صحيفة الإيكونوميست
في العام 2012، قال ديفيد سوتر أحد العاملين المتقاعدين من المحكمة العليا الأمريكية: إن أكبر تهديد للديمقراطية الأمريكية لا يتمثل بالغزو الأجنبي ولا بالانقلاب العسكري ولكن بالجهل حول الكيفية التي تعمل بها الحكومة، وذكر أن “الشعب الجاهل لا يمكن أن يظل شعباً حراً” مقتبساً من كلام توماس جيفرسون -الرئيس الثالث للولايات المتحدة- “والديمقراطية لا يمكنها البقاء مع وجود كثير من الجهل”، إذ سيصبح الناس على استعداد لتسليم السلطة إلى رجل قوي يحمل وعوداً بحل جميع مشكلاتهم، “وهذا هو السبب وراء سقوط الجمهورية الرومانية… وهذه هي الطريقة التي تموت فيها الديمقراطية، وإذا لم يتم فعل شيء لتحسين مستوى المعرفة المدنية، فيجب علينا أن نقلق.”
لقد كان سوتر يشير إلى دراسة مسح القيم العالمية -دراسة عالمية أُجريت من قبل مجموعة من علماء الاجتماع من أكثر من 100 دولة-، إذ وجدت الدراسة أن عدد من يعترض على الاستبداد من جيل الألفية الجديدة أقل بكثير من أعداد المعترضين من كبار السن، إذ وجدت الدراسة أن 19% فقط من جيل الألفية الجديدة في أمريكا و36% في أوروبا يعتقدون أنه إذا ما كانت الحكومة عاجزة أو لا تقوم بعملها، فإن وقوع انقلاب عسكري أمر غير مشروع، ويعتقد ثلث العدد فقط أن الحقوق المدنية “ضرورية للغاية” للديمقراطية، إذ يتجاهل أكثر من ربع الشباب في الولايات المتحدة أهمية إجراء انتخابات حرة، ففي عام 1995 اعتقد 16% فقط من الشباب الأميركي أن الديمقراطية نظام “سيّئ”، وبحلول عام 2011 ارتفع هذا العدد ليصل إلى ما يقرب من 25%.
قد يعزى ذلك إلى أن الديمقراطيات طويلة الأمد قد أغفلت الحاجة إلى تفعيل اليقظة الدائمة، وبسبب القلق حول البطالة والمنافسة العالمية، ركزت الحكومات والمدارس على إعداد الشباب للعمل، وليس للمشاركة في العملية الديمقراطية، ولذلك قال وزير التعليم البريطاني في الفترة 2010-2014 مايكل غوف: إن موضوع تعليم المواطنة “موضوع زائف”، أما في الولايات المتحدة، فلم تعد المدارس مهتمة بإعداد هذا الموضوع، وحينما يتم تدريس الموضوع، فغالباً ما يتم الاهتمام به بنحوٍ ضئيل باعتبارها وسيلة لمواجهة التطرف أو تعزيز القيم الوطنية لدى المهاجرين الجدد، كما يقول بريوني هوسكينز من جامعة روهامبتون.
في بريطانيا، تم تفكيك منهج المواطنة الذي يعدُّ إيجابياً إلى حد المقدم من قبل حزب العمال في عام 2002، وهناك كثير من الحديث عن “التعليم من أجل الشخصية”؛ وذلك بهدف تطوير “المثابرة” و”الصمود”، ولكن المنهج ليس شاملاً ولا فعّالاً جداً، يقول بن كسبي من جامعة لينكولن: إن هذا يعكس تركيز الحكومة على التلاميذ كعمال ومستهلكين في المستقبل، بدلاً من كونهم ناخبين.
في بولندا، أدّى التنقيح الأخير على منهج المواطنة وحذف الفصول التي تتحدث عن الكيفية التي يعمل بها الاتحاد الأوروبي، إلى التركيز على تشكيل الهوية البولندية، التي تكون فيها “الدولة” أكثر أهمية من “المجتمع”، و”البولندي” أقوى من “المواطن”، هكذا تقول الدكتورة أليسيا بيسوكز من مركز تعليم المواطنة في وارسو.
أما في أمريكا، فلا تقوم دروس التربية المدنية بتغطية مواضيع الحياة في الدول غير الديمقراطية، إذ كانت المدارس تثقف الطلبة حول الحياة في الاتحاد السوفيتي، يقول ريتشارد كالنبرج من مؤسسة القرن الفكرية: هذا يركز على النظام الديمقراطية من خلال المقارنة مع الأنظمة الأخرى، ولكن حينما انتهت الحرب الباردة توقف هذا التعليم، وقال كالنبرج إنه يعتقد أن تراجع التأييد للقيم الديمقراطية هو نتيجة جزئية لهذا، إذ “من السهل أن يكون الشخص متشككاً [حول قيمة الديمقراطية] حينما لا يعرف شيئاً عن النظم والقيم الأخرى”، فمن دون وجود ما يساعدهم على تقدير الفوائد والضمانات التي تظمنها الديمقراطية، قد يكون الشباب عرضة للأفكار العاطفية والخطب القومية النارية التي تتحدث عن الاستيلاء تجاه “النخب” في السلطة.
مختبرات للديمقراطية:
إن أفضل دروس التربية المدنية لا تقوم بنقل المعرفة حول كيفية عمل الحكومة فقط، لكنها تخلق بيئات يعتاد فيها التلاميذ على قيم الديمقراطية، مثل مناقشة القضايا المثيرة للجدل والاختلاف باحترام. قد يشعر الآباء بالقلق من أن المدارس تلقن أطفالهم، ويمكن للمعلمين أن يكونوا حذرين جداً حين القيام بذلك، ولكن المدارس أكثر تنوعاً فكرياً من العديد من البيئات الأخرى؛ مما يجعلها مثالية لاختبار هذه القيم.
يقول بيتر ليفين -من مركز المعلومات والأبحاث حول التعلم المدني والمشاركة في جامعة تافتس-: من المهم تجنب الدعاية، فقد تكون انتقادات التلاميذ لسياسة بلادهم وحكمهم شرعية تماماً، وقد تكون عدم ثقة أفراد بعض الأقليات تجاه أذرع الدولة (مثل الشرطة) مبررة، وإن تشجيعم في الفصول الدراسية على ذلك قد ينفرهم أكثر وأكثر، ومن الأفضل أن يتم الجمع بين الواقعية والمناقشات حول الخطوات العملية التي يمكن للتلاميذ اتخاذها لإحداث التغيير، ويقول ليفين: بدلا من مجرد تعليمهم حول قانون حقوق التصويت وقانون مارتن لوثر كينغ جونيور، يتم استخدام القصة وراء القوانين للتأكيد على أن الحركات الاجتماعية من قبل الناس العاديين يمكن أن تحدث فرقاً.
تسعى المدارس في بلدان الشمال الأوروبي إلى ضمان تطوير القيم الديمقراطية الحق عبر المناهج الدراسية من البداية، إذ يشارك الأطفال الصغار في اتخاذ القرارات المناسبة لفئاتهم العمرية: كاختيار اسم المجموعة أو ما الذي سيتم أكله على سبيل المثال، ومن المتوقع أن يساعد التلاميذ الأكبر سناً في تطوير سياسة المدرسة، إذ يتعلمون طرح القضايا، والتعامل مع الخسائر أمام الأغلبية، وأن لكل خيار-حتى وإن كان الامتناع عن التصويت- عواقب.
وتشير البحوث إلى أن هذه البرامج ذات جدوى، إذ من المرجح أن يشارك التلاميذ الذين اعتادوا على مناقشة الشؤون الراهنة في الأمور السياسية في مجتمعاتهم، والتصويت حينما يحق لهم ذلك، وتزيد برامج التربية المدنية من احتمال أن يتقبل التلاميذ الناس من مختلف الخلفيات، ففي النرويج يشارك 95% من الطلبة الذين تتراوح أعمارهم 14 عاماً في انتخابات المدرسة -أكثر من أي بلد آخر- ويشارك العدد نفسه تقريباً في الأنشطة متعددة الثقافات خارج المدرسة.
حول البرنامج الجديد “تعلم الديمقراطية في أوتويا” -الجزيرة النرويجية- حيث قتل 69 شخصاً على يد إرهابي يميني متطرف في عام 2011 إلى مركز للتعليم، فعلى مدى ثلاثة أيام يتعلم التلاميذ عن الهجوم، وكذلك التحديات التي تواجه القيم الديمقراطية وكيفية الرد عليها، والجزء الأكبر من هذا البرنامج تفاعلي؛ مما يدفع الطلبة للتفكير في القيم الديمقراطية والتعبير عن مواقفهم، ثم يقومون بتطوير دروس لمشاركتها مع أقرانهم في المدرسة، ويقول المشاركون إنها تجربة عاطفية؛ لأن معظم الضحايا من المراهقين.
المصدر: