د. زهير جمعة المالكي
منذ أن وضع الألماني فردريك راتزل (1844-1904) كتابة الذي يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897م الذي يُعدُّ أوّل مؤلَّف في علم الجيوبوليتكا كان الدرس الأول الذي يدور حوله هذا العلم هو أنه لا يمكن فهم السياسة اليوم من غير الأخذ بعين الحسبان حقيقة أن الثابت الوحيد في هذا العالم هو التغيُّر المستمر، وإدراك هذه الحقيقة سيعني بالضرورة إدخال التغيُّرات العالمية في الحسابات باستمرار.
يعد العامل الجيوبوليتيكي من بين أهم المتغيّرات المتحكمة في السياسة العالمية، يقول جوزيف ناي: “لم تحل الجغرافيا الاقتصادية محل الجغرافيا السياسية، على الرغم من أن مطلع القرن الحادي والعشرين قد شهد بوضوح محو الحدود التقليدية بين الاثنتين، ذلك أن تجاهل دور القوة المركزية والشؤون الأمنية سيكون كتجاهل الأوكسجين، ففي الظروف العادية يتواجد الأوكسجين بكثرة فلا نعيره اهتماماً يذكر، ولكن ما أن تتغيّر هذه الظـروف، ونبدأ بافتقاد الأوكسجين حتى نعجز عن التركيز على أي شيء آخر”[1].
انطلاقا مما سبق يمكن أن ندرس ما يجري من صراع دولي على الساحة العراقية ولاسيما بعد أن أعلنت تركيا بأنها لن تنسحب من الأراضي العراقية إلَّا بتحقيق قائمة من المطالب التي لم تخجل من إعلانها والتي بمجملها تتعلق برسم الطبيعة الديمغرافية للمنطقة لمرحلة ما بعد داعش، بل يمكن أن نتوصل للأسباب الحقيقية للصراع الدائر في المنطقة ككل ومركزها العراق .
كانت بداية التغيُّرات التي قادت إلى أحداث اليوم هو الإعلان الرسمي لسحب القوات الأمريكية من العراق في نهاية عام 2011، ومن أفغانستان بحلول نهاية عام 2014، التي كانت مؤشراً مبدئياً لتغيُّرات مستقبلية في الاستراتيجية الأمريكية التي توجهت إلى النأي عن التدخل المباشر في أزمات الشرق الأوسط من دون مغادرة المنطقية كلياً، تزامناً مع التغيُّرات التي طرأت على الخطط الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، فما أن حل عام 2012 حتى أعلن الرئيس الأمريكي عن انتقال تركيز الاستراتيجية الأميركية من منطقة الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، أي إلى المنطقة التي تضم ضمن إطارها الجغرافي (أندونيسيا، وتايلند، والصين، والفيليبين، وفييتنام، وكمبوديا، وكوريا، ومينمار، والهند، واليابان)، وتشمل الأطراف الشرقية الواسعة من القسم الآسيوي من روسيا الاتحادية التي تضم مناطق (خاباروفسك، وبريموريا، وآمور، وكامشاتكا، وسخالين)، ولهذا الانتقال عدة أسباب تأتي في أولها التقديرات الأميركية التي ترى أن تلك المنطقة ومحيطها باتت منطقة الثقل الرئيسة في العالم لناحية توافر الكم الأكبر من محددات القوة فيها.
أدّى هذا الانتقال في الاهتمام إلى جعل المنافسة أكثر قرباً من حدود روسيا والصين؛ مما أدَّى إلى زيادة التحركات الأمريكية للسيطرة على الممرات البحرية الحيوية الممتدة من مضيق هرمز إلى بحر الصين الجنوبي، وبناء شبكة من القواعد والتحالفات التي تحيط بالصين وروسيا على شكل قوس يمتدُّ من اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وفيتنام، والفليبين، في الجنوب الشرقي ومن ثم إلى الهند في الجنوب الغربي، لتنتهى إلى اتفاق مع الحكومة الأسترالية لبناء منشأة عسكرية في داروين على الساحل الشمالي من البلاد بالقرب من بحر الصين الجنوبي، وإنشاء تحالف يضم دول المنطقة من الدول التي ليس لها علاقة جيدة سواء في الصين أم في روسيا، ويحاول الأميركان التحرُّك باتجاه الهند لضمها إلى قوس القواعد وجعلها جزءاً من التحالف الآسيوي مع أميركا، وفضلاً عن ذلك عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاولة تقليل النفوذ الروسي في أوروبا وآسيا الوسطى عبر تشجيع بناء أنابيب نفط وغاز جديدة تمتد من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى أوروبا باقتراح بناء خط أنابيب الغاز العابر للأناضول (غاز نابوكو)، وهو ممرٌّ مخصّصٌ لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبا مجانباً لروسيا، كذلك عملت الولايات المتحدة على تعزيز تواجدها في شرق أوروبا وفي منطقة البلطيق وشمال القوقاز بضمنها جورجيا وأوكرانيا، وتعزيز القوات الأطلسية في دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وأستونيا) على حدود روسيا، و(ليتوانيا) على حدود كالينغراد التابعة لروسيا وهي لا ترتبط بحدود معها، فضلاً عن بولونيا التي نصبَ بها الناتو درعاً صاروخياً، وبلغاريا ورومانيا (على البحر الأسود) اللتين نصبَ فيهما مُعدّات تابعة للدرع الصاروخي.
من ناحية أخرى لاحظت الإدارة الأمريكية أن المنفذ المتبقي لكل من الصين وروسيا إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط يمر عبر إيران من خلال محور موسكو – طهران – بغداد – دمشق وصولا إلى طرطوس على البحر المتوسط، وحيث إنه من الصعوبة التوصُّل إلى ضم إيران إلى التحالف الآسيوي الأمريكي لأمور تتعلّق بطبيعة النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية فقد عمدت إلى تحسين العلاقة مع طهران من خلال التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني وفتح علاقات تجارية مباشرة مع طهران، وفي الوقت نفسه نجحت الإدارة الأمريكية في خلق قاعدة عمليات قويه لها ولاسيما في أذربيجان -وهي المركز الجيواستراتيجي الأكثر أهمية في منطقة أورآسيا قلب العالم القديم، وتمثل بوابة السيطرة على منطقة حوض بحر قزوين الغني بالموارد النفطية والغاز الطبيعي- الذي من الممكن استخدامها لتهديد منطقة قلب الدولة الحيوي في إيران، وذلك لقربها الشديد من العاصمة طهران، والمناطق الإيرانية الفائقة الأهمية والحساسية، فضلاً عن وجود حجم ليس بالقليل لما يعرف بـ(الأقلية الأذربيجانية) الموجودة في شمال إيران، وتمتاز بمشاعر عداء قوية إزاء المجتمع الإيراني، وتنشط داخلها حالياً بعض الحركات الانفصالية التي تطالب بالانفصال عن إيران والانضمام لأذربيجان، وكذلك تشكّل قاعدة تهديد للمنشآت الروسية في مناطق منابع النفط الروسي، ومحطات الطاقة الكهرومائية، وأيضاً منطقة جنوب غرب روسيا التي تتمركز فيها الأنشطة الصناعية، ولأنّ أذربيجان تشكل -بطريقة أو بأخرى- محطة لدعم الحركات المسلحة في آسيا الوسطى ومنطقة القفقاس، وبالتالي فإن دعم هذه الحركات عن طريق باكو من الممكن أن يؤدي إلى المزيد من القلاقل في هاتين المنطقتين.
فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط فالسياسة الأمريكية وإن تغيرت أولوياتها في المنطقة لصالح مناطق أخرى في العالم فهذا لا يعني أن الإدارة الأمريكية قررت الانسحاب نهائياً من المنطقة، فما زالت لها مصالحها، ولها تأثيرها الذي لن يزول في وقت قريب وما زالت واشنطن تمسك بمفاتيح كثير من القضايا، وفي مقدمتها الصراع العربي – الإسرائيلي وهو ملف قد تراجع بصورة كبيرة في العقد الماضي لصالح صراعات ونزاعات إقليمية أكثر حدةً وسخونةً يأتي في مقدمتها الصراع الطائفي الذي يهدد بتفتيت المنطقة على أسس طائفية وعرقية.
أدّى التحوُّل في التركيز الاستراتيجي الأمريكي إلى حدوث تغيُّرات كبيرة في التحالفات الإقليمية وتنامي أدوار الفاعلين الإقليميين ضمن النظام الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، حيث إن هذا التغيُّر في الاستراتيجيات الأمريكية قد دقَّ جرس الإنذار لدى العواصم الرئيسة في المنطقة، واحتدام التوتّر بينهم على مقاليد النفوذ والسيطرة.
من ضمن هذه التغيُّرات هو خروج المملكة العربية لسعودية من سياسة الريبة التي كانت تتبعها المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى وفاة الملك عبد الله وهي السياسة التي تعتمد على إحداث التغيير من خلال القنوات الخلفية وعدم البروز في الخطوط الأمامية، وكان اللاعب الرئيس فيها دائماً هو جهاز المخابرات السعودي وحسب القواعد التي وضعها كمال أدهم مؤسس الجهاز وأول مدير له منذ عام 1965 ولغاية 1979، إلَّا أن الصراع بين الجيل الثاني من أمراء العائلة المالكة، وتركّز ملف المخابرات في يد الأمير محمد بن نايف ولي العهد الحالي دفع بالأمير محمد بن سلمان ولي العهد الثاني والساعي لإثبات أنه رجل المملكة القادم إلى محاولة البروز في الملف الخارجي، وكان أول استعراض قوة يقوم به هو مهاجمة اليمن؛ لكسر التأثير الإيراني في اليمن، ومن أجل التعويض عن نقص القوات المسلحة الذي تعاني منه المملكة سعى لتأسيس ما أطلق عليه بالتحالف الإسلامي الذي يتكون من 47 دولة تؤدي فيه المملكة دور الممول، في حين تقدم الدول الأخرى العنصر البشري؛ ونتيجة لتعثُّر ما أُطلِقَ عليه (عاصفة الحزم) في اليمن إلى إحراج موقف جناح الأمير محمد بن سلمان ولاسيما مع انخفاض أسعار النفط والأزمة المالية التي ضربت الدول التي تعتمد على مواردها النفطية والتي أثرت على الخطط الطموحة للتنمية الاقتصادية التي تبناها الأمير وأطلق عليها خطة (سعودية 2030).
سعى الامير محمد بن سلمان والجناح الموالي له إلى أخذ ملف الأزمة السورية الذي كانت المخابرات السعودية تتولاه منذ عهد الأمير بندر بن سلطان الذي تولى رئاسة المخابرات عام 2012، ثم تم نقل الملف إلى الأمير محمد بن نايف قبل أن يتم سحبه لصالح الأمير محمد بن سلمان، إذ نجحت المملكة في إزاحة قطر من قيادة الجبهة المعادية للرئيس السوري لتحل محلها، باعتبار أن النظام أصبح فاكهة ناضجة، وأن سقوط النظام سيعزز من مكانه الأمير محمد بن سلمان لتعويض التعثُّر في الملف اليمني.
أدّى التدخل الإيراني والروسي في الملف السوري لمساندة الجيش السوري إلى انتزاع عنصر المبادأة من المعسكر المساند للمعارضة، لذلك كان لا بد من البحث عن حليف استراتيجي يمكن أن يعوّض عدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل المباشر في الأزمة السورية،وكان هذا الحليف هو حزب العدالة والتنمية في تركيا.
من الناحية التركية ومنذ عام 2001 نجح التحالف بين رجل الاقتصاد عبد الله غول ورجل السياسة أحمد داود أوغلو والرجل الكارزماتي رجب طيب أردوغان في إيصال الأخير إلى سدة رئاسة الوزراء من خلال حزب العدالة والتنمية عام 2003.
في السنوات الأولى من الحكم استطاع الحزب -واعتماداً على سياسة تصفير المشاكل التي وضع أسسها داد أوغلو وسياسة التنمية الاقتصادية التي وضعها عبد الله غول- من تحقيق انتعاش اقتصادي كبير في تركيا عمقت من سيطرة الحزب على الحياة السياسية، ومكنته من قصقصة أجنحة الطبقة العسكرية التي كانت تقف حائلاً أمام التوجهات الإسلامية الإخوانية للحزب.
كان للنجاح الداخلي لتحالف الاقتصادي والسياسي الإسلامي أثر في بروز تركيا كقوة إقليمية ترغب في دور دولي أكبر، حتى أن الحكومة التركية في وقت من الأوقات طالبت بأن يكون لها حق الفيتو في مجلس الأمن ولكن هذه الدعوات ووجهت بتجاهل كبير من المجتمع الدولي، وقد قوبلت جهود تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالرفض الشديد؛ مما دفع الحكومة التركية إلى التوجه إلى محاولة فرض زعامتها على المجتمع الإسلامي، لتظهر أمام العالم كممثل للدول الإسلامية في مواجهة الغرب المسيحي، والجميع يتذكر الاستعراضات الدعائية التي قام بها رجب طيب أردوغان في مؤتمر دافوس والاستعراض بإرسال سفينة السلام إلى غزة، وهي استعراضات لم يكن القصد منها سوى تخدير المجتمعات العربية الحالمة بظهور الزعيم المخلص لتتلقفها الدائرة الإعلامية للتنظيم الدولي الإخوان المسلمين لتسويق الزعيم التركي باعتباره الباعث لروح الخلافة الإسلامية مرة ثانية، وكان هذا كله بتمويل مالي من قطر التي كانت تسعى إلى دور دولي أكبر من مساحتها واستثمرت في ذلك مئتي مليار دولار لتطلق موجة ما سُمِّيَ (بالربيع العربي) في حلم أن تكون الدوحة هي مصدر القرار الحاكم للمنطقة من مراكش إلى انقرة.
على الرغم من كل المال الذي أُنفق والتحالفات التي عقدت فقد تحطمت أحلام المخطط التركي القطري نتيجة للانقلاب ضد حكم الإخوان في مصر، وصمود الجيش السوري في دمشق، واعتراض السعودية على القيادة القطرية، وتجميد عضوية قطر في مجلس التعاون الخليجي لأكثر من عام ولاسيما أن توجّه المملكة العربية السعودية خلال حكم الملك عبد الله بن عبد العزيز كان يتجه إلى دعم مصر باعتبارها القوة العسكرية الأقرب إلى السعودية التي بالإمكان الاستعانة بها عند الحاجة.
دفع التغيير في موازين القوى الحكومة التركية إلى البحث عن شريك آخر في إدارة الصراع، لتجد في الأمير محمد بن سلمان -رجل السعودية القوي والمتطلع إلى دور إقليمي أكبر- الفرصة التي كانت تحلم بها؛ ليتم عقد اتفاقات مشتركة يتم من خلالها بناء قاعدة لقيادة العالم الإسلامي (السني) في مواجهة الدور الإقليمي الإيراني.
اصطدمت أحلام المحور التركي – السعودي في قيادة العالم بعقبتين: الأولى: التغيير في السياسة الاستراتيجية الأمريكية التي لم تعد مهتمة بالدخول في صراعات مباشرة في المنطقة وتحولها إلى أسلوب إدارة الصراع بالإنابة من خلال أدوات إقليمية، والأخرى: هي وجود المحور الروسي الإيراني السوري المدعوم من الصين للمحافظة على الممر الرئيس لروسيا والصين إلى مياه البحر المتوسط وصولاً إلى أوروبا ولاسيما بعد نجاح هذا المحور في دفع التأثير السعودي خارج لبنان، على الرغم من إنفاق أكثر من 100 مليار دولار في لبنان من أجل تحويله إلى قاعدة للتحكم بموانئ البحر المتوسط.
توصّل المحور التركي السعودي المدعوم من قبل الغرب إلى ضرورة العمل على إعادة الاهتمام الأمريكي إلى المنطقة وكسر المحور الروسي – الإيراني – السوري، وكان ذلك من طريقين، الأوَّل: من طريق خلق منطقة غير مستقرة تثير مخاوف الأمريكان من تعرض إسرائيل لأخطار الهجوم المباشر، والآخر من طريق خلق منطقة قاطعه تمتدُّ من تركيا إلى السعودية وخلق تواصل بري بين الحليفين لقطع التواصل الجغرافي للمحور الممتد من إيران، فالعراق، فسورية، ثم لبنان، وهذه الفكرة ليست بالجديدة حيث سبق أن أشارت إليها دراسة نشرتها دورية المنظمة الصهيونية العالمية المعروفة (كيفونيم) عام 1982 وبحسب تلك الدراسة فمن يسيطر على العراق يتحكم استراتيجياً في الهلال الخصيب؛ وبالتالي الجزيرة العربية، فضلا عن مواردها الضخمة، وفي سبيل تحقيق ذلك التحكم دعت الدراسة إلى خلق (دولة الموصل) إلَّا أن الفكر الاستراتيجي للمحور التركي السعودي طوَّر تلك لدراسة من خلق دولة جديدة التي تعترضها محددات دولية كثيرة إلى خلق منطقة تواصل بري عن طريق الدعوة إلى خلق ما يطلق عليه الإقليم السني الذي يمتد من بوابة إبراهيم الخليل على الحدود العراقية التركية إلى الموصل والرمادي فالفلوجة ثم النخيب وصولاً إلى الحدود السعودية.
تسعى تركيا بهذا المخطط إلى قطع الطريق أمام التواصل بين الأكراد في شمال العراق وشمال سوريا وما قد يجره هذا التواصل من تأثيرات على كردستان تركيا، وإلى التحكم بعقدة خطوط الغاز من آسيا إلى أوربوا وقطع الطريق أمام المخططات الروسية الإيرانية بتصدير الغاز عن طريق الموانئ السورية وإجبار أوروبا والغرب على التعامل مع تركيا باعتبارها زعيم العالم الإسلامي السني، بالنسبة للسعودية فإنها تسعى من خلال هذا المخطط إلى إيقاف التأثير الإيراني المتزايد الذي وصل إلى الحديقة الخلفية للسعودية أي جبال اليمن وتأدية دور إقليمي أكبر يُجبِرُ الإدارة الأمريكية على إعادة حساباتها للتعامل مع المملكة ليس باعتبارها أنبوباً نفطياً يمكن التخلي عنه ساعة نضوب النفط ولكن كحليف استراتيجي قادر على تغيير قواعد اللعبة.
كانت أولى خطوات تنفيذ هذا المخطط هو الاستفادة من العلاقات التي نسجتها المخابرات السعودية منذ زمن طويل مع القيادات العشائرية في منطقة الأنبار؛ لخلق دعوة لإنشاء الإقليم السني بعد تراجع دور القيادات العشائرية المدعومة قطرياً نتيجةً لانسحاب قطر من الملف العراقي، وفي الوقت نفسه شجعت المخابرات التركية بعض القيادات في الموصل على التبشير بجنة أردوغان ولتستفيد تركيا من غموض وضعف السياسة العراقية في التعامل مع ملف الموصول لتندفع بقوات عسكرية لإنشاء معسكر في منطقة بعشيقة يتم فيه تدريب وتسليح قوات عراقية تأتمر بأوامر تركية كنواة لخلق رأي عام داخلي وخارجي؛ لدعم إقامة إقليم سني بدعوى مظلومية السنة، ونشر الدعايات المسيئة للقوات المسلحة العراقية واتهامها بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان تستهدف مكوّناً معيّناً.
في النهاية نقول إن هذا المخطط ما زال مستمراً، وإن تجاهله وعدم العمل على الحفاظ على الوحدة العراقية بأسلوب علمي دقيق يأخذ بالحسبان الأهمية الجيوبوليتيكية للعراق سيكون له نتائج كارثية حتى على من يظنون أنهم سيحققون مكاسب آنية من خلال تلك المخططات، فالسلطان العثماني لن تتوقف شهيته عند حدود العراق، والوحش الوهابي لن يقبل بغير من يدين بدينه، والدب الروسي لا يرسل بقواته من أجل عيون الآخرين، والولايات المتحدة الأمريكية تسعى خلف مصالحها فقط؛ لذلك يجب أن يتم التعامل بصورة علمية مع هذه الملفات كافة وإلَّا ستكون العواقب وخيمة.
[1]– جوزيف. س. ناي. مفارقة القوة الأمريكية، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، الطبعة الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 2003. ص 36.