مع فشل مارين لوبان في سعيها نحو الوصول للرئاسة الفرنسية، تنفس السياسيون في البلدان الغنية الصعداء، إذ إن فوز الرجل الشعبوي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ودخوله البيت الأبيض، كان له أثر كبير في تعثر فرص المرشحين الراديكاليين؛ ومن الصعب إرجاع ذلك إلى أنه ذروة تقدم الشعبويين من دون التوصل أولاً إلى فهم أفضل لما تسبب بذلك التقدم من الأساس، إذ تشير التفسيرات إلى أن زيادة شعبية الحركة الشعبوية لم تكن أمراً حاصلاً فيما سبق.
ومن المهم أيضاً أن يتم استبعاد فكرة أن تقدم الراديكاليين كان نتيجة حتمية للأزمة المالية العالمية؛ إذ أظهرت الدراسات أن نسبة التصويت لصالح الأطراف المتطرفة تميل إلى الزيادة في السنوات التي تلت الأزمة؛ فقد أدى الكساد الاقتصادي إلى ظهور حركات شعبوية راديكالية أكثر خطورة في القرن العشرين، ولكن الحقائق لا تتناسب مع ذلك بنحوٍ دقيق؛ ففي أوروبا -مثلاً- فازت الأحزاب الشعبية بعدد أكبر من الناخبين منذ الثمانينيات، وفضلاً عن ذلك فإن مطالب الحركة الشعبوية لم تكن تتمحور حول التمويل، بل كانت مطالبها تتلخص بالتجارة والهجرة، وإن أوضح المظاهر لزيادة شعبية الحركة الشعبوية هو فوز ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اللذين لا يتصلان بنحوٍ مباشر بالأزمة المالية.
تُلقي النظريات المتنافسة باللوم على الشعبوية في تسببها بانعدام الأمن الثقافي الذي ينتج عن التغيير الديموغرافي والاجتماعي، ويعتقد كل من نوام جدرون وبيتر هول -في ورقة بحثية ستعرض قريباً- أن النجاح السياسي اليميني مبني على تراجع الوضع الاجتماعي الخاص بالأفراد ذوي البشرة البيضاء؛ ويبدو أن الصعوبات الاقتصادية والتحسنات النسبية في الحالة المتصورة لمجموعات أخرى -مثل النساء والأقليات العرقية- ساهمت في انعدام الثقة لدى الرجال؛ ففي عام 2010 كانت النساء الأمريكيات اللواتي لم يحصلن على شهادة جامعية يتفوقن على الرجال المتعلمين حينما يقيِّم كل منهم مكانته في التسلسل الاجتماعي، ويربط البحث تراجع الوضع الاجتماعي نتيجة دعم الشعبوية اليمينية، ولكن هذا يعد تفسيراً جزئياً كذلك؛ إذ إن تقدم الحركة الشعبوية اليسارية الأخير يعد أمراً مفاجئاً.
هناك تفسير ثالث تم ذكره بنحوٍ دقيق في ورقة بحثية جديدة قدمها داني رودريك من جامعة هارفارد، الذي يعتقد بأن دور العولمة أمرٌ لا يمكن تجاهله؛ فهو يرى أن الحركة الشعبوية قد تصبح أكثر جاذبية حينما يتوسع التكامل العالمي؛ وأن خفض التعرفة الجمركية بنحوٍ يسير للغاية من شأنه أن يوفر زيادات أصغر بكثير في الناتج المحلي الإجمالي من التخفيضات السابقة، ويقدم فوائد قليلة جداً للمستهلك؛ إلّا أن هذه التخفيضات تفرض تكاليف على العمال الضعفاء؛ وبالتالي سينتج عن ذلك رد فعل عنيف في نهاية المطاف، بيد أن الشكل الذي سيتخذه هذا الرد يعتمد على أي نوع من الاندماج هو الذي سيكون أكبر إزعاج لهم.
إن فشل التجارة والتكامل المالي غالباً ما يولد الحركة الشعبوية اليسارية، التي تغذي الانقسامات الطبقية في المجتمع -كما يحدث في الحركة الشعبوية في أمريكا اللاتينية-، وحينما يتم النظر إلى الهجرة على أنها مصدر للاضطراب فإن الشعبوية اليمينية -التي تستغل الانقسامات العرقية أو الدينية- تكون الأكثر شيوعاً؛ ففي أوروبا كان الشعبويون أكثر حزماً فيما يخص حرية تنقل الناس أكثر من التجارة المفتوحة.
وبناءً على ما سبق فإن جميع الفرضيات المذكورة آنفاً هي فرضيات معقولة (ومتوافقة)، ولكنها لا تزال غير مكتملة، وإن السمة المميزة التي تجمع بين الحركات الشعبوية جميعها هي رفضها للنخب القائمة؛ ولكن الأمر الغريب هو سبب امتناع الأحزاب الشعبوية الرئيسة لمواجهة الخلافات؛ وقد تمت الإجابة عن هذا التساؤل في ورقة بحثية جديدة قدمها كل من لويجي غويسو، وهيليوس هيريرا، وماسيمو موريلي، وتوماسو سونو الذين أوضحوا فيها أن الأحزاب في المؤسسة الحكومية ليس باستطاعتهم أن يستجيبوا لمخاوف المؤيدين احتراماً للقيود المؤسسية -مثل قواعد الاتحاد الأوروبي-، أو بسبب عدم رغبتهم في كسر المعايير السائدة مثل سداد الديون السيادية.
قد تعني الحفاظ على الثقة بالمؤسسات التخلي عن الاهتمام بالناخبين، وحينما يفشل القادة المنتخبون في تحقيق التغيرات المرجوة، فإن الناخبين يتخلون عنهم، ويُعدُّ الإنتاج المتراجع فرصة ذهبية لأصحاب المشاريع السياسية؛ إذ دائماً ما يَعِد الشعبويون بتخفيف الضغوط الناجمة عن القيود المؤسسية. ولكن لتحديد نوع الشعبوية فإن ذلك يعتمد على التغيرات المؤسسية وتأثيرها على بعض المجموعات مقارنة مع غيرها؛ فإذا كان الناخبون اليمينيون -الرجال الأكبر سناً مثلاً- أقلَّ عرضة في الامتناع عن التصويت في الانتخابات فمن المرجح أن يكون المرشح الشعبوي من حزب اليمين؛ وبذلك تختلف السياسات الشعبوية إلى حد كبير؛ فقد تهاجم الحركة الشعبوية اليسارية قيود الميزانية التي تفرضها المؤسسات الأوروبية، في حين أن الشعبويين اليمينيين قد يركزون على إنهاء حرية حركة اليد العاملة.
إن ما يجمع بين سياسات دونالد ترامب والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مع معتقدات الشعبويين الأوروبيين هو الوعد الذي قدموه في التحرر من القيود؛ وهناك سؤال محرج حول الحركة الشعبوية، وهو: إذا كانت هذه الحركة جديرة بالاهتمام، فلماذا يشعر الناس بالإحباط الشديد حيالهم؟ فيرى المؤلفون أن الشعبويين يسلطون الضوء على المزايا قصيرة الأجل للمؤسسات المتضررة في حين يقللون من العواقب طويلة الأجل، وإلى حدٍ ما فإن “الشعبوية” هي كلمة مرادفة للــ “بدعة” التي يبدو أنها محكوم عليها بالفشل.
وهناك العديد من الأمور التي تقيد السياسيين مثل: المؤسسات الدولية، وأسواق رأس المال، والالتزامات الأيديولوجية لنظريات معينة للنمو الاقتصادي، وهذه القيود ليست دائماً معقولة -كما نجد في القيود المفروضة على معايير الذهب-، ولكنها غالباً ما تكون قيّمة والعمل بها قد يأتي بفائدة في نهاية المطاف، وإذا لم يستطع السياسيون إرضاء المواطنين غير السعداء في أثناء عملهم ضمن حدود راسخة، فإن الشعبويين الذين يحطمون المؤسسات القائمة سيتولون زمام الأمور قريباً في مسيرة أخرى.
المصدر: