ماثيو بيتي، طالب في جامعة كولومبيا.
في ملاحظة لجون ألين جاي المدير التنفيذي لجمعية جون كوينسي آدامز جاء فيها: هناك نقاش متزايدٌ في أميركا حول النطاق الصحيح لمشاركاتها في الخارج، ولكن هنا في بلتواي مهما كان السؤال، يبدو الجواب دائماً أن الولايات المتحدة تحتاج إلى بذل مزيدٍ من الجهد للمخاطرة بحياة قواتها في أماكن أكثر، وأن تضحي بالضرائب التي تجبى من مواطنيها، وألا تولي اهتماماً بالديون، وأن تهمل الاستثمارات المحلية؛ لدعم المساعي الخارجية، ولتقديم ضمانات للدفاع عن مزيد من البلدان، وأن تشارك كثيراً بالحروب الأهلية في البلدان الأخرى والصراعات الداخلية كذلك؛ ولكن كلمة “المزيد” هنا لم تعد نافعة.
وبصفتنا شبكة وطنية تتكون من مجموعة من الجامعات تركز على السياسة الخارجية، نرغبُ في جمعية جون كوينسي آدامز بتحدي الجيل القادم من قادة الأمن القومي لتقييم مسار مختلف؛ ولهذا السبب شاركنا مع المصلحة الوطنية لرعاية مسابقة كتابة المقالات، وطلبنا من الباحثين الإجابة عن السؤال الآتي: “ما الفوائد التي يمكن أن تقدمها استراتيجية سياسية حذرة ومتشددة للولايات المتحدة؟” فكانت الإجابة: “نحن سعداء لنقدم الأفضل” من بين عشرات الإجابات الممتازة؛ وكان هذا المقال الذي كتبه ماثيو بيتي من جامعة كولومبيا، الوصيف الثاني في المسابقة.
إن التأثير الأميركي على بقية العالم ليس طريقاً ذا اتجاهين، ومثلما يفترض قانون نيوتن الثالث أن كل عمل له رد فعل متساوٍ ومعاكس له في الاتجاه، فإن كل توسع للقوة الأميركية في بقية العالم يعطي القوى الأجنبية الوسيلة والحوافز لبناء النفوذ في واشنطن، وليس من المستغرب أو غير المعقول أن تقوم الحكومات والمنظمات الدولية بالدفاع عن مصالحها في عاصمة أقوى الدول على وجه الأرض؛ ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة ألَّا تخطئ في هذه المصالح من تلقاء نفسها؛ إذ أدت محاولات الحفاظ على وجود إمبريالي في جميع أنحاء العالم إلى جرَّ البلاد لأعمال ذاتية التدمير بناءً على طلب من حلفائها، وإن فك الارتباط الأميركي عن الصراعات المحلية سيحرر الولايات المتحدة من الفهم المتحيز لحلفائها عن هذه الصراعات. وتوفر الحماية الأميركية لسياسات المملكة العربية السعودية في قربها من دول الخارج دراسة حالة قيمة عن الآثار الضارة للأممم المتحالفة في بعض الأحيان على السياسة الخارجية الأميركية.
تصوّر المملكة العربية السعودية نفسها كزعيم كتلة مسلمة من الطائفة السنية المعتدلة ضد التوسع الإيراني والتطرف الإسلامي، وهذا الرأي ليس بالضرورة أن يطبق على أرض الواقع، حيث إن الفكر الراديكالي المناهض للأيديولوجية الشيعية يدفع النظام السعودي إلى التركيز في المؤامرات الإيرانية بدقة سواء أكانت إيران متورطة في هذه المؤامرات أم لا. وإن مطالبها بالقيادة لا يتقبلها المسلمون السنة بالإجماع، إذ يعدُّ النزاع السعودي مع تركيا وقطر مثالاً على عدم تقبل العلاقات بين قطر وإيران؛ وبالتالي فإن دعم المملكة العربية السعودية للأيديولوجيات السلفية المقاتلة يشكك في ادعاءاتها بالاعتدال؛ ومع ذلك، فقد استثمرت إدارة ترامب هذه النظرة الطائفية، ووعدت بمجموعة من الامتيازات للنظام السعودي، بما في ذلك صفقة الأسلحة التي تقدر بـ 110 مليارات دولار، خلال زيارة ترامب الأولى لدول الخارج.
ويمكن رؤية النتيجة المدمرة لتأثير المملكة العربية السعودية في حملتها ضد اليمن التي يطلق عليها اسم “إعادة الأمل” عن مقتل آلاف المدنيين اليمنيين، فضلاً عن إصابة الملايين بالمرض والجوع. وعلى الرغم من إصرارهم على التدخل في سوريا، وقف المحافظون الجدد وغيرهم من المتدخلين الليبراليين صامتين بنحوٍ غريب تجاه الأزمة الإنسانية في اليمن.
وبعيداً عن الفوضى الناتجة عن آثارها، فإن الحملة السعودية في اليمن هي فشل سياسي، حيث ما تزال حكومة المتمردين المناهضة للسعودية تسيطر على العاصمة في صنعاء، فضلاً عن تسع عواصم من أصل عشرين عاصمة إقليمية. وحتى المدن التي يفترض أن تكون تحت سيطرة حكومة هادي المدعومة من السعودية تُعَدُّ بؤراً للفوضى والعنف؛ وعدم الاستقرار هذا سيّئ ليس فقط لليمنيين الأبرياء الذين يعيشون في حرب أهلية بل أيضاً سيّئ للاقتصاد الدولي، إذ إن أكثر من 10% من التجارة العالمية تتدفق عبر حوض البحر الأحمر في طريقها من قناة السويس أو إليها، فضلاً عن تعرض السفن التي تسافر عبر مضيق المندب للنيران من داخل اليمن.
وقى دعم الولايات المتحدة بنحوٍ أساسٍ المملكة العربية السعودية من الآثار السلبية لحملتها، وإزالة العواقب التي جنتها المملكة من أجل كبح أفعالها. ومنذ بداية تدخل المملكة العربية السعودية في اليمن دعمت إدارة أوباما التحالف الذي تقوده السعودية عبر تزويده بالوقود الإضافي في الجو وعبر الذخائر المتطورة، ولم تقدم هذه المساعدات فعلياً للقيادة العسكرية الضعيفة، ولكنها مررت التكاليف الاقتصادية المتزايدة إلى كفيل أجنبي؛ للسماح للقوات السعودية بالحفاظ على إمكانياتها التكنولوجية على الرغم من أزمة الميزانية في المملكة؛ ونتيجة لذلك، دعت الولايات المتحدة إلى حل سياسي ترقيعي؛ إذ قامت إدارة ترامب بإزالة بعض القيود على دعم التحالف الذي تقوده السعودية، فتم تشجيع الرياض فقط من أجل متابعة الوضع الكارثي الراهن.
وتتحمل أميركا عواقب الحملة السعودية بخلاف التكاليف الاقتصادية المرتبطة بمكافحة العصيان الممتدة بالقرب من الطرق التجارية الرئيسة، وقد وضع الدعم اللوجستي الواسع النطاق للقوات الجوية السعودية ملصق مكتوب عليه “صنع في الولايات المتحدة” على حملة القصف المدمرة التي أدّت إلى حدوث المجاعة بين صفوف الشعب اليمني؛ ونظراً لعودة تنظيم القاعدة على نطاق واسع في شبه الجزيرة العربية خلال الحرب الأهلية، فإن نمو المشاعر اليمنية المناهضة للولايات المتحدة يمكن أن يؤثر بنحوٍ مباشر على الشعب الأميركي من خلال تشجيع مزيد من الدعم للإرهابيين المناهضين للولايات المتحدة. ويبدو أن المملكة العربية السعودية لا تهتم كثيراً بالإرهاب إلّا إذا كانت تتهم منافساً إقليمياً بدعمها إياه، ويمكن رؤية هذا الموقف غير الحكيم في اليمن، حيث يسمح لعناصر تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية بالعمل بنحوٍ علني إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية. وبينما تحاول الولايات المتحدة إرضاء حليف لها، فإنها تقوّض بلا وعي أمنها الداخلي، وتمنح قاعدة جغرافية للمسؤولين عن تفجير المدمرة يو أس أس كول في الولايات المتحدة وإطلاق النار الذي حصل على مقر صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية.
حتى وإن قبلنا بمطالب السعودية بشأن طموح إيران لبناء “هلال شيعي”، فإن الحرب في اليمن تقوّض بالفعل أهدافها، فحكومة المتمردين في صنعاء هي تحالف ضعيف بين عبد الله صالح -الرئيس السني السابق لليمن- وعبد الملك الحوثي -الذي يعتنق المذهب الزيدي الشيعي الذي يختلف عن مذهب الاثني عشرية وهو المذهب البارز في إيران-؛ في البداية، كان هذا التحالف مهتماً بزيادة القوة المحلية للناخبين، وعلى الرغم من أن الرئيس عبد ربه منصور هادي اتهم الحركة الحوثية بخدمة “الأجندة الإيرانية”، فإن مزاعم التدخل الأجنبي هي تكتيك أنموذجي من الدكتاتوريين لتشويه سمعة المعارضة المحلية، وهناك أدلة على أن إيران حذرت بالفعل المتمردين من الاستيلاء على العاصمة.
إن التدخل السعودي نيابة عن حكومة هادي قد أضفى الطابع الإقليمي على الصراع؛ مما أعطى صنعاء كل الأسباب لدعم هدف إيران المتمثل في إضعاف السلطة السعودية؛ وبفضل “الاستثمار المعتدل” للأسلحة والموظفين، تمكنت إيران من تكوين صداقات وثيقة مع الموالين للحوثيين وصالح، وهي فرصة وفرتها الحملة التي تدعمها الولايات المتحدة وتقودها السعودية ضد إيران، وفي الوقت الذي دق فيه صانعو السياسات ناقوس الخطر في واشنطن على الكميات الضئيلة من المساعدات الإيرانية للمقاتلين الحوثيين، فإنهم يعطون طهران كل الوسائل والدوافع لزيادة مشاركتها في اليمن.
وكما خلق الدعم الأميركي للسياسات السعودية الفوضى وأعداء في اليمن، فإن السياسات السعودية التي تحكمها الولايات المتحدة قد تفعل الشيء نفسه قريباً في شرق المملكة العربية السعودية والبحرين؛ فقد اشتكت المجتمعات الشيعية في هذا المناطق منذ مدة طويلة من التمييز الاجتماعي والاقتصادي، وهي شكوى تدعمها بالتأكيد الدعاية الكارهة والمعادية للشيعة التي تدرس في المدارس الحكومية السعودية.
حينما اجتاحت البحرين ثورة سلمية في عام 2011، تدخلت القوات السعودية للحفاظ على نظام الحكم للأقلية السنية التي تقوم الآن بسجن الآلاف من المنشقين، وقامت بتهمة جماعات المعارضة الليبرالية والعلمانية بصلتهم مع الإرهاب المدعوم من إيران. وقد يكون هذا نبوءة لتحقيق الذات، وسواءٌ كانت المزاعم البحرينية بدعم إيران لخلية مسلحة -اكتشفت مؤخراً- صحيحة أم لا، فإن التصعيد من احتجاج سلمي إلى انتفاضة مسلحة هو نتيجة مباشرة لسياسات أمنية خرقاء؛ وبفضل مبيعات الأسلحة الأمريكية المذكورة آنفاً إلى المملكة العربية السعودية، والدعم العسكري والدبلوماسي الأميركي للبحرين، فإن الولايات المتحدة تعد الآن “متعادلة تماماً مع الأنظمة نفسها” لكل من الشعبين البحريني والشرق السعودي؛ وبالنظر إلى احتياطي النفط الموجود على طول ساحل الخليج العربي ومقرّ الأسطول الخامس للولايات المتحدة في البحرين، يجب أن يكون هذا الأمر بالغ الأهمية، ولاسيما إذا تصاعد العنف إلى حرب أهلية على الطراز اليمني.
إن قبول النظرة الوهمية الأمريكية أحياناً لحلفائها سيقود فقط إلى مزيد من الإحباط الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ يهتم فالي نصر -من مدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة- بالنهضة الشيعية؛ لأن حوالي نصف المسلمين بين لبنان وباكستان هم من الشيعة؛ ومع ذلك، فإن حلفاء الولايات المتحدة قبل كل شيء في تلك المنطقة هم ذوو نظام ملكي سني، وتبعاً لذلك، تبنت الولايات المتحدة موقف تلك الأنظمة الطائفية من أن أي تنظيم سياسي شيعي -حتى وإن كانت أهدافه مشروعة مثل الدفاع عن الطائفة أو التطلع للديمقراطية- يجب أن يأتي من مؤامرة إيرانية؛ مما يؤدي إلى نتائج عكسية، وإلى قمع شديد مدعوم من الولايات المتحدة. ومثلما تبنت الولايات المتحدة القضية الفرنسية في فيتنام، وبالتالي قادت إلى حرب مكلفة وكان من الممكن تجنبها، فضلاً عن القضية البريطانية في إيران، التي أدّت إلى ثورة مناهضة للولايات المتحدة بعد عقدين من الزمن، تسمح واشنطن الآن للمملكة العربية السعودية بكتابة سياستها على حساب الشعب الأميركي.
يمكن للولايات المتحدة -عبر اعتمادها نهجاً أكثر تقييداً- أن تشجع حلفاءها على اعتماد سياسات منطقية أكثر تجاه جيرانها، لكن التهديد بإزالة الدعم الأمريكي قد يجبر البلدان على التصرف بشكل معقول، إذ برهنت أزمة السويس لعام 1956 على ذلك؛ فقد رفضت واشنطن الانضمام إلى الغزو الإنجليزي-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر لمنع تأميم قناة السويس، وبدلاً من ذلك، استخدم الرئيس دوايت د. أيزنهاور ضغوطاً مالية ودبلوماسية لإجبار جميع الأطراف على قبول قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في شبه جزيرة سيناء، وتجنب نشوب حرب برية محتملة بين حلف شمال الأطلسي والسلطات المدعومة من السوفييت.
ويظهر السجل التأريخي -من المفارقات- أن الولايات المتحدة تستطيع أن تؤدي الدور القيادي الأقوى في العالم حينما تتخذ القرار المناسب وتختار وبدقة متى يجب عليها استخدام القوة الأميركية بدلاً من كتابة شيكات مفتوحة للحلفاء المحليين، والواقع أن هذه الشيكات لم تؤذِ أميركا فحسب، بل حلفاؤها أيضاً، وشجعتهم على التصرف بتهور دون التفكير في العواقب المحتملة.
لقد حذر جون كوينسي آدمز الرئيس السادس للولايات المتحدة الأميركيين من الذهاب “إلى الخارج بحثاً عن الإرهاب لتدميره”؛ وهذا التحذير في محله حينما يتم المجيء بالإرهابيين من قبل الأنظمة المحلية التي تتطلع بأن تصبح المفضلة لدى واشنطن.
المصدر