مارك ليفنسون، خبير اقتصادي ومؤرخ وصحفي، له سجل طويل في الكتابة حول القضايا الاقتصادية والتجارية.
تَقدَم الاقتصاد العالمي بعد التراجع الكبير الذي حدث في عام 2016، فعلى وفق تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في السابع من شهر حزيران الحالي فإن الاقتصاد العالمي سينمو بنسبة 3.6% في العام المقبل، وهو أفضل نمو عالمي له منذ عام 2011، وتوقع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي أن متوسط معدل البطالة سينخفض في الاقتصادات المتقدمة في العالم ليصل إلى 5.8٪ في عام 2018، وهو أدنى معدل له خلال عقد من الزمن.
بيّن تقريرٌ لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) صدر في 18 من شهر أيار الماضي منظوراً آخر؛ فقد أشار إلى أن الاقتصادات المتقدمة تشهد “تباطؤاً في معدلات نمو الإنتاجية”؛ وتشير بيانات أخرى إلى أن الاتجاه نفسه يجري في العديد من الدول الأقل ثراءً، وهذا يعني أن النظرة المستقبلية في معظم أرجاء العالم ترى أن النمو الاقتصادي -الذي من شأنه أن يرفع الأجور ويحسن مستويات المعيشة- سيكون بطيئاً جداً ويستمر على المدى الطويل؛ وهو ما سيزيد من سخط العديد من الأشخاص الذين سيتأثرون بشدة في ظل بطء نمو الاقتصاد العالمي.
لا يوجد هناك تناقض بين هذا التفاؤل على المدى القصير والحذر على المدى البعيد، فعلى المدى القصير، أدّى انتعاش دورة الأعمال، وحدوث عجز كبير في العديد من الحكومات، وانخفاض أسعار الفائدة إلى تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة الدخل، وأن الحكومات تسيطر على هذه العملية بنحوٍ كبير. أمّا على المدى البعيد، فيعتمد المعدل الذي تتحسن فيه مستويات المعيشة اعتماداً كلياً على معدل نمو الإنتاجية، وحينما يتعلق الأمر بزيادة النمو، فإن الحكومات لم تحقق أي تقدم يذكر؛ وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق الحكومي والسياسة الضريبية والسياسة النقدية -وهي الأدوات القياسية للاقتصاد- ليس بإمكانها أن تقدم حلولاً فعالة للمشكلة.
الدورة الإنتاجية:
تعرَّف الإنتاجية بأنها مقياس للناتج الاقتصادي الناتج عن كمية معينة من اليد العاملة ورأس المال ومدخلات أخرى، وأكثر أشكال الإنتاج شيوعاً هي إنتاجية العمل، التي تعرف عادة بأنها الناتج عن متوسط ساعات العمل، ولكن يحاول الاقتصاديون أيضاً تقييم ما إذا كانت رؤوس الأموال والتكنولوجيا الجديدة يتم استعمالها بنحو يجعلها أكثر إنتاجية مع مرور الوقت، وحينما يكون نمو الإنتاجية سريعاً، فإن الزيادة في مقدار الثروة التي ينتجها الاقتصاد سيكون سريعاً كذلك.
يميل نمو الإنتاجية إلى التحرك في دورات طويلة، وذلك منذ الثورة الصناعية؛ ففي الولايات المتحدة، كان نمو الإنتاج بطيئاً إلى حد ما إبان الحرب الأهلية، ولقد شهد تقدماً أسرع في أواخر القرن التاسع عشر، وتباطأ في الفترة من 1900 إلى أوائل العشرينيات، وكان أكثر سرعة على مدى نصف قرن، وتوقف في عام 1973؛ كانت الفترة بين عامي 1948 و1973 ملحوظاً وذلك لقوة الإنتاجية في الولايات المتحدة التي طابقت أو تجاوزت الإنتاجية في جميع أنحاء أوروبا الغربية واليابان؛ نتيجة لذلك أصبح بإمكاننا القول إن تلك السنوات التي أعقبت الحرب هي الحقبة الأبرز للنمو الاقتصادي في تأريخ البشرية، مع توسع الاقتصاد العالمي بمعدل سنوي يبلغ نحو 5%. ومع نمو اقتصادات بلدانها بنحوٍ سريع -الذي ضاعف حجمها بمقدار أربعة أضعاف- في غضون 25 عاماً فقد شهد مئات الملايين من الأفراد تحسناً غير متوقع في مستويات معيشتهم عاماً تلو الآخر، ويشار لذلك العصر غالباً بالعصر الذهبي للإنتاجية.
اختلفت الأوضاع منذ عام 1973، إذ اقترن ضعف نمو الإنتاجية في أنحاء كثيرة من العالم بانخفاض طويل الأجل في حصة الدخل القومي المدفوع في الأجور؛ مما أدى إلى بطء التحسن في مستويات المعيشة لمعظم الأفراد، وانخفاض مستويات المعيشة بالنسبة لبعضهم؛ وكان لذلك نتائج سياسية مهمة، فقد استند الدعم الواسع النطاق لدولة الرفاهية في الخمسينيات والستينيات إلى الاعتقاد بأن النمو الاقتصادي المطرد وارتفاع الدخل هما عمل الحكومات الحكيمة والمعنوية، ومع ارتفاع الدخل وأرباح الأعمال التجارية، ازدادت الإيرادات الضريبية؛ مما زاد من عملية تمويل برامج الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية وغيرها من المزايا الاجتماعية، إلّا أن عجز الحكومات في استعادة النمو الاقتصادي السريع والعمالة الكاملة بعد عام 1973 دفع الناخبين إلى الشك في قدرتهم على الحفاظ على مستويات معيشية أفضل مع ركود الأجور؛ مما زاد العبء بنحوٍ أكثر على دولة رفاهية، وأدّى هذا الفشل إلى تمهيد الطريق أمام السياسيين المحافظين (مثل مارغريت تاتشر ورونالد ريغان) من أجل وضع سياسات موجهة نحو السوق كوسيلة لتحفيز الإنتاجية، ولكنه فتح المجال أيضاً للشعبويين الذين ينتمون إلى أيديولوجيات مناهضة للمؤسسة والمهاجرين.
ما الذي تستطيع الحكومات فعله؟
لمعرفة مدى خطورة هذه المشكلة، ضع في الحسبان أفضل مقياس معروف للإنتاجية، وهي: إنتاجية العمالة التي تُعرف بأنها المبلغ الذي ينتجه العامل في ساعة من العمل، وقد كان معدل نمو إنتاجية العمل في تراجع طويل الأجل في جميع الاقتصادات الغنية تقريباً؛ فعلى سبيل المثال ارتفعت هذه النسبة في بلجيكا بنحو 7% سنوياً في أوائل السبعينيات، ولكنها لم تبلغ سوى 0.5% في العقد الماضي، وشهدت فنلندا انخفاضاً في معدل نمو إنتاجية العمالة من 5% سنوياً في أوائل السبعينيات إلى ما يقرب من الصفر اليوم، وقد شهدت كل من فرنسا وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة نمواً في إنتاجية العمالة بنحوٍ أكبر من الولايات المتحدة، وفي كوريا الجنوبية -التي توسع اقتصادها بوتيرة أسرع من أي اقتصاد ثري آخر في العقود الأخيرة- يصل معدل نمو إنتاجية العمالة فيها الآن إلى 3% سنوياً وهو أقل بكثير من نسبة 6% التي تمتعت بها في السبعينيات. يرى مجلس المؤتمر -وهي منظمة تجارية- أن إنتاجية العمالة في روسيا آخذة في الانخفاض، ولا تتوافر بيانات للمقارنة بالنسبة للصين، إلّا أن مجلس المؤتمر يقدر أن إنتاجية العمالة في الصين ارتفعت بين 3 و4% في عام 2015، ومرة أخرى في عام 2016.
يرتبط بطء نمو الإنتاجية بسياسات معينة، مثل: ارتفاع معدلات الضرائب؛ والسياسة النقدية التي يفرضها البنك المركزي الأوروبي -بوضع قواعد مصرفية أمريكية أكثر صرامة عقب الأزمة المالية التي بدأت في عام 2008- والبيروقراطيون في بروكسل وطوكيو وواشنطن، ولكن بطء نمو الإنتاجية هي ظاهرة عالمية وليس لقوانين أي بلد علاقة بالتأثير عليها، كما أن الحكومات ليس لديها قدرة على حل مشكلة تراجع النمو.
إن الحكومات تقف كالمتفرج حينما يتعلق الأمر بتحسين نمو الإنتاجية؛ والواقع أن المكاسب السريعة التي حصلت في العصر الذهبي ترجع بجزء كبير منها إلى مبادرة الدولة، إذ بفضل الاستثمارات الكبيرة في التعليم، تضاعفت معدلات الالتحاق بالجامعات في فرنسا وألمانيا لثلاث مرات بين عامي 1950 و 1965، مما خلق قوة عاملة قادرة على التعامل مع أعمال أكثر تعقيداً، وأدت البحوث الزراعية الممولة من القطاع العام إلى زيادة غلة المحاصيل لكل فدان، وكانت اتفاقات التجارة الدولية حاسمة أيضاً؛ فقد أنشأت معاهدة روما لعام 1957 السوق الأوروبية المشتركة؛ واتفاقية السيارات الأمريكية-الكندية لعام 1965، واتفاقيات التعريفات الجمركية، وغيرها من الاتفاقات التجارية، أدت إلى فرض ضغوطاً على المصنعين لكي يكونوا أكثر كفاءة وابتكاراً في مواجهة منافسة أجنبية أكبر.
نمو أسرع في الأفق؟
لا يمكن تكرار هذه التدابير ذات التأثير العالي لزيادة الإنتاجية مرة أخرى؛ إذ إن آثار تحسين الطريق السريع بوضع مدخل جديد تعد سهلة بالمماثلة مع المكاسب الناتجة عن استبدال طريق مزدحم بطريق سريع آخر مخصص لمركبات النقل، ولكن اتفاقيات التجارة السابقة التي خفّضت من أسعار التعريفات الجمركية جعلت الفائدة من الاقتراحات الجديدة هامشية، وللحصول على مكاسب أكبر يجب التوصل إلى أساليب ومنتجات جديدة. وفي كثير من الأحيان قد يحتاج التقدم التكنولوجي أو فكرة مبتكرة جديدة عدة سنوات ليكون لها أي تأثير اقتصادي فعّال، فقد شهدت العديد من البلدان طفرة في نمو الإنتاجية في أواخر التسعينيات حينما أعادت الشركات تنظيم عملياتها على شبكة الإنترنت -أي ثلاثة أو أربعة عقود بعد التطورات التي حدثت في مجال الحوسبة والاتصالات التي ابتكرت الإنترنت- ولم يتوقع أحد حدوث تلك الطفرة الإنتاجية في تلك الفترة، وانتهت فجأة كما بدأت.
شهدت الاقتصادات المتقدمة تباطؤاً في نمو الإنتاجية لأكثر من أربعة عقود، ومن الواضح أن الحكومات ليس بإمكانها عمل شيء للتأثير على هذا الوضع بأي طريقة قابلة للتنفيذ، وقد يساهم تحسين البنية التحتية، ودعم البحث العلمي، وتعزيز التعليم، وتدريب العمال في زيادة سرعة نمو الإنتاجية بمرور الوقت، ولكن لا يمكن لأحد أن يعرف مدى سرعة تلك الاستثمارات في زيادة النمو.
وإذا ما ارتفعت الإنتاجية مرة أخرى، فمن شبه المؤكد أن يكون ذلك نتيجة الابتكارات الجذرية في القطاع الخاص، وهو أمر ليس من الصعب تصوره؛ فالتطورات (كالذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والتكنولوجيا النانوية) لا تبدو أنها حققت الكثير من أجل نمو الإنتاجية حتى الآن، ولكنها قد تحدث ثورة في الأعمال التجارية في المستقبل، وسيكون أمراً رائعاً تقاسم الدخل الناتج على نطاق واسع، وذلك إذا أحدثت تلك التطورات قفزة في الإنتاجية؛ ولحين حدوث ذلك فمن المرجح أن العالم سيبقى عالقاً مع اقتصاد يسير جداً.
المصدر:
https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2017-06-12/slow-productivity-growth-here-stay