرى لمجلس الجامعات هي أن يقوم بعملية التنسيق بين الجامعات، وتبادل الخبرات؛ ومن أجل تشخيص المعوقات التي تواجه الإجراءات التنفيذية والعمل على حلها. وإن هذا المجلس سيساعد الجامعات المستحدثة والجامعات ذوات الأداء الضعيف على الاستفادة من خبرات الجامعات العريقة ذوات الأداء المتميّز، وفضلاً عن ذلك سيقوم المجلس برفع التقارير إلى مجلس السياسات الاستراتيجية عن معوقات تطبيق الخطط الاستراتيجية، وسيمنع التدخلات السياسية في عمل الجامعات وذلك من خلال استقلاله عن السلطة المباشرة لوزارة التعليم العالي.
إن هذا النظام المذكور آنفاً معمول به في أمريكا؛ فيوجد اتحاد جامعات ولاية نيويورك، واتحاد جامعات ولاية أريزونا، وغير ذلك من الاتحادات. فمجلس الجامعات لا يعني استخدام أسلوب إدارة واحد لكل الجامعات كما هو معمول به حالياً أو استخدام أسلوب “القطاعية” من أجل الوصول إلى الهدف، فجامعتا هارفرد وبرنستون دائماً ما تتنافسان على المركز الأول عالميا، ولكنْ كلٌّ منهما تعمل في أسلوب إدارة مختلف؛ إذ إن المهم هو الوصول إلى النتيجة نفسها باستخدام أكثر من طريقة مختلفة.
تشكيل هيئة وطنية للاعتماد الأكاديمي والجودة والتقويم
لم يعد مقبولاً لدى أرباب العمل والمستفيدين أن يكون تعليم ما بلا مراقب خارجي (external oversight)؛ لذلك سارعت غالبية الدول ومنذ عقود خلت بتأسيس هيئات مستقلة مهمتها مراقبة أداء الجامعات والتأكد من أنها تؤدي المهام الموكلة إليها، ولكنْ من الغرابة أن نرى أن التعليم العالي العراقي هو الوحيد من بين نظُم التعليم الذي ما يزال بلا مراقب خارجي؛ وعليه فلا بدُّ من تشكيل هيئة للاعتمادية والجودة على أن تكون هذه الهيئة مستقلة مالياً وإدارياً عن بقية مفاصل التعليم العالي، ويكون لها إشراف واسع النطاق على جميع جامعات العراق، وتتولى هذه الهيئة دراسة واقع الجامعات العراقية وتحليله وتقييمه على وفق معايير الاعتماد الأكاديمي، فضلاً عن تشخيص العوائق والمشكلات التي تواجه تنفيذ الاستراتيجيات والبرامج والمشروعات المحققة للأداء الأفضل، فتقوم الهيئة بمراقبة مؤشرات الأداء ومن ثم الإشراف والمتابعة المستمرة للجامعات، ومراقبة مدى تحقيقها لأهدافها. إن هيئة الاعتماد الأكاديمي ستكون الذراع الداعمة لمجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية في عمله مع الجامعات؛ لغرض تحقيق الرؤية والتوجهات، ومن خلال تقديم الدعم في مراقبة الجامعات وإنجازها وتنفيذها لأعمالها طبقاً لمعايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، وبكل تأكيد أن الهيئة ستوفر المعلومات اللازمة من بيانات وإحصاءات ودراسات إلى مؤسسات التعليم العالي عن مدى نجاح الخطط الموضوعة والبرامج التنفيذية، وأنها ستكون نافذة مهمة لتوجيه الأفراد نحو مصادر المعلومات التي ستساعدهم في التفريق بين الجامعات الرصينة والتي تقدم درجات علمية من أجل المال.
هيئة البحث العلمي
إن البحث العلمي في العراق غير واضح المعالم والتوجهات؛ وربما يعود السبب في ذلك إلى هو عدم وجود مرجعية واضحة تعمل على توجيه بوصلة البحث العلمي على العكس من كثير من الدول التي توجد فيها هيئات بحثية حكومية وغير حكومية؛ وللنهوض بالبحث العلمي نحتاج إلى تشكيل هيئة مستقلة للبحث العلمي والابتكار وتعمل على دعم البحث العلمي ورعايته في الجامعات وتعمل الهيئة أيضاً على دعم الابتكارات العلمية وتشجيعها كجزء مكمل لمنظومة البحث العلمي، وتعمل على توفير تمويل البحوث العلمية وتوجيه الطاقات البحثية بالجامعات والمراكز والمعاهد البحثية لخدمة متطلبات التنمية الوطنية، وتعمل الهيئة على تأسيس علاقة تربط الجامعات بقطعات الصناعة والاقتصاد والمجتمع. ويمكن لهذه الهيئة أن تعمل على إنتاج برامج دراسية وتدريبية للباحثين وذلك في إطار برامج بحثية علمية مختلفة (post doctorate) في مناخ بحث علمي متميز، ويمكنها أن تكون تخصصية وذلك من خلال إدراج تخصصات بحثية بمسميات مختلفة كالطب، والعلوم، والتربية، والاقتصاد، وغيرها.
إن اتباع هذا الهيكل التنظيمي المذكور سيساهم في توحيد الجهود عن طريق وضوح الأهداف، ومشاركة جميع المؤسسات في تحقيق الأهداف، وكذلك سيركز على الإنجاز وذلك من خلال تقسيمات العمل، ومن خلال اللا مركزية في جميع مستويات العمل، والعمل على تهيئة البيئة الإبداعية والابتكارية المناسبة؛ فالرقي بمستوى التنظيم مطلب أولي لإصلاح التعليم وتلك غاية عظمى لا تقبل الانشغال بغيرها؛ وعليه لا بدَّ من صناعة هيكل تنظيمي جديد للتعليم العالي يناسب المتغيّرات المعرفية، والاجتماعية، والاقتصادية للدولة.