هارون شتاين، زميل مقيم أول في مركز رفيق الحريري في الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي.
بعد منتصف ليلة رأس السنة توجه عبد القادر مشاريبوف في سيارة أجرة إلى ملهى رينا الليلي الشهير في إسطنبول بالقرب من مضيق البوسفور، وبعد نزوله من السيارة، قام بأخذ سلاح كلاشينكوف من صندوق السيارة، وبدأ بإطلاق النار بينما توجه نحو مدخل النادي، بعد أقل من 10 دقائق كان عبد القادر قد أفرغ ستة مخازن من الذخيرة؛ مما أسفر عن مقتل 39 شخصاً وإصابة 69 آخرين بجروح.
قام تنظيم داعش بشن هجمات في تركيا منذ آيار عام 2015، ويقع مقر المجموعة الرئيسة المسؤولة عن هذه الهجمات في غازي عنتاب وبقيادة مواطنين أتراك أمضوا وقتاً طويلاً في سوريا في عامي 2013 و2014، وكانوا هم المسؤولين عن إيصال الإمدادات عبر الحدود السورية إلى تنظيم داعش. أدت سلسلة من مداهمات قامت بها الشرطة إلى تعطيل نشاط الخلية بشدة، وتربط هجمات تنظيم داعش الأخيرة بشبكات وخلايا متمركزة في تركيا، وقد دعا زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي على وجه التحديد إلى شن هجمات في تركيا رداً على التدخل العسكري التركي في سوريا، أو ما يسمى بعملية درع الفرات.
يعد الهجوم على ملهى رينا أحدث تذكير بأن الحكومة التركية لم تكن واضحة، ولم تحدد أو تنفذ أي استراتيجية متماسكة لمواجهة تهديد الإرهاب متعدد الجوانب الذي تواجهه الآن، زهذا بطبيعة الحال يشمل حزب العمال الكردستاني (PKK) وتنظيم داعش، فبدلاً من ذلك، تعتمد الحكومة فقط على العمل العسكري من دون تحديد أي أهداف سياسية قابلة للتحقيق لمعالجة بعض العوامل المسببة للإرهاب، وقد خلقت هذه الاستراتيجية العسكرية حوافز لتوجيه خطاب شعبوي مناهض للغرب الذي يساهم الآن في تآكل علاقات تركيا مع حلفائها ولاسيما الولايات المتحدة.
هجوم رينا:
قبل تنفيذ هجوم رينا قام عبد القادر مشاريبوف بسلسلة من الخطوات لتجنب الكشف عنه، إذ سافر أولاً إلى قونية -مدينة في محافظة دينيا في منطقة الأناضول الوسطى من تركيا- مع زوجته وطفله قبل أن يتوجه إلى إسطنبول، من غير معرفة مكان معيشته بالتحديد، ولكن يظهر شريط فيديو له قيامه بتصريف المال في لاليى -حي يقع بالقرب من فاتح وقريب جداً من الشقة التي كان يعيش فيها ثلاثة من المهاجمين على مطار أتاتورك الذين اقتحموا المطار ببنادق هجومية بأنقرة ومرتدين أحزمة ناسفة، أسفر عن مقتل 48 شخصاً بينهم الانتحاريون الثلاثة-، وتشير الأدلة المجزأة ألى أن مطلق النار في رينا تلقى مساعدة لوجستية، إذ يبدو أن شخصاً آخر قد أعطاه المال لشراء شقة في قونية وموّل الهجوم نفسه في إسطنبول، وهناك احتمال بأن عدد المتورطين يكون أكثر من ذلك.
يركز التحليل في تركيا أساساً على ما إذا كان المسلح قد تلقى تدريباً عسكرياً، وتشير مقاطع الفديو القليلة إلى أن مطلق النار كان متمرساً على استعمال السلاح (البندقية)، إذ ربط مخزنين للسلاح معاً، واستخدم قنابل ضوئية (فلاش)، والحقيقة هي أنه وبغض النظر عن التدريب الذي تلقاه مطلق النار، ستمكن أي مطلق نار أخر من النجاح مع حمله لسلاح ناري ذي قدرة عالية في منطقة مزدحمة، ولاسيما في الليل وفي محيط اجتماعي.
ويبدو أن مطلق النار قد قام بخطوات كبيرة للهرب من قوات الشرطة، فعلى سبيل المثال، يقال إنه قام بصعود ثماني سيارات أجرة، ست منها قبل الهجوم واثنتان بعده حينما أراد الهرب، إلا أنه أخطأ، فحين محاولته الهروب ترك مطلق النار معطفه وبعص النقود داخل النادي؛ وبالتالي لم يكن لديه المال لدفع ثمن سيارة الأجرة التي ستهربه، وقام مطلق النار بسلسلة من المكالمات الهاتفية من الهاتف الخليوي للسائق، وهذا هو الخطأ الذي قد ساعد الشرطة التركية في تضييق البحث عن المسلح حتى حي التكافح في إسطنبول، وفي وقت كتابة هذا التقرير، من غير الواضح ما إذا كانت الشرطة قد استردت الهاتف الخليوي لمطلق النار، وهذه هي النقطة الرئيسة للأدلة التي يمكن أن تساعد على تسليط الضوء على الشبكة الداعمه لمنفذ الهجوم.
يوضح هذا الهجوم صعوبة تتبع شخصاً ما في إسطنبول؛ إذ يعد حي تكافح موطناً لعدد كبير من المهاجرين من آسيا الوسطى، وهو حي ممتلئ بمساجد غير رسمية وأماكن للعبادة، تعمل خارج وزارة الديانات للحكومة التركية، وتعد المنطقة مماثلة لتلك المناطق التي يتم فيها نشر التعصب بين أعضاء تنظيم داعش.
تهديد الإرهاب: الصراع متعدد الأوجه في تركيا:
يأتي الهجوم في رينا وسط موجة من العنف تجتاح تركيا؛ وبالتالي يجب أن ينظر إليها في السياق الصحيح، فقبل شهر من الهجوم تبنت جماعة صقور حرية كردستان (TAK) -وهي وحدة فرعية تابعة لحزب العمال الكردستاني- مسؤوليتها عن الهجمات الانتحارية في حي بشيكتاش في إسطنبول وهجوم آخر في قيصري، وأسفر الهجومان عن مقتل 58 شخصاً، وبعد ذلك بوقت قصير قام ضابط الشرطة ميفلوت ميرت التينتاش، باستخدام سلاحه لاغتيال السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف، وتزعم وسائل الإعلام الموالية للحكومة أن التينتاش على صله برجل الدين المنفي فتح الله غولن، الذي اتهم أيضاً بتدبير محاولة الانقلاب في 15 تموز عام 2016، وتكهن آخرون بأن التينتاش مدفوع من جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة، أو تنظيم داعش، وأنه قام بذلك كرد على روسيا للقيامها بعمل عسكري في سوريا ودعمها لبشار الأسد.
إن الدوافع الحقيقية وراء عمل التينتاش غير معروفة، ولكن ليس هناك من ينكر أنه وقبل عملية الاغتيال كان العديد من المواطنين الأتراك غاضبين تجاه حملة روسيا العسكرية في حلب، إذ اندلعت احتجاجات أمام السفارة الروسية في أنقرة والقنصلية في إسطنبول، وفي الآونة الأخيرة، تم اعتقال ضابط شرطة في سيرت لكتابته تغيردات متعاطفة مع تنظيم داعش.
في جنوب شرق تركيا، ما زال حزب العمال الكردستاني يواصل التمرد بمناطقها الريفية، في الوقت الذي تضررت فيه جماعاته في المناطق الحضرية في جميع أنحاء البلاد، ويخوض الجيش التركي الآن الصراع في جبهتين ضد المتمردين الأكراد في تركيا وسوريا، في الوقت الذي يقاتل فيه تنظيم داعش في سوريا أيضاً، وقد عانى الجيش التركي كثيراً من أجل السيطرة على مدينة الباب، إذ فقد 16 جندياً في الآونة الأخيرة في هجوم فاشل على الطرف الغربي من المدينة يوم 22 كانون الأول الماضي، وفي اليوم التالي، أصدر تنظيم داعش شريط فيديو لجنديين تركيين، أخذوا كرهائن قبل بدء العملية العسكرية الحالية لتركيا في سوريا، وقد أحرقوا وهم أحياء، وقد أشارت الحكومة التركية إلى أن الجيش التركي لم يكن قادراً على تأكيد صحة شريط الفيديو، في حين أشار النقاد في التلفزيون إلى أن هذا الفيديو وهمي أو مؤامرة أمريكية للإطاحة بالحزب الحاكم.
تأتي هذه التهديدات الإرهابية وسط الاضطراب الشديد في الدولة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، واتهمت الحكومة التركية فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب؛ وبالتالي تحاسب الولايات المتحدة أيضاً لإعطائها البطاقة الخضراء لغولن الذي يعيش في ولاية بنسلفانيا، ويقع عبء تقديم أدلة تورطه في الانقلاب على عاتق الحكومة التركية.
إن محاولة الانقلاب الفاشلة وموجة الرعب التي تبعتها زادت من الشعور القومي بنحو واسع، وقد استعملت الحكومة هذه الزيادة في الشعور القومي والمناهضة للغرب للتقليل من أهمية الانتقادات الموجهة “لحربها على الإرهاب”؛ وقد أدى ذلك إلى زيادة الغضب تجاه الولايات المتحدة -التي تدعم جماعات حزب العمال الكردستاني في سوريا في معاركه ضد تنظيم داعش-، ورداً على ذلك، قلصت تركيا تعاونها مع الولايات المتحدة في سوريا، ومع ذلك، لا تزال الحكومة التركية ترى أنه من المناسب سياسياً إلقاء اللوم على واشنطن حينما تواجه خسائر فادحة.
درع الفرات ونظريات المؤامرة:
قلص الجيش التركي من تعاونه مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ولم تعطِ أنقرة إشعاراً لواشنطن بأنها على وشك شن عملية درع الفرات، وقد تم إشعارهم بذلك ليتزامن مع وصول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في ثاني زيارة لمسؤول كبير من الولايات المتحدة أعقاب الانقلاب الفاشل، ويمكن أن يقرأ هذا الإعلان وقت الزيارة على أنه محاولة لإحراجه أو فرض الأمر الواقع على واشنطن، ورد الجيش الأمريكي بسرعة من خلال وضع خطة لدعم العملية، بما في ذلك نشر قوات العمليات الخاصة الأميركية بجانب القوات التركية، ومع ذلك ومع تقدم العملية، واصلت أنقرة حجب المعلومات عن نطاق عملية درع الفرات وأهدافها، واكتشفت الولايات المتحدة في وقت لاحق أن بعض الجماعات المتمردة تقاتل إلى جانب القوات العسكرية التركية في سوريا؛ وقد وسعت أنقرة -في وقت لاحق- من نطاق عملها ليشمل مدينة الباب، ولكن لسوء التخطيط تباطأ التقدم، وتتهم أنقرة واشنطن بالنكسات التي حدثت في الباب، دون الاعتراف بأن القرارات في المسيرة نحو المدينة وإطلاق عملية درع الفرات قد قدمت من جانب واحد، وقد كان من السهل التنبُّؤ بمخاطر القتال في المدن.
لقد أوضحت وسائل الإعلام التركية بأن التردد من زيادة الدعم الجوي الامريكي في عملية درع الفرات يأتي كمثال على الدعم الأميركي للجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني في سوريا، وحزب الاتحاد الديمقراطي، وتنظيم داعش، وقد أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا البيان مؤخراً، وقال للصحفيين إن الحكومة التركية تمتلك “صوراً وفيديوات” تبيِّنُ دعم الولايات المتحدة لكلٍّ من تنظيم داعش، وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وقد صدر بيان من السفارة الأمريكية في أنقرة يرد على هذه الاتهامات، ولكن الرئيس التركي قام بتصريحات مماثلة في الماضي؛ وفي المقابل، كتبت وسائل الإعلام الموالية للحكومة في كثير من الأحيان حول الدعم الأميركي لداعش، وفي أعقاب الهجوم على ملهى رينا، انتشرت فكرة أن وكالة المخابرات الأمريكية متورطة في الهجوم، إذ ظهر “خبراء” أتراك على شاشات التلفاز، وأشاروا إلى أن استخدام القنابل الضوئية (الفلاش) يعدُّ دليلاً على تواطؤ الولايات المتحدة.
إن منطق واشنطن كثير السهولة، وسيؤدي تمديد الدعم الجوي لعملية درع الفرات إلى خطر فتح صراع فرعي جديد في سوريا بين الجيش التركي وحزب الاتحاد الديمقراطي؛ وهذا من شأنه أن ينقص من جهود الضغط على داعش في الرقة -القاعدة الرئيسة لعمليات التنظيم في سوريا- وللضغط على كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والجيش التركي للتركيز على داعش، قررت الولايات المتحدة مؤخرا ًأن تعطي معلومات استخباراتية للقوات التركية في الباب، وقد جاء هذا القرار –على وفق صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست- بعد أن خففت أنقرة من قواعد الاشتباك للطائرات من دون طيار وطائرات الاستطلاع التابعة للتحالف في المناطق المأهولة، وفي المقابل يبدو أن التحالف يقديم المساعدة للجيش التركي في عمليات الاستهداف، وهذه قدرة من شأنها أن تعزز من فعالية القوة الجوية التركية، ولكن مع بعض الخطر تجاه الطائرات الأمريكية العاملة في المنطقة.
الشعبوية التركية:
تساعد الأدوات المضادة للغرب جنباً إلى جنب مع الزيادة الطفيفة في الشعور بالقومية على دفع الأولوية التشريعية العليا لحزب العدالة والتنمية المتمثلة بتمرير دستور جديد من شأنه أن يضمن الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي للحكومة، إن هذا التحول الذي حصل على دعم من قيادة حزب الحركة القومية من شأنه أن يعزز النفوذ بيد السلطة التنفيذية؛ مما يقوّض بنحوٍ دائم ما تبقى من المؤسسات الديمقراطية في تركيا.
كثيراً ما تتحدث الحكومة التركية بضرورة التوحد ضد الإرهاب “بكافة أشكاله”، وهو انتقاد ضمني لسياسات الولايات المتحدة في سوريا، لكن عبارة “مسك الكل” لا تماثل عملية اتّباع سياسة سليمة، فموجة الإرهاب في تركيا تعد إلى حد كبير كمنتج ثانوي للقرارات العديدة التي أُقرت في أنقرة، وكثير منها تنبع من إعادة التركيز على “القضية الكردية” في عام 2015، والفشل المستمر في توحيد الطرق التركية لتحقيق نهاية للدولة في سوريا، أما الدولة الإسلامية (داعش) فهي على النقيض من ذلك إذ تحتاج فقط إلى البقاء على قيد الحياة، قبل الاستفادة من الانقسامات العرقية والدينية للعودة إلى المناطق التي تركت بصمتها فيها تأريخياً.
وفي ظل غياب أي استراتيجية سياسية واسعة النطاق وتشمل الجهود الرامية إلى معالجة الأسباب الجذرية للتمرد الذي يقوده حزب العمال الكردستاني في تركيا، فإن المكاسب الصلبة للدولة التركية قد تنهار في المستقبل القريب سواء أفي سوريا أم في جنوب شرق تركيا، فمشكلات تركيا مع الإرهاب مترابطة، مع إجراءات متخذة ضد حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا -الذي يقف الآن في مناطق متاخمة للمنطقة العسكرية التركية شمال الباب-، وتشير النتيجة النهائية إلى أن المشكلات السياسية التي تساهم في هذه الموجة من الإرهاب لا تزال دون معالجة، ومن المرجح أن تستمر أعمال العنف؛ وهذا بدوره سيستمر في تغذية الخطاب الشعبوي المناهض للغرب من قبل الحزب الحاكم في تركيا الذي قد يكون مفيداً من الناحية السياسية على المدى القصير ولكنه يكون كارثياً على المدى الطويل؛ لأنه ينتقص من القرارت السليمة لمواجهة التهديد الإرهابي، ويعمل للحفاظ على مكانة تركيا الجيوسياسية في صنع القرار، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى نجاة تنظيم داعش على الرغم من تعرضه لهزيمة ثقيلة جداً، وتساعد تكتيكاته الإرهابية على السماح له باكتساب القوة على المدى الطويل، مما يؤكد استمرار فعالية التنظيم كجماعة ارهابية.
المصدر:
https://warontherocks.com/2017/01/turkey-is-tangled-up-in-terrorism/