يبذل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل جهوده لجعل عام ٢٠١٧ عام تغيير النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي تخوله صلاحيات مطلقة في حكم الدولة التركية التي يستطيع من خلال تلك الصلاحيات بناء دولة عثمانية جديدة، لكنه يواجه مشكلة في رفض نصف الشعب التركي من اليساريين والقوميين والأكراد في قبول النظام الرئاسي؛ لذا يسعى أردوغان إلى استخدام أدوات ووسائل قد تنجح في تمرير المشروع الرئاسي عبر إثارة النزعة القومية التركية في إلغاء معاهدات تركية قديمة لرسم الحدود الجنوبية من جديد، وهو ما يشكل حدثاً خطيراً مشابهاً لإلغاء صدام حسين معاهدة الجزائر بين العراق وإيران التي أدت إلى حرب طويلة.
إن أردوغان يؤمن بوجود مؤامرة غربية لتقسيم تركيا على غرار معاهدة سيفر وإنشاء دولة كردية على أراضٍ تركية؛ لذا يسعى جاهداً إلى مواجهة هاجس التقسيم وتفكك الدولة التركية بافتعال الأزمات في العراق وسوريا لإشغال الجيش التركي، وتوحيد الجبهه الداخلية. وبات من الواضح للمراقبين أن تركيا لن تترك موقعها في شمال العراق بل ستعمل على تعزيره عملاً بسياسة “باقية وتمدد” شأنها شأن قواتها المتواجدة في قبرص منذ العام ١٩٧٤.
معاهدات سيفر ، لوزان وأنقرة):
بعد هزيمة جيوش الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨، وقع رئيس وزراء الدولة العثمانية بأمر من السلطان محمد وحيد الدين آخر سلاطين آل عثمان على معاهدة سيفر في شهر آب عام ١٩٢٠، وقد تنازلت الدولة العثمانية في المعاهدة عن جميع أراضيها لصالح بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان باستثناء منطقة في وسط الأناضول، وكانت المعاهدة وثيقة استسلام أكثر من كونها وثيقة سلام؛ لأنها قامت بتصفية الإمبراطورية العثمانية وألغت -عملياً- سيادتها وكل نفوذها على وادي الرافدين لتصبح مستعمرات بريطانية، فيما تنازلت عن بلاد الشام لصالح الاستعمار الفرنسي، وتخلت أيضاً عن منطقة الحجاز لتكون مملكة مستقلة، في المقابل احتفظت الدولة العثمانية بوسط الأناضول إلى جوار أرمينيا كجمهورية مستقلة التي استقطعت مناطق شاسعة من شرق الأناضول، وتخلت الدولة العثمانية عن أراضٍ تضمُّ إزمير وضواحيها جنوب غرب تركيا لتكون تحت الإدارة اليونانية في انتظار استفتاء تحديد الانتماء إلى الدولة العثمانية أو اليونان، أو أن تكون دولة مستقلة، أما على مستوى أوروبا فقد تنازل السلطان وحيد الدين عن جميع المستعمرات العثمانية في أوروبا الشرقية وبعض جزر بحر إيجة القريبة جداً من الشواطئ التركية، ووضع عاصمته إسطنبول وأطرافها بما في ذلك مضيقا الدردنيل والبوسفور تحت الوصاية الدولية، أي: وصاية بريطانيا وفرنسا.
تضمنت معاهدة سيفر منح الأكراد منطقة حكم ذاتي على وفق المواد (٦٣، ٦٢، ٦٤) اللاتي نصصن على تولي هيئة من ثلاثة أعضاء تعينهم حكومات كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا يقومون بوضع خطة لمنح حكم محلي للمناطق التي تسكنها غالبية من الأكراد التي تقع من شرق الفرات، والى جنوب الحدود الأرمينية، وإلى شمال الحدود بين تركيا وسورية وبلاد ما بين النهرين، وأن على الحكومة العثمانية قبول القرارات وتنفيذها التي تتخذها الهيئة، وفي حالة طلب السكان الأكراد من مجلس عصبة الأمم الاستقلال عن تركيا فإن على تركيا قبول قرار عصبة الأمم بمنح الاستقلال.
هذه المعاهدة المذلة لم يقبل بها قائد المقاومة التركية الجنرال مصطفى كمال الذي قاد حرب الاستقلال وتمكن من إخراج اليونانيين والإيطاليين أولاً ثم البريطانيين والفرنسيين؛ مما جعل الحلفاء يجلسون معه للتفاوض على معاهدة جديدة وقعت في تموز يوليو 1923 وسميت بمعاهدة لوزان، في هذه المعاهدة اجتمع الموقعون على معاهدة سيفر بحضور ممثلين عن الاتحاد السوفيتي الذين لم يحضروا سيفر، ودخلوا في مفاوضات طويلة، اتفقوا فيها على حدود الدولة التركية الحالية مع سيادة كاملة على أراضيها، وتخلت تركيا بموجب هذه المعاهدة عن المطالبة بالأراضي العثمانية خارج الأناضول ولاسيما المناطق غير الناطقة بالتركية.
وفيما يخص شمال العراق، ترك الجيش التركي مواقعه هارباً إلى الأناضول ليدخل الجيش البريطاني ولاية الموصل في تشرين الثاني نوفمبر ١٩١٨ التي كانت تضم الموصل وكركوك وأربيل ودهوك والسليمانية، فطالبت الدولة العثمانية بولاية الموصل حتى بعد إلغاء معاهدة سيفر، والتوقيع على معاهدة لوزان ونشأ ما عرف في الثقافة التركية بمسألة الموصل.
بذلت عصبة الأمم التي أنشأت بعد الحرب العالمية الأولى مساعي لحل الخلاف التركي البريطاني، فاتخذت في كانون الأول عام 1925 قراراً قضى بانضمام الموصل إلى الأراضي العراقية؛ مما جعل تركيا تدخل في مفاوضات ثنائية مع العراق وبريطانيا انتهت بتوقيع اتفاقية أنقرة بحضور ممثلين عن المملكة العراقية آنذاك في 5 أيار عام 1926، وجاء في أهم مضامين هذا الاتفاق على (تبعية ولاية الموصل للعراق وتنازل تركيا عن أي ادعاءات بشأنها)، و(ترسيم الحدود بين البلدين بشكل نهائي، واعتبارها غير قابلة للانتهاك)، و(حصول تركيا على نسبة 10٪ من عائدات النفط لمدة 25 سنة). وأعلنت تركيا اعترافها الرسمي بالدولة العراقية في 15 آذارمارس 1927)، الا ان تركيا تقول ان الدفع تواصل فقط خلال سنوات 1931-1950، وتقول ايضا ان الاتفاقية منحت تركيا حق التدخل العسكري في الموصل وشمالي العراق لحماية الأقلية التركمانية إذا تعرضت لأي اعتداء، أو لحق بوحدة الأراضي العراقية أي تخريب.
من الناحية القانونية فإن تركيا بعد إبرامها اتفاقية أنقرة تكون قد اعترفت بالحدود الدولية الحالية بينها وبين العراق، إلا أن الأدبيات الثقافية والقومية التركية تتحدث عن ولاية الموصل بمحافظاتها الخمس وكأنها جزء مسلوب من تركيا، وهو ما قاله مؤسس الجمهورية التركية أتاتورك رداً على نواب من البرلمان التركي اعترضوا على الاتفاقية قائلا لهم: “إن الموصل سترجع في الوقت المناسب”. ودأب رؤساء أتراك على المطالبة بحماية التركمان العراقيين مثل الرئيس التركي تورغوت أوزال (1989-1993) إلى حد المطالبة بإنشاء دولة خاصة بهم في شمال العراق، وأن لتركيا حق التدخل العسكري لمنع أي تهديد ضد الأمن القومي التركي، وقال أيضا: إنهم تركوا ولاية الموصل على وفق اتفاقية 1926 لعراق موحد، فإذا تقسم العراق فإن الاتفاقية تعدُّ ملغاة. وجاء بعده الرئيس التركي سليمان ديميريل الذي طالب عام 1995 بضرورة تعديل الحدود العراقية التركية لأسباب أمنية قائلاً: إن الموصل ما زالت تابعة لتركيا، وقال رئيس وزراء تركيا الأسبق بولنت أجاويد ورئيس حزب الشعب الجمهوري إن أتاتورك أوصاهم باستعادة الموصل، وخلال عهد حكومات حزب العدالة والتنمية قال الرئيس التركي السابق عبد الله غول -حينما كان وزيراً للخارجية في 2003-: إن تركيا ستأخذ حقها من النفط في الموصل ضمن إِطار حقوقي. وبعد مراجعة آراء السياسيين الأتراك فإن الجميع كانوا متفقين على تبعية الموصل إلى تركيا.
تغيير عقيدة السياسة الخارجية التركية:
كانت عقيدة السياسة الخارجية العثمانية قائمة على مفهوم أن لتركيا الحق في الأراضي التي تقع في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، وأن للدولة التركية مسؤولية تجاه السكان المسلمين في تلك المناطق ولاسيما حلب والموصل، إلا أن أتاتورك اتبع سياسة خارجية مختلفة وهي عدم تحمل أي مسؤولية تجاه المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وقد انتقد الرئيس أردوغان بشكل مباشر ولأول مرة معاهدة لوزان التي وقعها أتاتورك مع الحلفاء التي يعدها الأتراك إحدى الانتصارات السياسية الكبرى لأتاتورك في إلغاء معاهدة سيفر وتوحيد تركيا في حدودها الحالية.، يرى أردوغان أن أتاتورك تخلى عن مناطق كثيرة؛ لأن استراتيجيته القومية كانت أساس بناء الدولة التركية الحديثة؛ وبذلك تخلى عن حلب والموصل للحلفاء، فقال: “ان البعض يرى في معاهدة لوزان انتصاراً.. أين الانتصار؟”.
لكن المعارضة التركية الموالية لنهج أتاتورك ردت قائلة: إن معاهدة سيفر التي استسلمت فيها الدولة العثمانية في 1920 قسمت الأناضول على دول، وإن السكان غير الناطقين باللغة التركية خارج تركيا الحالية ثاروا ضد الدولة العثمانية مطالبين بالاستقلال، فما كان من أتاتورك إلا أن يوقع على معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ بعد حرب الاستقلال، ويثبت الاعتراف الدولي بالجمهورية التركية وريثة الإمبراطورية العثمانية ضمن حدودها الحالية، ويقضي على فكرة قيام الدولة الكردية.
اتهمت المعارضة التركية أردوغان بتجاهل استسلام السلطان وحيد الدين للحلفاء، وأنه هو سبب إذلال تركيا، وأنه لولا معاهدة لوزان وقيادة أتاتورك لحرب الاستقلال لكانت تركيا الآن عدة دول في الأناضول؛ لذا نجد أن أردوغان يسعى من إثارة الجدل في الموصل وحلب إلى تغيير عقيدة السياسة الخارجية التركية وإعادة الهوية العثمانية إليها بعد استخدامه لمصطلح “حرب الاستقلال الثانية” باعإدة مناطق جديدة إلى تركيا كانت في السابق من الدولة العثمانية.
ولأول مرة منذ ٢٠٠٣ حصل أردوغان على شبه إجماع داخلي في قضية الموصل التي تحولت إلى قصة قومية، حتى حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية المعارضتين اعتبرتا أن الموصل أرضاً تركية اغتصبت في عام 1926، وحان الوقت لاستعادتها، وأن من حق تركيا أن تحمي أمنها القومي، وأن الحل لمسألة معسكر بعشيقة هو أن تمنح الحكومة العراقية إذناً لتركيا بالبقاء (للأبد)، والمشاركة في معركة الموصل، وأن إصرار تركيا على المشاركة في المعركة نابع من تصميمها على ألّا يكون للأكراد أي نفوذ أو تواجد في محافظة نينوى، مما سيمنعهم من تكوين ممر بين العراق وسوريا لتوفير دعم لأكراد سوريا. وهنا وسط هذه الأجواء القومية التركية المطالبة بعودة الموصل، تحدثت وسائل أعلام تركية عن حديث لزعيم الحركة القومية بأنه سيحضر مع نوابه إلى جلسة تعديل الدستور لحسم أمر تغيير النظام من نيابي إلى رئاسي أو تحويله إلى استفتاء شعبي.
من جانب آخر، تحدثت وسائل الإعلام التركية المعارضة عن السيد أردوغان وانتقدت ضعفه أمام روسيا التي ذهب إليها ضعيفاً ليلتقي الرئيس الروسي بعد كل التهديدات التي أطلقها ضد الروس، فيما انطلق اتباعه يذكرون الشعب التركي بالتأريخ الدموي بين الروس والعثمانيين، وبعد كل ذلك التجييش الإعلامي ضد الروس توجه أردوغان ليتصالح معهم تاركاً مدينة حلب للجيش السوري والطيران الروسي يضيقون الحصار على الأحياء الشرقية لتخسر تركيا نفوذها بعد خمس سنوات من دعم المسلحين المعارضين.
وللتغطية على الفشل في حلب أمام القوة الروسية توجه السيد أردوغان نحو الموصل، وأطلق تصريحات متدنية بحق رئيس الوزراء العراقي، وفتح الصفحات القديمة من اتفاقيات تركيا بعد الحرب العالمية الأولى متهماً أتاتورك بالتخاذل، وقال: إن هناك تغييراً جذرياً في مفهوم الأمن القومي التركي.
إن الإعلام الموالي للرئيس أردوغان يقود هذه الأيام عملية تحشيد لمبدأ جديد مفاده أن تركيا لن تكتفي بمواجهة الإرهاب والتهديدات داخل أراضيها بل ستضربه في مصادره في الخارج أينما كان، وتعطي وسائل الإعلام الموالية عملية جرابلس السورية مثالاً على هذا التغيير واحتمال التقدم لاحتلال أراض سورية أخرى، والمشاركة في تحرير الموصل وقتال حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وفي ظل استمرار تذرع تركيا بالتهديدات الخارجية، فإن القوات التركية ستبقى لفترة طويلة وربما دائمة في شمال العراق بعد القضاء على تنظيم داعش أو زوال خطر حزب العمال؛ لأن هاجس تقسيم تركيا وإنشاء دولة كردية صار الشغل الشاغل للقادة الأتراك.
هل يمكن تكرار تجربة احتلال شمال قبرص في شمال العراق؟
في عام ١٩٧٤ قاد مجموعة من الضباط القبارصة اليونانيين انقلاباً عسكرياً ناجحاً ضد الحكومة التوافقية بين الأغلبية المسيحية اليونانية والأقلية المسلمة التركية، واتبرت الحكومة التركية آنذاك أن هذا الانقلاب ألغى الاتفاقيات الموقعة بينها وبين الدول الأوروبية بشأن قبرص التي ضمنت وجود حكومة توافقية ترعى مصالح الأقلية التركية، فضلاً عن مصالح تركيا؛ لذا قامت باجتياح شمال قبرص ولم تستطع القوات القبرصية الصغيرة مواجهة الجيش التركي الذي سيطر على مساحات واسعة من الجزيرة، وتلا ذلك فرار عشرات آلاف القبارصة اليونانيين صوب الجنوب، وأيضاً فرَّ الآلاف من القبارصة الأتراك من المناطق الجنوبية باتجاه الشمال مسببة معاناة إنسانية كبيرة، وبعد تدخل الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين تم التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين والدخول في مباحاثات لتسوية الأزمة، لكن تركيا لم ترغب في مغادرة قبرص وأعلنت عبر وكلائها القبارصة الأتراك أن المناطق الشمالية منطقة حكم ذاتي وأطلقوا عليها اسم “الولايات القبرصية التركية الفدرالية”، وفي عام ١٩٨٣ أعلن القبارصة الأتراك تلك المناطق جمهورية مستقلة تحت مسمى “جمهورية شمالي قبرص التركية” التي لم تعترف بها أي دولة في العالم باستثناء تركيا.
تتحدث عدد من الأصوات في القيادة التركية لوسائل الإعلام عن إمكانية اعادة التجربة التركية في شمال العراق فيما إذا تعرضت الأقلية التركمانية للإبادة كما حصل مع الأقلية التركية في قبرص، وأن الجيش التركي سيتحرك باتجاه قضاء تلعفر أو مدينة الموصل لنصرة التركمان وإنقاذ أرواحهم، إلا أنه في حقيقة الأمر أن تركيا تخلت عن التركمان الهاربين من داعش في صحراء العراق، إذ نقلت صحف المعارضة التركية في آب ٢٠١٤ أنه حينما احتل تنظيم داعش الموصل وتلعفر لم تتخذ الحكومة التركية أي موقف للدفاع عن التركمان العراقيين، بل تخلت عنهم وتركتهم نهباً لهجمات تنظيم داعش في شمال العراق، وقالت صحف المعارضة إن الأرقام كانت تشير إلى وجود أكثر من 500 ألف تركماني يصارعون من أجل الحياة في الصحراء بعد أن شردوا في الطرقات والمخيمات هرباً من إرهاب داعش، ومات كثيرٌ من الأطفال والمسنين من شدة الحر، حيث بلغت درجات الحرارة قرابة الـ٥٠ درجة مئوية، وقال التركمان إنهم دفنوا موتاهم في الصحراء وعلى جوانب الطرق، فيما اتجه آخرون من التركمان الهاربين إلى الحدود للعبور إلى تركيا، إلا أن السلطات التركية لم تسمح لهم بالمرور لأنهم لا يملكون جوازات السفر، واتهمت صحف المعارضة التركية السلطات بالتعامل الطائفي مع التركمان العراقيين متناسية دعواتها عبر قرن من الزمن وهي تصف التركمان العراقيين بالأشقاء وأبناء النسل الواحد، ومن المثير للسخرية أنها عادت هذه الأيام من جديد لتتحدث عن حماية “الأشقاء” من الأقلية التركمانية.
لا يمكن بأي حال من الأحوال مماثلة احتلال الجيش التركي لشمال قبرص مع فرضية احتلال الموصل أو تلعفر لعدة أسباب، أولها: أن الحكومة العراقية حكومة جاءت عبر عملية ديمقراطية وتحظى بدعم دولي كبير وتأييد شعبي داخلي واسع في قتال تنظيم داعش أو مواجهة الجيش التركي، وأن التركمان العراقيين يتواجدون ضمن القوات العراقية وبقية مؤسسات الدولة، وهو ما يختلف عن حكومة انقلاب عسكري في قبرص كانت تضطهد الأقلية التركية، ثانيا: أن الاتفاقية الموقعة بين العراق وتركيا عام ١٩٢٦ بشأن ترسيم الحدود لم تعترض عليها أي حكومة تركية منذ تأريخ توقيعها، وإلغاؤها يعني إعلان حرب غير معروفة النتائج، ثالثا: لا يمكن المماثلة بين القوات القبرصية والقوات المسلحة العراقية، والجدير بالذكر أن عدد سكان قبرص سنة ١٩٧٤ بكل طوائفه لم يتجاوز ٦٤٠ ألف نسمة وتعداد الجيش القبرصي كان يبلغ بضع آلاف.
خلاصة القول:
كانت تركيا في عام ١٩٢٥ تتوقع أن الاستفتاء الذي ستجريه عصبة الأمم على ولاية الموصل سيكون لصالحها اعتماداً على حسابات وأرقام خاطئة، فالقيادة التركية آنذاك كانت تمتلك سجلات غير دقيقة عن سكان شمال العراق، وتصورت أن الولاءات للدولة التركية ستتغلب على الولاء للدولة العراقية الحديثة التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، ولكنها فوجئت بنتائج الاستفتاء، واليوم ترتكب القيادة التركية الحالية الأخطاء نفسها ظنّاً منها أن التأجيج الطائفي سيجعل سكان الموصل يلجأون إليها، على الرغم من الاتهامات الموجه ضد تركيا بدعم تنظيم داعش وشراء نفطها وتجاهلها طوال أكثر من سنتين لمعاناة أهل الموصل.
يتحدث القادة الأتراك مع الولايات المتحدة وأوروبا عن نجاحهم في بلدة جرابلس السورية العربية في أنهم حولوا ولاء سكان جرابلس من تنظيم داعش إلى الدولة التركية، وهو ما سيفعلونه في الموصل بتحويل ولاء السكان، وهو أمر يحوي على مغالطات كبيرة، بالنظر إلى كيفية استقبال الأهالي في أرياف الموصل للجيش العراقي وترحيبهم به يرى المراقب بوضوح أن السكان هناك يثقون بالدولة العراقية، ومن اللافت للانتباه أن تنظيم داعش في بلدة جرابلس السورية ترك مواقعه حين دخول القوات التركية وسلم البلدة من دون قتال!
حين النظر إلى الأقلية العربية في جنوب تركيا يجد المتابع أن القبائل العربية هناك فقدت هويتها وذابت في الهوية التركية، فالعربي الذي يفتخر بقبيلته ونسبه ولغته وعاداته وتقاليده، فقد كثيراً من تلك الأمور في تركيا وصار يتكلم العربية بنحوٍ غريب، واندمج في تقاليد تركية شبه العلمانية المرفوضة تماماً في العرف القبائلي العربي العراقي، فمثلاً بعد حظر النظام العلماني التركي ارتداء العقال العربي لقرن من الزمن أصبح الزي العربي القبلي مثيراً للسخرية في تركيا، لذا فإن قبول العشائر العربية في الموصل الانضمام إلى الدولة التركية يعني فقدانهم للهوية العربية.
بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تموز يوليو ٢٠١٦ واعتقال السلطات التركية لعشرات الآلاف، بات جلياً أن أردوغان يسير قدماً نحو أسلمة الدولة التركية، ولكن عليه أولاً تغيير النظام البرلماني إلى رئاسي، وإذا ما نجح في إجراء استفتاء شعبي فإنه سيحصل على الأصوات الكافية على الرغم من رفض ما يقارب نصف السكان من اليساريين والعلويين والأكراد، وهو ما سيقود إلى أزمات داخلية كبيرة؛ لأن أردوغان يريد استبدال الهويات العقائدية والثقافية للرافضين بهوية إسلامية، وقد يجد الحل في افتعال أزمات خارجية مع دول الجوار بطرح قضايا “تعبويه وطنية” كقضية الموصل، ولعل المطالبة بكركوك ستكون القضية التالية.
من الحسابات التركية الخاطئة أن غزو شمال العراق سيكون كغزو شمال قبرص، فقوات المقاومة الشعبية العراقية دخلت في مواجهات دامية مع ١٦٠ ألف عسكري أمريكي، وقامت مع الجيش العراقي بإلحاق هزائم كبرى بقوات تنظيم داعش، ولعل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي كان دقيقاً جدا حينما قال: إن دخول القوات التركية إلى الموصل لن تكون نزهة”، وشمال العراق ليس شمال قبرص، وفي الوقت الذي ما زالت فيه العلاقة بين الجيش التركي أردوغان تتجه نحو المجهول فإن هزيمة الجيش التركي في العراق ستكون له عواقب وخيمة على الداخل التركي وعلى مستقبل الرئيس أردوغان نفسه.