جونول تول،عمر تاسبينار
نادراً ما يظهر قادة الجيش التركي بنحوٍ علني في الأحداث السياسية، ولكن في السابع من آب ظهر خلوصي آكار -رئيس أركان الجيش التركي- مرتدياً زيه الرسمي أمام تجمع لأكثر من مليون شخص في إسطنبول إلى جنب الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلديريم وقادة المعارضة التركية، تقدم آكار بشكره للمواطنين الأتراك لمساعدتهم في سحق محاولة الانقلاب التي حدثت في حزيران، قائلاً إن “الخونة” وراء ذلك سيتم معاقبتهم بشدة.
إن صورة الوحدة بين الشعب والجيش والسياسيين المنتخبين تعد تناقضاً كبيراً للصور الدموية التي ظهرت بعد أحداث محاولة الانقلاب في شهر تموز، التي أظهرت قادة الجيش والجنود وهم يتعرضون للتعذيب على أيدي رجال الشرطة، وأبرزت أيضاً التحول الذي يجري حالياً في العلاقة بين الحكومة التركية وجيشها.
يحاول أردوغان تحقيق التوازن بين اثنتين من الضرورات في تعامله مع القوات المسلحة التركية، إذ يجب على الرئيس إعادة بناء الجيش المحطم وتحويله إلى مؤسسة قوية تحظى بالاحترام، ويمكن إبراز قوتها في مواجهة التحديات الأمنية التي تتمثل بالانفصاليين الأكراد وإرهاب تنظيم داعش من جهة، ومن جهة أخرى التأكد من أن الجيش يخضع لسلطته بالكامل؛ لتحقيق التوازن بين هذه المطالب فإن أردوغان سيعتمد على التحالف بين حكومته الإسلامية مع العناصر العلمانية المتطرفة في الجيش التركي والمجتمع، إذ إن هذا التحالف قصير المدى من شأنه إخماد آفاق السلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني، وقد يبعد تركيا عن الغرب ويدفعها باتجاه الصين وإيران وروسيا.
تحالف أردوغان الجديد
إن الجيش لم يثق أبداً بالسياسيين للخضوع لهم بنحوٍ تام كونهم حراس العلمانية في تركيا، إذ هدفت تدخلات الجيش في السياسة في الأعوام (1960، 1971، 1980، 1997) إلى حماية الجمهورية مما كان يراه القادة العسكريون بأنها نوايا ضارة تصدر من السياسيين الأتراك، وكان الجيش في نظر الرأي العام التركي لفترة طويلة حارساً لرؤية مصطفى كمال أتاتورك للدولة القومية التركية العلمانية.
من الناحية التأريخية، كان الجيش يؤدي أعماله في ظل غياب الرقابة المدنية، إذ بعد كل انقلاب، حرص القادة العسكريون على توسعة نفوذهم من خلال سن القوانين والأنظمة الجديدة؛ ونتيجة لذلك تمتع الجيش باستقلال كبير.
في الأشهر الأخيرة كانت مهمة أردوغان هي تجريد هذه الاستقلالية من القادة العسكريين من دون المساس بفعاليّة الجيش، وفي الأسابيع التي تلت محاولة الانقلاب وضعت الحكومة كل من خفر السواحل وقوات الدرك -وهي قوة الأمن الداخلي- تحت سيطرة وزارة الداخلية، وخَضَع الجيش والقوات الجوية والبحرية تحت سيطرة وزارة الدفاع، وقامت أنقرة بإغلاق المدارس العسكرية التركية، ومررت قوانين جديدة من شأنها السماح لخريجي مدارس (إمام خطيب الدينية) –التي تقوم بتدريب الخطباء- بالانضمام إلى القوات المسلحة، يحاول أردوغان كذلك بأن يضع رئيس هيئة الأركان العامة تحت السيطرة المباشرة لمكتب الرئيس، وإقامة نظام جديد الذي يخول الرئاسة بالموافقة على منح الترقيات العسكرية رفيعة المستوى والتعيينات، إن نظام قانون الطوارئ الذي طبق بعد محاولة الانقلاب وتم تمديده إلى تشرين الأول يسمح للحزب الحاكم -الذي يسيطر عليه أردوغان- بتمرير هذه الإصلاحات الهيكلية من غير إشراف قضائي أو تشريعي حقيقي.
إن الطريقة المثلى في إخضاع الجيش لسيطرة أردوغان مع الحفاظ على فعاليته ستكون باللجوء نحو الأفراد العلمانيين.
من شأن هذه الإجراءات أن توجه تركيا نحو إحلال السيطرة المدنية الكاملة على الجيش، ومع ذلك فإنها سوف تقوّض صلاحيات القوات المسلحة وتسيسها، إذ تسببت حملات أردوغان التطهيرية -التي استهدفت الآلاف من الموظفين العسكريين وما يقارب من نصف الجنرالات الأتراك- بإضعاف الجيش، ومن المرجح أن تقوم التغييرات المؤسسية المتسرعة بتعطيل سلسلة من الأوامر وزرع الانقسامات والمنافسة في صفوف الجيش، وعلى المدى البعيد، فإن خطة أردوغان لزرع الفكر المحافظ والإسلام في الجيش وملء مؤسساتها مع الموالين للحكومة قد يؤدي إلى تسييس الضباط؛ وبالتالي إضعاف الجيش.
إن الجيش حالياً أضعف من أن يقاوم هذه التغييرات أو حتى بالحفاظ على استقلاليته، ويظهر ذلك في التوغل العسكري التركي في سوريا الذي بدأ في آب -بعد أن قاوموا مطالب أردوغان في التدخل لعدة سنوات- وذلك كإثبات على ولائهم.
إن الطريقة المثلى في إخضاع الجيش لسيطرة أردوغان مع الحفاظ على فعاليته ستكون -كما ذكرنا- باللجوء إلى العلمانيين -الكماليين- الذين غالباً ما تعرضوا للتجريح من قبل أردوغان منذ وصوله إلى السلطة في عام 2002، ومن دون تعاون تلك المجموعة –التي ينتمي إليها أعداد هائلة من الأفراد في الجيش- فإن حكومة أردوغان ستعاني بنحوٍ كبير في استبدال الآلاف من ضباط الجيش، أما من وجهة نظر الكماليين فإن التعاون مع أردوغان في الوقت الحالي من شأنه أن يساعد في إصلاح سمعة الجيش المتضررة وحماية أيديولوجياتها من الاعتداءات.
إن تصريح الحكومة المتمثل باتهام أتباع رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية -فتح الله غولن- في شن الانقلاب ضد الحكومة سيقوم بتيسير هذا التعاون، نظراً لكونها قد تغاضت عن دور الكماليين في أعمال العنف، ويوجد عدد كبير لأتباع غولن في الجيش التركي الذين تم تجميد رتبهم منذ عام 2002 -حينما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة- ونتيجة لذلك كانت معظم رتبهم على مستوى عقيد وما دون، والجدير بالذكر أن اعترافات بعض الضباط الكماليين فضلاً عن أعداد الجنرالات المشاركين في محاولة الانقلاب مع تصريحات الحكومة تتناقض باتهام أتباع غولن حصراً في محاولة شن الإنقلاب.
سيواصل كل من القادة المدنيين وكبار الضباط في إنكار تورط الكماليين، إذ إن اعتبار أنصار غولن المسؤولين الرئيسيين لمحاولة الانقلاب هو ما شكّل حجر الأساس لتحالف الحكومة مع الكماليين، وإن شروط هذه الشراكة واضحة وهي: أن يخضع الجيش للحكومة الإسلامية، وبالمقابل سيسمح أردوغان بزيادة قوة الكماليين على المدى القصير.
قد يسفر عن تحالف الحكومة مع الكماليين ظهور دولة تركية استبدادية وقومية ومناهضة للغرب:
هناك دلائل تشير إلى أن هذا التحالف بدأ يتشكل، إذ في أعقاب محاولة الانقلاب فإن عشرة ضباط كماليين برتبة عقيد -الذين قد حكم عليهم بالسجن في محاكمات جماعية- تمت ترقيتهم إلى رتبة عميد، وصرّح العديد من المسؤولين الحكوميين مراراً باعتبار أتاتورك رمزاً للوحدة في تركيا، وقد وضعت صورة لأتاتورك على واجهة مقر حزب العدالة والتنمية، وأعرب الكماليون في الجيش عن دعمهم الكامل للحكومة المنتخبة.
ومع ذلك فإن الحفاظ على تحالف الحكومة مع الكماليين لمدة طويلة سيكون أمراً صعباً، وعلى الرغم من اعتبار أنصار غولن بمنزلة كبش فداء فإن أردوغان لا يزال قلقاً من انقلاب قادة الكماليين، فضلاً عن الرؤية المختلفة لكلا الجانبين حول مستقبل هذا البلد والجيش، إذ يرى الكماليون أن الحل الأمثل للتخلص من الفوضى في تركيا هي بالعودة إلى المبادئ العلمانية، بينما يفضل أردوغان وأتباعه الخضوع الكلي للجيش وزرع الفكر الإسلامي والمحافظ بنحوٍ تدريجي في صفوفه؛ ولذلك فإنه من المرجح أن يحدث اشتباك بين الطرفين في نهاية المطاف نتيجة لجهود أردوغان في محاولة إعادة هيكلة الجيش، وفي الوقت الحالي فإن كلاً من الحكومة التركية والجيش سيركزان على التخلص من العدو المشترك.
محور أورآسيا
إن تأثير التحالف بين أردوغان وقادة الجيش سيظهر في الصراع مع حزب العمال الكردستاني، فمنذ انتهاء فترة إيقاف إطلاق النار بين تركيا وهذه المجموعة في تموز عام 2015 قتل أكثر من 1700 شخص في هذا القتال، وتم نزوح أكثر من 350 ألف شخص، وسعياً منه إلى حشد الدعم القومي انتهج أردوغان سياسة التصعيد ضد حزب العمال الكردستاني.
إن احتمالية استئناف المحادثات بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني معدومة، وستزداد صعوبة في ظل تحالف الحكومة مع الكماليين، فالجيش التركي كان من أشد المعارضين فيما يخص محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني؛ ولذلك سيستمر أردوغان بالقتال ضد تلك الجماعة؛ لضمان حصوله على دعم كبار قادة الجيش، ويرى الجيش بأن هذه الحملة هي فرصة لاستعادة صورتها التي تضررت بنحوٍ كبير لدى عامة الشعب.
من المرجح أن يقوم التحالف بين الحكومة والكماليين إلى إبعاد تركيا عن الغرب، ففي الأشهر الأخيرة كانت المشاعر المناهضة للغرب في أعلى مستوياتها في تركيا، إذ يعتقد معظم الأتراك أن الولايات المتحدة -التي يقيم فيها غولن بنحوٍ دائم- قد أدت دوراً في محاولة الانقلاب، فكانت الحركة المعادية للولايات المتحدة كبيرة داخل المؤسسة العسكرية ولاسيما منذ المحاكمات الجماعية، إذ شكّل كبار القادة مجموعة داخل المؤسسة العسكرية أظهرت عداءً كبيراً تجاه الولايات المتحدة ولاسيما في فترة الاستجوابات؛ لأنهم اشتبهوا في أن واشنطن استخدمت غولن لتطهير الجيش من معارضي حلف الشمال الأطلسي.
في أعقاب محاولة الانقلاب عادَ كبار قادة الجيش المعادون إلى الولايات المتحدة البالغ عددهم 10 أشخاص، الذين تمت ترقيتهم بعدما حكم عليهم بالسجن في المحاكمات الجماعية في تموز وهم أنصار لإعادة الهيكلة الاستراتيجية. قامت حكومة أردوغان منذ شهر تموز بطرد المئات من الموظفين العسكريين الذين تلقوا تعليمهم في الغرب والذين كانوا يعملون مع منظمة حلف شمال الأطلسي في أوروبا والولايات المتحدة، وفي مقر حلف شمال الأطلسي في بلجيكا -حيث كلفت تركيا 50 موظفاً عسكرياًّ للعمل هناك فيما مضى- لم يتبقَّ سوى 9 موظفين وذلك في تشرين الأول من هذا العام، في الوقت الذي يزداد فيه التوتر بين أنقرة وواشنطن بشأن تسليم غولن للحكومة التركية فمن المرجح أن تحالف الكماليين مع الحكومة قد يزداد قوة.
من المحتمل أن يسفر عن تحالف الحكومة مع الكماليين ظهور دولة تركية استبدادية وقومية ومناهضة للغرب بنحوٍ أكبر، إذ لا يؤمن كل من حكومة أردوغان الدينية المحافظة ولا عناصر الجيش العلمانيين بالديمقراطية الليبرالية أو السياسات الموالية للغرب، وعلى العكس من ذلك فإن القومية ومناهضة الغرب وسيادة تركيا هي النزعات الرئيسة التي توحد جميع الأطراف، وفي حالة عدم وجود حل للصراع مع حزب العمال الكردستاني وعدم تسليم غولن إلى الحكومة التركية، فإن تلك النزعات ستزداد سوءاً، لا يمكننا سوى أن نأمل بأن أولئك الذين وقفوا ضد الدبابات في 15 تموز سيدافعون عن الديمقراطية والعلمانية ضد هذه النزعات المخيفة.
جونول تول، مديرة مركز معهد الشرق الأوسط للدراسات التركية
عمر تاسبينار، أستاذ في دراسات الأمن القومي في كلية الحرب الوطنية
ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .
المصدر:
https://www.foreignaffairs.com/articles/turkey/2016-10-27/erdogans-turn-kemalists