back to top
المزيد

    مراجعة كتاب: (بناء السلام المستدام: توقيت وتسلسل إعادة الإعمار وبناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع).

    أرنيم لانغر، مدير مركز البحوث للسلام والتنمية، ​​جامعة لوفين، أستاذ مشارك في العلاقات الدولية وحائز على رئاسة كرسي اليونسكو في بناء السلام المستدام في جامعة لوفان (KU لوفين) في بلجيكا، وباحث مشارك في قسم أكسفورد للتنمية الدولية(ODID)  في جامعة أكسفورد[1].

    غراهام براون، أستاذ التنمية الدولية ورئيس قسم العلوم الاجتماعية في جامعة غرب أستراليا وهو باحث مشارك في جامعتي أكسفورد، لوفين، وأوكلاند، وتقلد مناصب في جامعة ستانفورد وجامعة سنغافورة الوطنية.

    دار النشر: مطبعة جامعة اكسفورد  (Oxford University Press)

    1

    تحظى إعادة الإعمار وبناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع في عصرنا هذا بأهمية عالية في أجندات منظمات التنمية والمجتمع الدولي، وعلى الرغم من أن التوجه نحو بناء السلام المستديم قد ازداد على مدى العقود، وبرزت هيئات شاملة للبحوث تعنى ببحث بناء الديمقراطية وبناء المؤسسات والمصالحة بعد الصراع وبحث العدالة الانتقالية، فضلاً عن بحث تحديات وتعقيدات إعادة البناء الاقتصادي، لكن تسويات السلام الدائمة ما زالت بعيدة المنال، ففي الواقع أن البحوث التي تتعلق بنسبة الدول فيما بعد الصراع التي انتكست في صراع عنيف بعد مرحلة من انعدام العنف والقتال الظاهر ترسم صورة واقعية جداً، وعلى الرغم من كثرة الملابسات والعوامل التي ارتبطت بإعادة الحياة للصراع، فإن هنالك فهماً ضئيلاً لتوقيتات السياسات والقوانين الفعالة وماهيتها التي بالإمكان تطبيقها لمنع عودة الصراع، ومع وجود العديد من الصراعات العنيفة والمضطربة في أنحاء العالم، ووجود الإمكانية الكبيرة لتوسعها، أصبحت استدامة بناء السلام في المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع حاجة ملحة أكثر من مما سبق.

             ويسعى كتاب “بناء السلام المستديم: توقيت وتسلسل إعادة الإعمار وبناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع” الذي صدر في 2016، وقام بتحريره ارنيم لانغر وغراهام براون، لدراسة هذا الشأن، فالموضوع الرئيس للكتاب هو في تأثير التوقيتات، وتسلسل التدخلات الساعية إلى إعادة الإعمار وبناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع على صمود عملية السلام ونجاحها، وترتكز الأبحاث التي يتناولها الكتاب على مبنيين:

    • المبنى الأول هو على الرغم من أن هنالك اتفاقاً عامّاً في أوساط الباحثين الأكاديميين على السياسات والتطبيقات المرجوة في مجتمعات ما بعد الصراع -وهذا يضم النمو الاقتصادي، وبناء الهيكلية الاقتصادية الشاملة، والعدالة الانتقالية- فإنه ليس هنالك فهمٌ كبيرٌ في مدى تأثير توقيتات تلك السياسات وتسلسلها على نتائج الانتقال في مرحلة ما بعد الصراع.
    • المبنى الثاني من الملاحظ أن كثيراً من الدراسات في إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع عادة ما تميل نحو دراسة أفق ضيق، مركزةً على سياسات الإصلاحات السياسية أو الاقتصادية؛ وهذا يقلل من شأن التعقيد الحقيقي في انتقالية المجتمعات ما بعد الصراع ويبقي الأبواب موصدة نحو الجوانب الأخرى من إعادة البناء، كإعادة بناء العلاقات الاجتماعية والثقة، فضلاً عن العلاجات النفسية التي دائما ما تكون حاضرة في تلك المجتمعات.

    ومع وجود هذين المبنيين في الأذهان، فإن الكتاب يسعى إلى الإجابة عن بضعة أسئلة من خلال هذه المجلد:

    • متى يكون تطبيق التدابير والإصلاحات والتدخلات لبناء السلام في أفضل أوقاته من أجل زيادة الفرص في نجاح عملية السلام وديمومتها؟
    • كيف ترتبط الإصلاحات والتدخلات والتدابير وتتفاعل لبناء السلام فيما بينها؟ هل هنالك تسلسل معين يجب ترتيب السياسات والتدابير بموجبه لضمان نجاح عملية السلام؟
    • ما نوعية أفضل عمليات ومشاريع السلام التي بادر بها اللاعبون الدوليون في المجتمع الدولي، وما أوقاتها؟

    وبالإجابة عن هذه الأسئلة، فإن الكتاب لا يسعى فقط لتطوير عدد من القوانين الفعالة وصياغتها التي يوصي بها اللاعبون الدوليون والمحليون في مجتمعات ما بعد الصراع، ولكنه أيضاً يرمي نحو خلق فهم حول نوعية البرامج والتدخلات المطلوبة لبناء السلام في الأوقات المعينة، مراعياً بذلك أهمية التوقيت وترتيب الأولويات.

             يقسم الكتاب قسمين رئيسين، يركز القسم الأول منه على النظرية ودراسة الحالات، يتناول الفصل الأول من هذا القسم التحليل الموضوعي لعدد من الموضوعات والديناميكية التي تمثل المجازية العامة في بناء السلام، ليعكس بذلك التوقيت والتسلسل ويستعرض أيضاً النصائح المتعلقة بالسياسات المطلوبة في عدد من الموضوعات كإعادة البناء، والمصالحة، والمساعدات، والإصلاحات القانونية، فكاتبا هذه الفصول بارعان في مجال عملهما ليستعرضا عدداً من الطرائق الانضباطية التي تشرح عملية بناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع.

             أما الفصل الثاني، المكتوب بوساطة روجر ماك كنتي الذي يتناول ما يشار إليه بـ”الوقت السياسي والاجتماعي”، فهو يناقش مسألة أن الوقت الذي تعدُّه النخب كافٍ لقانون ليس من الضروري أن يكون كافياً بالنسبة للمجتمع ككل، والاختلاف في مفهوم الوقت قد يؤدي إلى قطع الصلة في السياسة بين الحكومة والمجتمع.

          ويتساءل الفصل الثالث الذي كتبه كلٌّ من توني أديسون ورايتشل غيسلكويست، وميغيل نينو-زارزوا، وسوراب سينغال، عن ترتيب مجالات السياسة العامة والإجراءات التي تتخذها الحكومات في جدول الأولوية في مرحلة ما بعد الصراع فيما يتعلق في التنمية الاجتماعية وتقليص الفقر في وسط الدمار المادي والاقتصادي والبشري الناجم عن الصراع، والمؤلفون يحذرون من أن حجم التحديات وتعقيداتها تدفع المساهمين وصناع القرار ليعملوا بـ”المنهج العشوائي”، ويقوموا بعمل كل شي في آن واحد وبالنتيجة فهم لم يصنعوا شيئاً.

          ويركز الفصل الرابع المكتوب بوساطة كرايشن دي كاستيلو، في إعادة البناء الاقتصادي، ليناقش وجود ثلاث طرائق منفصلات من الضروري اتخاذها لِيَعِمَّ السلام، وهذه الطرائق هي: تطبيق إعادة بناء اقتصادي فعال للابتعاد عن اقتصاد الحرب، وتحقيق نمو ديناميكي من خلال السياسات الشاملة؛ لأجل النهوض بالحياة والمستوى المعيشي للسكان، وتبني النظام الاقتصادي الشامل والذاتي من خلال التصدير والاستثمار الخارجي.

          أما الفصلان الخامس والسادس، فيبحث فيهما الكاتبان بين رايلي وانا جارستاد، مسألة التوقيت والتسلسل للانتخابات والتأسيس الديموقراطي في أجواء ما بعد الصراع، وكل من الكاتبين يستنتجان أنَّ الانتخابات تستعمل كمقياس للنجاح؛ ولهذا يتم التعجُّلُ بتنفيذها من دون إجراء التحضيرات اللازمة.

          ويبحث الفصل السابع الذي كتبه غراهام براون، في موضوع مقارب ولكن بالتركيز على المجتمع المدني ككل، مشيراً إلى أن المجتمع بنحوٍ لا لبس فيه “جيد” في سرد ما بعد الصراع، ولكنه على الرغم من ذلك، بإمكانه أن يصبح -من دون المشاركة أو المصالحة- قوة تدميرية بحد ذاته.

           أما الفصل التاسع الذي كتبه ليونس نديكومانا، فيحلل دور المساعدات الخارجية في دور مع بعد الصراع، ويرى أن بناء الدولة يجب أن يكون أولى الأولويات، والمؤسسات تُقوَّى كي يكون بعدها عملية إعادة الإعمار سهلة، ويقل الاعتماد على الدعم.

            ويتناول الفصل العاشر الذي قام بكتابته لوري بيرلمان وايرفن ستوب موضوع المصالحة ومعالجة الصدمة، وناقش الكاتبان الرأي القائل: إن معالجة الجروح النفسية والشخصية والروحية على نطاق واسع هو أمر رئيسٌ من أجل التعايش السلمي.

            وفي الفصل الحادي عشر الذي كتبته لين دايفدس نرى أنه يتعامل مع التعليم في السلام بمرحلة ما بعد الصراع. على الرغم من وجود فكرة أنه ليس هنالك حل عالمي للتعامل مع الصراع على أرض الواقع، وتقول الكاتبة: إذا حدثت المظالم على عدم المساواة في الفرص التعليمية، فهناك حاجة إلى الاصلاح.

          أما الفصل الأخير من القسم الأول وهو الثاني عشر فقد تم إعداده من طريق جيمي راوين، وهو يهدف إلى مواجهة “التحديات السارية المتعلقة بإعادة البناء الاجتماعي في الأجواء بمرحلة ما بعد الصراع، ليدرس الأوقات وتسلسل التدخلات الهادفة إلى المصالحة”، ويذهب الكاتب بعيداً في التفاصيل ليشرح كيفية المزج بين العدالة الانتقالية والمصالحة ويحذر من أن أي مشروع مصالحة يجب أخذه بحذر.

             وعلى الرغم من عمومية الفصول السابقة على نحو لا يمكن إنكاره، إلّا أن هذه الموضوعات تغطي مجموعة مشاكل مرتبطة، وهي مشاكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ ولهذا فإن نصائح المؤلفين وملاحظاتهم يجب أن تُؤخذ جديّاً بنظر الحسبان.

             وحين نتصفح القسم الثاني فسنرى أنه تحليل عملي لمجتمعات مرحلة ما بعد الصراع وخبرتهم في بناء السلام، ويشير إلى التحديات والمعضلات التي واجهت تلك المجتمعات، وإن الحالات التي تمت دراستها هي من مختلف الأماكن (أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وأوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط) وتغطي حالات فشلت وأخرى نجحت. والجدير بالذكر أن المؤلفين في هذا القسم خبراء في الدول المعنية والصراعات التي عانتها، وهم قادرون على إعطاء تحليل مفصل عن خبرة تلك الدول. والدول التي تم تحليلها هي: (بوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ونيجيريا، وجنوب السودان، وليبيا، وآيرلندا الشمالية، وكولومبيا، والبيرو، وإندونيسيا، والنيبال، وسريلانكا)، والكثير من تلك الصراعات أشبه ما تكون بالصراعات التي تحدث في الشرق الأوسط.

             يبدأ هذا القسم بالفصل الثالث عشر لمؤلفه جانفير نكورازيزا ويدرس حالة بوروندي وخَلصَ إلى أن نتائج اتفاقية أروشا للسلام كانت تعكس ما تفضله النخب الحاكمة وتضع في الأولويات ما يصب في مصالحهم من تدابير على حساب تدابير بناء السلام كإصلاح الأمن، وإعادة بناء الاقتصاد، وقد تكون تجارب بوروندي -التي أعقبت نظام الكوته العرقي على غرار عدد من الدول في الشرق الأوسط كالعراق ولبنان- بمنزلة تحذير لصناع القرار.

           أما الفصل الرابع عشر لكاتبته ساره هلمولر فهو ينظر إلى تجربة الكونغو الديمقراطية وكيف رتب اللاعبون العالمييون والدوليون برامجهم بنحوٍ مختلف من أجل صنع السلام؛ وهذا تراه الكاتبة لا يشكل مشكلة بحد ذاته، ولكن ضعف التنسيق سبب ضياع عدد من الفرص لبناء السلام وما زال بناء السلام غير حاصل.

          وينظر الفصل السادس عشر المكتوب من قبل دايفد فرانسيس إلى حالة جنوب السودان وكيف أن الاستجابة الدولية لبناء السلام في جنوب السودان بقيت “بنحوٍ ملحوظ غير متناسقة وغير منسقة، ينقصها الشرعية المحلية”.

          والفصل السابع عشر يحلل فيه مارك كريستن العدالة الانتقالية في ليبيا بعد أحداث الحرب الأهلية في 2011، ويتحدث كريستن بشيء من التفصيل عن أن “العدالة” وعلى الرغم من وصفها بالانتقالية، إلّا أنها كانت في الحقيقة عدالة المنتصر التي فاقمت هشاشة المجتمع المدني في ليبيا وعوقت عملية السلام، والمقارنة هنا بين قانون العزل السياسي الليبي الذي استهدف أعضاء من حكومة القذافي، وقانون اجتثاث البعث الذي يرى بعض الباحثين انه استُغل من  الأطراف المشاركة في العملية السياسية؛ من أجل تصفية حساباتهم، وعرقلة محاولات شرعية لبناء السلام.

         أما الفصل الثامن عشر فهو لجنيفر تود، ويحلل فيه التجربة الآيرلندية الشمالية في تحقيق السلام، وواحدة من أهم الخلاصات في هذا الفصل هي أن عمليات إعادة بناء السلام قد تبدأ قبل حدوث اتفاقية سلام أو مصالحة رسمية ويلاحظ أن أهم الخطوات في التجربة الآيرلندية الشمالية قد حصلت مسبقاً لوقف الأعمال الحربية رسمياً.

           وحينما نصل إلى الفصل العشرين لماريا أولف سنراه يدرس تجربة البيرو، وقد لاحظت الباحثة أن حكومة البيرو وضعت من أهم أولوياتها الأنموذج السياسي والاقتصادي، تعزيز الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة -ومن ثم بناء السلام- والكاتبة تشير إلى أن فعل ذلك قبل تفعيل برنامج فعال لإعادة الإعمار بعد الحرب سوف يحدد من نطاق تلك البرامج ويحولها إلى “تعويضات” فقط.

           أما الفصل الحادي والعشرون الذي كتبه دايميان كنكسبيري فيركز على (إندونيسيا) ويرى دايميان أن كلا الطرفين لو لم يريدوا الدخول في محادثات السلام، لأصبحت العملية ككل غير مجدية، ويلاحظ أيضاً أن تأسيس حكومة “شرعية” للمجتمع الساخط هي خطوة مطلوبة وضرورية من أجل حل المشاكل الداخلية في الدول.

           وفي الفصل الثاني والعشرين والأخير لماهندرا لاووتي يدرس الكاتب قضية النيبال، ويتعامل مع الانقسامات والطعون التي أخرت كتابة الدستور ويرى أن هذه التأخيرات مرتبطة بالاعتراف بالهويات وحق تقرير المصير للمجتمعات المعزولة من خلال الفيدرالية، ويبحث الكاتب في القضايا المؤثرة كإعادة دمج الجيش وتوقيت الانتخابات.

             ومن تجارب البلدان المذكوره آنفاً نرى أن النتائج التي استخلصها المؤلفون والاستنتاجات التي رسموها بخصوص ما كان يجري بنحوٍ صحيح وما كان خاطئاً يمكن تطبيقه بنحوٍ كبير في صراعات الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية الحالية، وكانت الصراعات الأربعة الأكثر وضوحاً في الشرق الأوسط هي العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا (التي قد شهدت ازدياداً كبيراً في الفترة ما بعد إصدار الكتاب)، وجميع تلك الصراعات تتوازى مع الصراعات التي يناقشها الكتاب. وفي الواقع أن الكتاب أصبح مثيراً للانتباه لكونه يسلط الضوء على مناطق مهمة ومتقاربة فضلاً عن التشابه في السياقات والمسارات ما بعد الصراع بين مناطق جغرافية مختلفة.

             ونستخلص من هذا كله أن كتاب “بناء السلام المستديم: توقيت وتسلسل إعادة الإعمار وبناء السلام في مرحلة ما بعد الصراع” هو بحث جيد ومنظم حيث يذهب إلى الآلام العظيمة ليقدم لنا طرقاً ووسائل وقضايا نحو بناء السلام المستديم، مقدماً عدة دلائل متنوعة من مختلف أنحاء العالم ليقوم بسند آرائه، وأنَّ توازُنَ الكتاب بين النظرية والتطبيق يجعله باقياً على الأرض وقابلاً للتطبيق في العالم الحقيقي؛ وبالتالي فإن هذا الكتاب هو من الموصى به لمن يريد معرفة الخلفية النظرية لبناء السلام المستديم، ولفهم التحديات النظرية والتطبيقية المواجهة، والتطلع للتطبيق في الحياة العملية.


    [1] – تركز أبحاث السيد ارنيم على السلوك الجماعي وتشكيل الهوية، وأسباب وعواقب الصراع العنيف، وديناميات واستمرار عدم المساواة الأفقية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع الاقتصادي، وعمليات الإدماج، وبناء السلام المستدام والتربية من أجل السلام في البلدان الخارجة من الصراع. وقد أجرى بحوث ميدانية واسعة النطاق ويشغل مشاريع بحثية كبيرة حول هذه الموضوعات في عدد من البلدان الأفريقية، لا سيما في كوت ديفوار وغانا ونيجيريا وأوغندا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.