سيد جواد طاهايي، مركز تحقيقات استراتيجيك مجمع تشخيص مصلحة نظام.
المقدمة
هل إن دولة قطر مرغمة على تغيير مسارها بسبب الضغوط الحالية؟ وما الهدف الأساس لإيران قبال قطر في ظل هذه الظروف؟ وما المطلب الأساس الذي تريده قطر من إيران؟ ونظراً للمطلب الرئيس الذي تريده السعودية من قطر المتضمن لقطع علاقتها مع إيران وسائر البنود المرتبطة بإيران، وقطع علاقاتها مع الإخوان المسلمين، وإغلاق قناة الجزيرة، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية، فكيف يمكن تحليل هذه المطالب السعودية في قالب واحد؟
ما زالت قطر تتقدم في سياستها المستقلة أمام دول مجلس التعاون الخليجي التي على رأسها السعودية، وكانت إحدى الأدوات المهمة في تحقيق هذه السياسة هي توسعة نفوذ هذه الدولة وقدرتها على التأثير في المراكز المتأزمة في المنطقة فضلاً عن المراكز غير المتأزمة، كاقتصاد البلدان الأوروبية ورياضتها، فمثلاً قد خاضت قطر بمعزلٍ عن حلفائها حرباً بالنيابة متفردةً بها في منطقة الشرق الأوسط المتوترة، فكان تشكيل الجماعات الأصولية وتجهيزها من مكوناتها الثابتة، ومع ذلك فكان أساس هذه السياسة هو فتح قنواتها على جميع الأطراف، وبعبارةٍ أخرى: أن هذه السياسة تتطلب الانفتاح بالعلاقات على جميع أنحاء العالم بغض النظر عن وجود فجوة الاختلافات المؤدية إلى التعارض، ففي هذه الطريقة المهمة تكون العلاقات القائمة بالنسبة إلى قطر أهم من عواقبها؛ فمن أمريكا إلى تركيا ومن إيران إلى القاعدة وطالبان ومن الإخوان المسلمين وحماس إلى إسرائيل، ومن هنا مدّت هذه المقاطعة الخليجية وشائج علاقاتها إلى جميع الأطراف دون الاكتراث بالحزازيات التي تحملها هذه الأطراف فيما بينها، ولم تَحد قطر بعلاقاتها مع إيران عن هذا المنوال، فالأصل لدى الدوحة هو البحث عن إقامة علاقات على نطاق واسع، سواء أكانت إفرازاتها ضد إيران أم لصالحها، ولكن يُستشعر في الآونة الأخيرة أن الطرف الثاني لهذه النظرة أرجح نسبياً من الطرف الأول وهذا بعينه يربك الرياض ويقلقها، فهنا لا بدّ أن تُكتشف حقيقة الدوران في هذا الميدان الواسع.
ويبدو بشكل عامٍ أن قطر تهدف من إقامة العلاقات في كل مكان -سواء أكانت مع الحكومات أم مع غيرها- إلى المساعدة على جعل الشرق الأوسط أكثر استقراراً من الناحية الاقتصادية لا السياسية-الدينية، وكانت قطر تستفيد في هذا المسار من الإخوان المسلمين والسلفيين استفادة سيئة لأجل تحقيق أهداف مستحدثة غير دينية، ويعدُّ هذا المنحى من الأمور المتناقضة، فإذا كان بهذا النحو فلا يكون هدف قطر من توسعة علاقاتها في كل مكان ومع أية جهة من الجهات إلا لأجل المساعدة على استقرار شرق أوسط علماني متسامح.
وتجعل هذه الفرضية أو القالب التحليلي كل التطورات المرتبطة بالأزمة الأخيرة ذات مغزى وليست اعتباطية، فمن الممكن تصوّر أنّ هدف قطر من تعاونها مع تركيا للإطاحة ببشار الأسد لم يخرج عن محيط هذا المسار أيضاً، أعني مسار استقرار سوريا موالية للغرب ومجردة عن الحساسية السياسية، وأمّا أن سقوط بشار الأسد يسبب ضعف إيران وتعزيز الكيان الصهيوني أم لا فلم يكن في لائحة أهداف قطر المبكرة، والدليل على ذلك هو أنه لو كان من أهدافها لما حصلت الأزمة الحالية في علاقاتها مع السعودية واستمرت قطر ببقائها في التحالف الغربي والمستوى السابق نفسه، ولعل قطر كانت مغترة بثروتها فترى أن شرف مهمة التجديد السياسي الاجتماعي في كل منطقة الشرق الأوسط يرجع إليها، وكانت جهود الدوحة للتدخل بانتفاضات الربيع العربي وتوجيهها في موازاة هذه الرسالة التي يمكن ملاحظة آثارها بنحوٍ واضح في ليبيا وسوريا ومصر، فدولة قطر كانت قوة محركة مهمة لانتفاضات الربيع العربي.
إن الإرادة السياسية لحكام قطر واضحة، فلا تريد هذه الدولة أن تكون إمارة صغيرة فتحتقر ويستهزأ بها كالحكومات السعودية السابقة قبل التطوير، فقد ثبتت قناة الجزيرة وحدها أن قطر تريد أن تكون بلداً حراً وحضارياً لا في الاقتصاد فحسب، بل حتى في السياسة والثقافة أيضاً، وأن الحساسية التي تبرزها الدول الرجعية لإغلاق هذه القناة تدل على أن قطر لم تكن مخفقةً تماماً في تحقيق مرادها؛ فلهذا السبب يعتقد وزير الخارجية القطري أن السبب الرئيس في الموقف العدائي الذي اتخذته الدول العربية ضد الدوحة يرجع إلى تفوق هذه الدولة عليهم والنجاح الذي حققته، وهذا الكلام يعني تحويل الثروة الوطنية إلى حريات عبر الوطنية أو إرادة الانتقال من سياسة أسرية إلى سياسة حرة بقوة ثروةٍ عالمية، واستمرت بتطورها إلى الحد الذي أثار غضب الحكومات المحافظة والخائفة على أمنها، ولكن هذا الإنجاز القطري ألا يحتاج إلى الاهتمامٍ بخبرة سابقة؟
لقد ثبت من ناحية أخرى أن سياسة فتح القنوات إلى جميع الجهات وعبور جميع المجالات، فهذه اللعبة السياسية وإن لم تسبب خطورة بالغة لدولةٍ ثرية جداً، ولكن الإنجازات التي حققتها لا تستحق الميزانية التي تبذل من أجلها، ولا تستحق أن تؤجج المقاومة الخارجية ضدها، وقد أشار وزير الخارجية القطري بكلام ذي مغزى إلى الأسباب الحقيقية للأزمة الأخيرة قائلاً: “أعتقد أن الحكومات الصغيرة التي تحقق الإنجازات الكبيرة لا تروق للدول الكبرى”.
إن الأزمة التي حدثت مؤخراً تتضمن في أعماقها هذا المعنى، وهو أن الحكومة القطرية ترى الآن أن مصلحتها تتطلب قليلاً من التواضع لتحقيق أهدافها الدولية؛ فإذن تدل أزمة علاقات الدوحة مع الرياض في تصور القادة القطريين على انتقال سياسي كبير من دورهم وعملهم، وبعبارة أخرى: أنهم أدركوا في ضوء العدوان السعودي المتكرر عليهم أن من الأفضل أن يتخذوا سياسة السيطرة الداخلية بدلاً من التوسع الخارجي، فكانت سياسة التوسع الخارجي توافق سياسة السعودية الإقليمية، أما الآن فحكام الدوحة الذين يرون بلدهم بلداً متحضراً ويرون أن الرياض على العكس منهم باتوا يطرحون هذه الأسئلة في شأن التبعية للسعودية: لماذا التبعية؟ ولأي هدف؟ وإلى متى؟
عرفت الدولة القطرية -لأجل إقامة سياسة السيطرة الداخلية فضلاً عن تركيا- أن إيران ستكون خياراً مفيداً أيضاً بل لا يمكن تجاوزها، فكانت إيران دائماً هي النقطة المحورية في التحالفات والاصطفاف السياسي وترتيب القوات الإقليمية، ومنذ بداية الثورة الإسلامية كان المدار مبني على الخوف من إيران، فصار هو المحور الأساس للعلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي والتحالفات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، وفي قالب هذا السياق أسس مجلس التعاون الخليجي لغرض استراتيجية المواجهة لإيران، وكان ينتهج سياسة معادية لإيران دائماً في مركز صناعة القرار واتخاذ القرارات وفي سياساته، ومما لا شك فيه أن إيران كانت دائماً في المركز الأساس للاصطفاف السياسي وترتيب القوى الإقليمية [فكلام الدول العربية عن إيران يشابه كلام حاشية نيتجه فيه: “لا يمكن أن تكون معه ولا يمكن الابتعاد عنه”]، فضلاً عن سياسة النظر إلى النَفَس الجديد فإن مبحث الإخوان المسلمين يقرب إيران من قطر كما يقرب تركيا؛ فقد أكد وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس أنه لا ينبغي للغرب الاهتمام بعلاقة الإخوان المسلمين بالسلفية في المنطقة، ولكن يبدو أن هذه العلاقة لا يمكن أن تكون غير ذات أهمية؛ إذ كانت جميع جهود قطر منصبة على بناء هكذا علاقة ومن ثم التحكم بها، وعلى الرغم من وجود كل هذا الغموض والتنوع فإن نفوذ الإخوان المسلمين في العالم الإسلام واسع وهو أمرٌ مفروغ منه؛ فلهذا السبب رفعت دول الخليج العربي العصا بوجه الإخوان المسلمين بعد الربيع العربي، والحال أن قطر بدلاً من أخذ الحيطة والحذر والتخوف منهم شرعت بتسليحهم لدعم السلفية واستغلتهم لتحقيق أهدافها، تحدث أحد التقارير عن تعاون تركيا مع قطر لتنظيم 7000 مناصر للإخوان المسلمين في مصر وليبيا والأردن وسائر الدول إلى نهاية سنة 1440هـ.
وعلى وفق بعض الأخبار فإن أمير قطر قد هدد في حال عدم توسعة تحركات الإخوان المسلمين بأنه سيقطع تمويلهم بالموارد المالية، وفي واقع الأمر أن هذا التوظيف يكون حيث لا يمكن أن يرسم خطاً فاصلاً بين الإخوان والسلفيين، ولدى الإخوان في الخليج فكرة إخوانية بطريقة سلفية، فإنهم من الناحية الدينية والعبادية سلفيون، ولكنهم من الزاوية الفكرية والتأثير على المجتمع غير سلفيين وتنفيذيين بلطافة، فربما نستيطع أن نسمي الإخوانيين بالسلفية اللطيفة، أي: المعتدلة؛ إذ إنهم لا يستعملون مصطلح الإخوان بل يعرّفون أنفسهم بالجماعة المعتدلة أو تلامذة القرضاوي، وعقائد الإخوان الأصولية تتفق إلى حدٍّ ما مع الهدف القطري المذكور؛ فالتابعون للإخوان المسلمين هم أشخاص مناهضون للملكية في كل مكان تقريباً، ويعتقدون بأن السلطة المطلقة منوطة بإرادة الشعب لا بيد عائلة مالكة؛ وهذا هو أحد أسباب العلاقات الحسنة التي كانت بين حركة الإخوان المسلمين والجمهورية الإسلامية التي لم تعلّق الانتخابات البرلمانية ورئاسة الجمهورية حتى خلال سنوات الحرب، وهذا التأكيد المبدئي للإخوان على حق الناس في السلطة يبرر عداء الرياض لهم ولقطر، وللإخوانيين آراؤهم الخاصة في مسألة الاقتصاد والنساء والأقليات والسياسة؛ فسعى مؤسسوهم أن تكون حتى المقدور آراء منفتحة ومعاصرة.
والجدير بالذكر أن قضية الجذور موجودة أيضاً، فأمير قطر الحالي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في فترة ولايته للعهد في أحد اجتماعاته مع وزير الدفاع السابق قال: “نحن الأشخاص الموجودون هنا حالياً كان نصفنا من قبيلة بني تميم الذين كانوا من شيعة العراق وحينما ذهب أجدادنا إلى نجد السعودية عادوا من هناك وهابيين”، وقال في مرة أخرى للسفير الإيراني في ذلك الوقت: “إن ستة عشر ممن سلف منا يرجعون إلى ميناء جارك الواقع في جنوب إيران”، فمن الممكن أن رؤية هذه الجذور الإيرانية والشيعية في أنفسهم؛ مما جعلت قطر مع إدراك الخلاف الأساس بين الراديكاليين الشيعة والجهاديين السنة أن تُعرِّف هويتها، أي: سياسة الاستبطان الجديدة مع ملاحظة هذه الفجوة. إن التركيز على الجذور ليس بحثاً ملموساً واضحاً، ولكنه في الوقت نفسه بحث يرتبط بطريقة الكسب وهذا ليس بقليل الأهمية، بيد أن ميول قطر لحصولها على علاقات حسنة مع إيران لا يعد -على ما يبدو- بحثاً في الهوية بل له جذوره الاقتصادية؛ فمثلاً إن الدولتين مشتركتان في امتلاك أكبر مساحة غاز في العالم، وإن القبة الشمالية مرتبطة بقطر وبارس الجنوبي مرتبط بإيران، فإنهما مشتركتان بما تحت مياه الخليج العربي، فإيران وقطر في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي بعد روسيا في امتلاك احتياطي الغاز في العالم.
أكد المسؤولون القطريون أنه ليس من الحكمة اتخاذ سياسات معادية لإيران مع الانتباه إلى أن 60% من الأرباح القطرية تؤمن من هذه المائدة الغازية، ومع ذلك فإن قضية المنافع الاقتصادية لها أهمية من الدرجة الثانية، فالأهداف أو الاحتياجات الاقتصادية تصحح سلوك الدول وتوجه عملها، ولكنها لا تخلق سياسة مبدئية جديدة أبداً، كما قال عالم الاجتماع الفرنسي ريمون أرون: “يمكن المقايسة بين الحكومات السياسية على أساس أهدافها، فالهدف الأساس لكل دولة سيشكل استراتيجية تلك الدولة، لا المنافع الاقتصادية ولا الشروط والأجواء التي تجعل هذا السلوك أو ذاك ضرورياً في أي مرحلة أو مقطع خاص”.
إن الهدف الأساس لدولة قطر هو توسعة ثرواتها الاقتصادية لا للسيطرة فقط، بل لأجل الإثراء في مجال القدرة السياسية، فهذه الاستفادة من الثروة الاقتصادية لأجل تكملة مشروع القدرة السياسية هي من مبادئ الحكومة السعودية أيضاً مع وجود فرق بينهما وهو أن تفكير السعوديين إقليمي وقطر في عهدها الجديد الحالي ترى أن تفكر بصورة انطوائية وذات إطار محدود، فمبادئ الحكومتين متشابهة ومتعارضة في الوقت نفسه، فمن هنا يتطور الخلاف وتتسع دائرته، وأن الخلاف يحدث بين الإخوة أو الجيران لا بين الأطراف المتباعدة.
إذن، إن إرغام قطر على العودة والتراجع عن مسيرها بالضغوطات الحالية يبدو أنه أمر غير ممكن؛ فالمنهج القطري الجديد لا رجعة فيه بل سيكون في تصاعد وتزايد، وعلى أية حال فإن تغيير اتجاه قطر ليس في نطاق الممارسة بل أكثر ما يكون في الذهن وفي كيفية الفهم للمسائل الإقليمية، وبطبيعة الحال فإن تغيير الذهنية لا يخلو من النتائج العملية؛ فالذهنية التي تفكر بها قطر سابقاً والمنهج الذي اتبعته كانا يؤديان إلى علاقات واسعة والمنهج الحالي يتمخض عن فجوات واسعة، فإذا رأت أمريكا وإسرائيل الشك والتذبذب القطري ولاسيما في مجال تنفيذ مخططات الشرق الأوسط الغربية ضد إيران فإنهما سيغضبان كثيراً، ويزاد احتمال الهجوم العسكري أو الانقلاب في داخل القصر، وتطرح نفسها هنا مسألة بحث العلاقات القطرية والإيرانية بنحو أوثق، والمسألة التي تبحثها إيران في قضية قطر هي مقدمة على المصالح الاقتصادية وتأثيرها في إضعاف السلفية داخل سوريا، والسؤال المقدم عند الجمهورية الإسلامية هو هل الخلاف السعودي مع قطر سيؤدي إلى انخفاض المشاركة اللوجستية القطرية في الحرب السورية؟ وهل يستطيع أن يغير شروط الساحة العربية لصالح محور المقاومة وسوريا؟ فمن هنا إذا أصرّت قطر على نهجها الجديد والنظرة الداخلية والاعتقاد بالأفضلية والاستقلال عن مجتمع الدول العربية التي تراها -بلا شك- متأخرة ورجعية بالنسبة لها، ففي هذه الحالة سيكون أهم ما تطلبه من إيران هو مساعدة طهران وإسنادها؛ لضمان سيادتها وتعزيزها لدفع شر المخاطر الخارجية، وبطبيعة الحال لا بدَّ لطهران أن ترحب بتفاوض قطر مع السعودية، فهذه خطوة ضرورية ولكنها صورية وظاهرية.
إن الأمر الذي له أهمية موضوعية هنا هو هذا القانون: كلما كان معدل القيمة الاستراتيجية لقطر أكثر وضوحاً في خفض مستوى الضغوطات على إيران فسيكون معدل الدعم الإيراني العملي لضمان سيادة السلطة القطرية الحالية أكثر إلحاحاً؛ الأمر الذي أظهرت الالتزام به تركيا حالياً وسيكون وضعاً مثيراً للسخرية إن كان أردوغان يبغض إيران في نفسه وهو مجبر على الاقتراب منها عملياً.
المصدر:
مركز تحقيقات استراتيجيك مجمع تشخيص مصلحت نظام