عرّف البنك الدولي الفساد بأنه “أعظم عقبة أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية”، إن عملبة اجتذاب الاستثمار الأجنبي تعتمد على تنمية التوقعات المتعلقة بوجود بيئة عمل صحية، وتؤثر المعلومات المتعلقة بمستويات الفساد على استعداد المانحين لمساعدة البلدان النامية.
في 26 تشرين الأول من العام 2010 كشفت منظمة الشفافية الدولية (TI) عن نتائج مؤشر مدركات الفساد (CPI) -تم نشر هذا المؤشر لأول مرة في عام 1995 كأحد المؤشرات الرئيسة لقياس الفساد في دول العالم-، وقد سجل العراق تراجعاً شديداً في مؤشر مدركات الفساد باستمرار، وفي عام 2009 احتل المرتبة الرابعة من الأسفل من أصل 180 بلداً، قبل ميانمار وأفغانستان والصومال، إلّا أنّه في تقرير صدر في أوائل شهر تشرين الأول عام 2010 الذي شاركت في إصداره منظمة الشفافية الدولية -التي قيّمت مدى الشفافية في صناعات النفط والغاز والمعادن- قد احتل المرتبة 13 من أصل 41 دولة غنية بالموارد، وتصدّر الدول المجاورة له في الشرق الأوسط؛ لذا يتطلب فهم أسباب هذا التفاوت فحصاً وثيقاً لمنهجية مؤشر مدركات الفساد وآثاره في قياس تصورات الفساد في العراق.
إن مؤشر مدركات الفساد هو مؤشر إجمالي يصنف البلدان بناءً على نطاق الفساد بين الموظفين العموميين والسياسيين، وتعرِّف منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه “إساءة استخدام السلطة الممنوحة لتحقيق مكاسب خاصة”.
يعتمد مؤشر مدركات الفساد على 13 دراسة استقصائية من عشر منظمات مستقلة ترتب البلدان على وفق نطاق الفساد (التكرار و/أو حجم التعاملات الفاسدة)؛ تستند 6 من الدراسات الاستقصائية إلى آراء رجال الأعمال المحليين، أما المصادر 7 المتبقية فهي تقييمات من خبراء مقيمين وغير مقيمين في البلدان.
هناك تداخل محدود بين الدراسات الاستقصائية في البلدان التي يتم دراستها، إذ يجب أن يتوافر ثلاثة مصادر في كل بلد على الأقل لكي يدرج في تقرير مؤشر مدركات الفساد، ولا بدَّ من حدوث اختلافات في عدد المصادر المستخدمة لكل بلد، فعلى سبيل المثال: أن مؤشر مدركات الفساد (CPI) استند إلى 10 مصادر في الهند في حين لم تتوافر سوى 3 منها في هاييتي، تم تقييم 180 بلداً في عام 2009 بهذا المؤشر واحتسبت النتيجة النهائية لكل بلد على وفق متوسط الدرجات المقدمة من كل مصدر.
نقاط الضعف العامة لمؤشر (CPI)
تم تسليط الضوء على عدد من نقاط الضعف الكامنة في مؤشر (CPI) وأثيرت الشكوك حول منهجية منظمة الشفافية الدولية؛ إذ تعترف المنظمة بصعوبات قياس الفساد الفعلي، ولكنها تدعي بأن مؤشر (CPI) يعد طريقة موثوقة؛ لاعتماده على “تجربة أولئك الذين يرتبطون بنحوٍ مباشر مع الفساد في بلد ما”.
إن عدم وجود تعريف للفساد متفق عليه عالمياً يعد مشكلة كبيرة، إذ السؤال هنا هو إذا كانت الرسوم غير الرسمية المدفوعة للموظفين العموميين للحث على الخدمات البيروقراطية -المعروفة باسم مدفوعات التسهيل- تقع تحت الفساد أم لا؟ فإن ذلك يعتمد على المعايير القضائية لكل بلد بحسب تعريفه لمفهوم الفساد، وربما يُعدُّ رجال الأعمال في بلد ما المناقصات المغلقة شكلاً من أشكال الفساد، في حين أن تلك المناقصات قد تكون أمراً شائعاً في بلدان أخرى.
تم التبليغ عن عدد من الحالات التي تندرج تحت بند سوء إدارة الأموال في شركات الأمن الخاصة والمنظمات الدولية في العراق؛ لكن تعريف منظمة الشفافية الدولية للفساد بأنه “إساءة استخدام السلطة الممنوحة لتحقيق مكاسب خاصة” يحد من نطاق الأنشطة الفاسدة للموظفين العموميين والسياسيين، ويتجاهل الفساد في القطاع الخاص وداخل وكالات المساعدات الأجنبية.
بالنظر إلى مفهوم الفساد الذي يعرَّف على أنه “إساءة استخدام السلطة الممنوحة لتحقيق مكاسب خاصة”، يتبادر إلى الذهن التساؤل الآتي: هل هذا التعريف ينطبق على العديد من الأنظمة الاستبدادية حيث يتم الحصول على السلطة بالقوة والترهيب؟ فعلى وفق هذا التعريف لا يوجد في تلك الدول فساد، إذ إن السلطة غير ممنوحة؛ ولكن سيكون من الصعب القول إن الأنظمة الديكتاتورية ليست فاسدة؛ بل سيكون من المنطقي أن نقول إن جميع أنشطة تلك الحكومات فاسدة، لأن دافعها الأساسي هو الاستيلاء على السلطة لتحقيق مكاسب خاصة.
قد لا توجد بعض الأنشطة الفاسدة في البلدان الاستبدادية؛ بسبب طبيعة نظمها السياسية، فعلى سبيل المثال غالباً ما تُتهم جماعات الضغط وجماعات المصالح الخاصة في البلدان الديمقراطية بالتأثير على الأحزاب السياسية من خلال وسائل غير مشروعة؛ من أجل إقرار تشريع يخدم مصالحهم، إلّا أنه في البلدان التي لا يوجد فيها نظام حزبي تعددي، من المرجح أن يكون انتشار هذه الأنشطة أقل بكثير، وسيكون من غير المنطقي الاقتراح بأن هذه البلدان أقل فساداً بسبب الافتقار إلى تلك الممارسات، والجدير بالذكر أن البلدان التي تكون أكثر عزلة عن المجتمع الدولي وتقل فيها التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي بنحوٍ كبير، ستواجه حالات أقل من الرشوة المرتبطة بصفقات المناقصات.
نقاط ضعف العراق حسب تقرير مؤشر (CPI)
إن إلقاء نظرة فاحصة على المصادر المستخدمة لحساب مؤشر (CPI) في العراق يثير تساؤلات خطيرة حول دقة التقييم العام، إذ هناك ثلاثة مصادر فقط ساهمت في مؤشر (CPI) في العراق لعام 2009 وهي: مؤشر برتلسمان للتحول الديموقراطي والتنمية الاقتصادية، ومؤشر مؤسسة “وحدة إيكونوميست للمعلومات، وتصنيفات مخاطر البلدان لدى “جلوبال إنسايت”؛ وقد استنتدت هذه التقارير الثلاثة إلى التقييمات التي أجراها خبراء مقيمون خارج العراق ولم يتم تضمين آراء رجال الأعمال المحليين، فيما لم يساهم أي خبير محلي في أيٍّ من التقييمات الثلاثة في عام 2009.
طرح مؤشر برتلسمان للتحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية سؤالين يتعلقان بالفساد وتم تضمينهما في مؤشر (CPI)، الأول: إلى أي مدى توجد عقوبات قانونية أو سياسية على أصحاب المصلحة الذين يسيئون استخدام مواقعهم؟ والآخر: كم يتطلب من وقت حتى يمكن للحكومة السيطرة على الفساد بنجاح؟ تمت الإجابة عن السؤالين من قبل خبراء غير مقيمين في العراق، وكان من بين الإجابات عن السؤال الأول: “لا يُحاكَم أصحاب المناصب الفاسدون بالنحو الملائم بموجب القانون، بل يتعرضون إلى الانتقاد السلبي فقط”؛ إذن ستكون هناك حاجة إلى معرفة متعمقة للإجراءات القضائية في العراق لإجراء تقييم دقيق، وبالنظر إلى أن الخبراء لا يقيمون في العراق، فيجب أن تُعَدَّ إجاباتهم آراءً شخصية وغير موضوعية.
يتألف تقرير المصدر الثاني -مؤشر مؤسسة “وحدة إيكونوميست للمعلومات”- لحساب مؤشر (CPI) لعام 2009 من سلسلة من 60 متغيراً لتقييم المخاطر السيادية والسياسية والاقتصادية، ولكنّ هناك متغيراً واحداً فقط ذا صلة بقياس الفساد؛ إذ يقيّم الخبراء المقيمون في لندن ونيويورك وهونغ كونغ حالات الفساد من خلال النظر في عدة جوانب، مثل: استقلال القضاء، واختلاس الأموال العامة من قبل الموظفين لتحقيق مكاسب خاصة، ويتم تصنيف الردود في مقياس من 0 إلى 4، إذ تشير الدرجة “0” إلى وجود الفساد بدرجة “عالية جداً” في حين تشير الدرجة “4” إلى وجود الفساد بدرجة “منخفضة جداً”؛ وعادةً ما تتم مراجعة تلك الدرجات من قبل خبير داخل البلد، إلّا أنه في حالة العراق، لم يكن هناك أي خبير في عام 2009.
يقوم مؤشر جلوبال إنسايت لتصنيفات المخاطر لعام 2009 بتقییم احتیاجات الموظفین الفاسدین، وقد سجلت البلدان درجات ما بين (1-5)؛ إذ تشير الدرجة 1 إلى أنَّ البلد يمتاز ببيئة عمل مرتفعة إذ يكون الفساد بأدنى درجاته، في حين تشير الدرجة 5 إلى وجود صعوبات تشغيلية شديدة تجعل العمل أمراً مستحيلاً، وينتشر الفساد ليرتفع إلى أعلى مستويات الحكومة وتشمل الرشاوى مقابل منح العقود.
بناءً على ما تقدم، لم تعتمد أي من تلك المصادر الثلاثة في تقييمها للفساد بالعراق على “تجربة أولئك الذين يشهدون الفساد بنحوٍ مباشر”؛ نظراً لعدم مساهمة رجال الأعمال المحليين أو الخبراء المقيمين في تلك التقييمات، ومن المثير للاهتمام أيضاً أن مؤشر (CPI) اعتمد على الدراسات الاستقصائية والتقارير الموجزة بنحوٍ عام وغير محددة في تقييمها للفساد.
إساءة تفسير نتائج مؤشر (CPI)
يقول النقاد إن التفسير غير الصحيح للمؤشر من قبل وسائل الإعلام هو قاعدة وليس استثناءً؛ إذ يصنف المؤشر البلدان على وفق درجاتها الإجمالية، إلّا أنّ منظمة الشفافية الدولية تؤكد أنه لا ينبغي اللجوء إلى مؤشر (CPI) في مقارنة مستويات الفساد بين البلدان؛ ولكن ذلك لم يمنع الصحفيين الموثوقين والخبراء من تقديم ادعاءات غير صحيحة فحسب، بل أسندتها إلى منظمة الشفافية الدولية، فبعد صدور نتائج مؤشر (CPI) لعام 2009 أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أن “الدول التي مزقتها الحرب ما زالت الأكثر فساداً في العالم، بحسب ما ذكرته منظمة الشفافية الدولية”، إذ قال المعلق الشهير حول الشؤون العراقية باتريك كوكبرن إن: “العراق هو الدولة الأكثر فساداً في العالم، وعلى وفق منظمة الشفافية الدولية فإن الدول الأكثر فساداً من العراق هي الصومال وميانمار، بينما احتل كل من هايتي وأفغانستان نهاية القائمة”.
تؤكد منظمة الشفافية الدولية أيضاً عدم ملاءمة المؤشر لرصد التقدم الذي يحرزه البلد على مرِّ الزمن، إذ شهد العراق بعض التحسن، فقد ارتفع ليصل إلى المرتبة 176 من أصل 180 بلداً، أي بصعود عن العام الماضي بمرتبتين”، فَيُعَدُّ ذلك نقطة حرجة؛ لأن التغيرات في تصورات الفساد على مر الزمن لا يستدعي بالضرورة حدوث تغييرات في الفساد الفعلي.
ونظراً للأسباب المذكورة آنفاً فإن مؤشر (CPI) هو مؤشر غير موثوق فيما يخصُّ مستويات الفساد الفعلية في العراق، فبدلاً من تعزيز الجهود المبذولة لمكافحة الفساد، قد تؤدي نتائج المؤشر إلى تفاقم التصورات حول الفساد المستشري، الذي سيؤدي إلى الوقوع في “فخ الفساد”؛ مما سيشكل عقبة خطيرة أمام التنمية المستدامة في العراق.
تقييم آليات مكافحة الفساد
ينبغي أن تتجه الجهود نحو تحديد نقاط القوة والضعف في الأطر المؤسسية من طريق تقييم فعالية آليات مكافحة الفساد داخل الهيئات التشريعية والقضائية والتنفيذية، عوضاً عن التركيز فقط على محاولات تحسين دقة قياس مدى تفشي الفساد في الدولة، ويتماشى هذا النهج مع استراتيجية البنك الدولي للحوكمة الرشيدة في التصدي للفساد، التي تهدف إلى “الحد من الفساد في الوقت الذي يتم فيه فرض عقوبات شديدة على الفاسدين الذين يتم الإمساك بهم”.
هناك إدراك متزايد بأن على مؤشرات الفساد أن تكون أكثر صلة بأصحاب المصلحة في البلدان التي يتم تقييمها؛ إذ عادةً ما تكون المؤشرات المركبة ضعيفةً في تقديم استراتيجيات قابلة للتنفيذ للوكالات المحلية لمكافحته، ويكمن الفهم الدقيق للفساد في العراق وإيجاد حلول لممكنه له عبر تشجيع عمل دراسات وطنية حوله من طريق إشراك أصحاب المصلحة المحليين من المجتمع المدني والحكومة والقطاع الخاص، وفضلاً عن ذلك فإن الشراكات مع المنظمات الدولية من شأنها أن تمنح المصداقية لعملها وتوفير الخبرة التقنية كذلك.
نظراً لتداعي الأمن وانعدام وجود شركاء كافيين، لم تقم منظمة الشفافية الدولية بإنشاء مكتب في العراق؛ فإذا كانت المنظمة جدية في سعيها لفهم طبيعة الفساد فإنها بحاجة للوصول إلى الجماعات العراقية الأصلية التي تواجه واقع العراق بنحوٍ مباشر، فضلاً عن حاجتها إلى التغلب على تصورها بأن العراق هو مكان خطير جداً للعمل فيه.
المصدر: