سعت تركيا إلى أن تكون بلداً حيوياً في نقل النفط والغاز من جيرانها الأغنياء بالطاقة إلى أوروبا، وازدادت هذه السياسة أهمية بعد الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1980 وما تبع ذلك من إصلاحات محلية لتحرير الاقتصاد التركي، وقد تعاونت الحكومات التركية المتعاقبة مع البلدان المجاورة المصدرة للطاقة لتنويع جهات توريد الطاقة وزيادة الأهمية التركية للتجارة عبر الحدود مع أوروبا. وكانت هذه الجهود تخالف الجهود الأميركية لمعاقبة روسيا على غزوها لأوكرانيا، وعزل إيران أو جهودها في بعث رسالة إلى القادة الأكراد العراقيين حول ضرورة بقاء العراق متماسكاً إقليمياً. وتشاطر تركيا العديد من المصالح مع الولايات المتحدة في قربها من الخارج، ولكن لديها أيضاً مصالح اقتصادية وجيوسياسية واضحة خاصة بها، ولاسيما في تعميق التعاون في مجال الطاقة مع معظم دول الشرق الأوسط. إن آلية صنع القرار في أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي تشبه الإجراءات التي اتخذت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا النمط سيساعد في إلقاء الضوء على السياسة التركية المستقبلية تجاه روسيا وإيران والعراق.
أجرت الحكومة التركية تغييرات جذرية على قوانين الطاقة المحلية بعد وقت قصير من الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1980 الذي حوّل الأنموذج الاقتصادي للدولة من إحصائي إلى آخر تسويقي موجهٍ نحو التصدير، وقد ساعد تورغوت أوزال -الموظف السابق في صندوق النقد الدولي- على قيادة المحاولات الأولية للجيش لتنفيذ الإصلاحات قبل الترشح للانتخابات، ومن ثم تم انتخابه رئيساً للوزراء في عام 1983؛ وتعد تلك الانتخابات نقطة تحول في السياسة التركية حفزت من الجهود الرامية إلى تحويل الاقتصاد التركي جذرياً. لكنَّ حكومة أوزال واجهت تحديات البنية التحتية والجيوسياسية، ولاسيما مع الجهود المبكرة لتعزيز علاقة الطاقة التركية مع الاتحاد السوفيتي، ومع إيران والعراق.
لا تزال تركيا تعتمد بنحوٍ كبير على استيراد الوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء، ويعد أهم مورديها -روسيا وإيران- الدولتين ذواتي الأهمية الكبيرة في جدول أعمال الرئيس ترامب في أوروبا والشرق الأوسط؛ إذ أشارت إدارة ترامب إلى استعدادها لتحسين العلاقات مع روسيا، وفي الوقت نفسه الضغط على إيران، وسيستمر التواجد الأمريكي في العراق، إذ أدت الحرب ضد تنظيم داعش إلى السيطرة الكردية كركوك -وهي مدينة متنازع عليها ومنطقة غنية بالطاقة- وهو ما قد يؤدي إلى حدوث اشتباكات مع الحكومة المركزية؛ وتعدُّ حكومة إقليم كردستان جهة فاعلة حاسمة في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش، ومن المؤكد أن تقاطع السياسة الخارجية التركية مع المصالح الأمريكية في هذه الدول الثلاث سيؤثر على العلاقات الثنائية.
ينقسم هذا البحث على ثلاث دراسات توضح العِبَر المستخلصة من القرارات التركية السابقة في رسم مسارات عمل محتملة إزاء علاقة الطاقة المستقبلية لأنقرة مع روسيا وإيران والعراق، وما يرتبط بذلك من تأثير محتمل على المصالح الأمريكية في هذه البلدان الثلاثة، إلى جانب العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا؛ إذ لدى تركيا مصالح كبيرة في البلدان الثلاثة؛ وبالتالي فإنها ستتأثر بنحو كبير بعملية صنع القرار في الولايات المتحدة فضلاً عن التغيرات على أرض الواقع التي تؤثر على مصالح الطاقة الخاصة بها؛ فإذا ما سعت إدارة ترامب إلى تشديد العقوبات على إيران، أو إذا استمرت ألمانيا في فرض عقوبات على روسيا، فإن دعم تركيا لعلاقات طاقة أعمق سيؤثر على تلك العمليات.