back to top
المزيد

    تداعيات محاولة الانقلاب العسكري في تركيا ونتائجه

    أدت الأحداث المتسارعة بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في الخامس عشر من يوليو/ تموز من هذا العام إلى سياسات وإجراءات وردود أفعال متعددة على مستوى المؤسسات المختلفة في تركيا، حيثُ شملت المؤسسات الحكومية الرسمية مثل الجامعات والمستشفيات ومراكز الشرطة والمدارس والمحاكم، ولم يكن هذا الانقلاب هو الأول من نوعه في تركيا، فعند مراجعة تأريخ الانقلابات التي حصلت فيها تجد أن هذا الانقلاب هو الأبرز لعوامل عدة سياسية واقتصادية وتكنولوجية، فضلاً عن الوضع الإقليمي المحيط بتركيا، وأن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في تركيا بموجب الصلاحيات التي منحها لها الدستور في حماية النظام العلماني كان هو العامل المساعد الآخر على الانقلاب.

    ‫ أراد الانقلابيون من خلال المحاولة الأخيرة إظهار القوة العسكرية العالية، من أجل السيطرة على نظام الحكم عن طريق استخدامهم الطائرات وضرب مبنى البرلمان التركي وتحليق طائرات F16  العسكرية واعتقال رئيس أركان الجيش وإنزال الآليات العسكرية إلى الشوارع الرئيسة والسيطرة على مبنى التلفزيون الرسمي، كل ذلك أدى إلى تصويت مجلس النواب التركي على طلب تقدم به رئيس الوزراء لإعلان حالة الطوارئ لمدة لا تزيد عن ٣ أشهر حيث صوت ٣٤٦ نائباً من بين ٤٦١ نائباً حضروا الجلسة من إجمالي أعضاء المجلس البالغ عددهم ٥٥٠، حيث صوت نواب حزب العدالة والتنمية كافة (٣١٧) فيما صوت (٢٩) نائباً عن الحركة القومية من مجموع (٤٠) نائباً ورفض نواب حزب الشعب الجمهوري اليساري (١٣٤نائباً) التصويت، وكذلك رفض التصويت نواب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي (٥٩ نائباً)، وبلغت نسبة المصوتين ما يقارب ٦٣٪ من نواب البرلمان وهي أصوات كافية لتمرير قانون حالة الطوارئ إلا أنها زادت من حالة الاستقطاب الداخلي لتقسم المجتمع التركي على عدة أقسام بين مؤيد ورافض للقانون وما تبعه من عمليات التطهير في مؤسسات الدولة التركية؛ وبذلك انقسم القوميون بين مؤيد ومعارض لأردوغان وحكومته التي أصدرت قرارات مهمة اعتماداً على حالة الطوارئ تهدد النظام الديمقراطي الذي عاشته تركيا منذ عقود، ومن المفارقات السياسية أن الرئيس رجب طيب أردوغان لطالما اتهم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد ٢٠٠٣ بممارسة التطهير والاجتثاث ضد طرف معين في مؤسسات الدولة العراقية وأن ذلك الاجتثاث سبب لجوء ذاك الطرف إلى العنف والإرهاب، لكنه اليوم يمارس اجتثاثاً شديد القسوة وعنيف السطوة ضد كل من يتم اتهامه بالولاء للانقلابين ولرجل الدين المعارض فتح الله غولن الذي يدين له تيار غير صغير بالولاء العقائدي.

    عمليات الاجتثاث

    القرارات الصادرة بعد إعلان حالة الطوارئ تدخلت بنحوٍ كبير في شؤون المؤسسة القضائية التي من المفترض أن تكون بعيدة عن الصراعات السياسية، إذ بدأت الحكومة التركية بعمليات الاجتثاث في المؤسسة القضائية باجتماع وزير العدل مع المجلس الأعلى للقضاء لأربعة ساعات وخلال الاجتماع تم اختيار ٢٦٧ عضواً جديداً في المحكمة العليا و٧٥ عضواً في مجلس الدولة رغم غياب بعض أعضاء المجلس بسبب اعتقالهم في إطار تحقيقات محاولة الانقلاب، وتم إقصاء العشرات من موظفي المحكمة الدستورية العليا عن عملهم واعتقال أكثر من ٢٠ مقرراً، وأعلنت وزارة العدل التركية عن قيامها بتعيين قضاة ومدعيّ عموم جدد بعد اعتقال أكثر من ألفي قاضٍ ومدعٍ عامٍ ووقف آلاف عن أعمالهم، وطالبت النيابة العامة في تركيا بمصادرة ممتلكات ثلاثة آلاف قاضٍ ومدعٍ عامٍ من الموقوفين، وكل هذه الإجراءات جرت خارج السياق القانوني الذي  ينص عليه الدستور التركي القاضي باستقلالية المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء وبقية المؤسسات القضائية التي تعتمد اختيار أعضائها ضمن تصويت داخلي.

    وتم إغلاق ١٥ جامعة، و٣٥ مؤسسة طبية، وأكثر من ألف مدرسة خاصة وأكثر من ١٢٠٠ مؤسسة خيرية و١٩ نقابة بتهمة الارتباط مع حركة الخدمة التي تتبع  للسيد غولن المقيم في الولايات المتحدة والمتهم بتدبير الانقلاب الفاشل، وأوقفت الحكومة التركية أو احتجزت أو وضعت قيد التحقيق أو أقالت نحو ٦٠ ألفاً من عناصر الجيش والشرطة والقضاة والموظفين والمعلمين، وقامت بإلغاء جوازات سفر ما يقارب ١١ ألف شخص ومنع سفر ما يقارب ٧٥ ألف شخص، ومن ضمن المقالين زهاء ٦٠٠ عميدٍ في الجامعات وأكثر من ١٥ ألفاً من موظفيها مع إلغاء تراخيص عمل أكثر من ٢٠ ألف معلم.

    وامتدت عمليات الاجتثاث لتعيد هيكلة جهاز المخابرات حيث نقل الإعلام التركي عن نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قرتولموش عن إنشاء جهاز استخباري جديد بإعادة هيكلة جهاز المخابرات لتكون الوحدات الاستخباراتية كافة تحت تصرف رجل واحد والغاية منها تأسيس نظام يجعل الجيش مؤسسة مكشوفة بما سيمنع التفكير في تنفيذ محاولة انقلاب أخرى، إلّا أن وسائل إعلام غربية تحدثت عن نية السيد أردوغان تقسيم جهاز المخابرات على كيانين أحدهما للعمل الخارجي ويكون تابعاً لرئيس الجمهورية بنحوٍ مباشر والآخر للعمل الداخلي يتبع وزير الداخلية وسيشكل الرئيس أردوغان قيادة مركزية تنسق أنشطة الوكالتين.

    عمليات التطهير التي قام بها النظام التركي طالت وسائل الإعلام أيضاً إذ قامت الحكومة التركية بإغلاق ١٦ قناة تلفزيونية و٣ وكالات أنباء و٢٣ إذاعة و٤٥ صحيفة و١٥ مجلة و٢٩ دار نشر وأهمها وكالة جيهان الإخبارية وصحيفة زمان وصحيفة توديز زمان الإنجليزية وصحيفة طرف، وأصدرت أوامر اعتقال ضدّ عشرات الإعلاميين منهم الكاتب على بولاج المستشار الأسبق للرئيس رجب طيب أردوغان خلال عمله كرئيس للوزراء ورئيس التحرير السابق لصحيفة زمان ووكالة أنباء جيهان ومدير تحرير سابق لصحيفة زمان، وأغلت تراخيص عمل صحفية لأكثر من ٣٠٠ صحفي وإعلامي، وأعلنت إدارة الصحافة والإعلام التابعة للحكومة حظر سفر جميع الإعلاميين والصحفيين إلا بموافقة من الإدارة.

    أما بشأن الجيش فمع اللحظات الأولى لبدء سريان حالة الطوارئ قامت الحكومة التركية بتطهير المؤسسة العسكرية واجتثاث كل من يُشك في ولائه، فقد أرغمت الحكومة قيادة الجيش التركي على إقالة نحو عشرة آلاف من أفراده من بينهم ٨٧ جنرالاً وأكثر من ٧٠٠ ضابط من القوات البرية، وتمت إقالة ٣٢ أميرالاً وعشرات الضباط من القوات البحرية و٣٠ جنرالاً وأكثر من ٣٠٠ ضابط من القوات الجوية، لتنتج حملة الإقالات عن بقاء ٢٠٩ من الجنرالات في الجيش التركي بعد إقالة ١٤٩ جنرالا أي ما يشكل ٤١٪ من جنرالاته بلا قرار من المحكمة العسكرية أو الدستورية وشمل قرار الإقالة عدم قبولهم في صفوف الجيش مرة أخرى وعدم تعيينهم بشكل مباشر أو غير مباشر في أي منصب حكومي، فضلاً عن أن الحكومة قد ضمت قيادات القوات الجوية والبرية والبحرية إلى وزارة الدفاع بعدما كان الجيش يخضع لهيئة الأركان العسكرية التي كانت مستقلة منذ تأسيسها على يد كمال أتاتورك في بداية قيام الجمهورية التركية عام ١٩٢٣ ولم تتبع يوماً للحكومات التركية المتعاقبة منذ بداية القرن الماضي، وقررت الحكومة أيضا ضم قوات الدرك (حرس الحدود) وخفر السواحل إلى وزارة الداخلية بعدما كانت تابعة للجيش، وأغلقت الحكومة الأكاديميات الحربية والكليات العسكرية والمدارس الثانوية العسكرية ومعسكرات إعداد ضباط الصف كافة وقررت فتح جامعة عسكرية جديدة تابعة للحكومة، وقررت إلحاق المستشفيات العسكرية والأكاديميات الطبية العسكرية بوزراة الصحة. القرارات الحكومية تضمنت أن تتلقى صنوف القوات المسلحة التركية كافة أوامر مباشرة لها من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء دون أية جهة أخرى وبذلك صارت رئاسة أركان الجيش وجهاز المخابرات تحت سلطة الرئيس أردوغان المباشرة.

    تغيير العقيدة العسكرية والقضائية التركية

    خلال عمليات تطهير مؤسسات القضاء التركية فإن أردوغان لم يضمن فقط تولي قضاة ومدعين عامين موالين له بل أنه بدأ فعلا بتغيير عقيدة المؤسسة القضائية التركية التي اعتمدت الفكر العلماني منذ تأسيس الدولة الحديثة، فالمعلوم أن المؤسسة القضائية التركية هيئة مستقلة تعتمد اختيار كبار أعضائها من العلمانيين الموالين لفكر أتاتورك لكن مع حملة التغييرات الكبيرة في المؤسسات القضائية فإن أردوغان ضمِنَ دخول ذوي الأجندة الإسلامية إليها. المؤسسة القضائية التركية كانت على علاقة غير ودية مع السيد أردوغان ولاسيما مع كشف ملفات فساد في كانون الأول ٢٠١٣ متعلقة بحكومته التي كان يرأسها قبل توليه رئاسة الجمهورية، وشملت ملفات الفساد وزراء مقربين منه و طالت نجله، وتدهورت العلاقة بشكل كبير بين القضاء وأردوغان في آيار ٢٠١٥ في قضية صحيفة ’’جمهوريت‘‘ التركية التي نشرت تقريراً عن شاحنات نقل خارجي تعمل لحساب المخابرات التركية تحمل قذائف وصواريخ وأسلحة إلى سوريا، وهو ما أكد دعم الحكومة التركية للجماعات المسلحة في وقت كانت الحكومة تنفي بشكل قاطع تقديم أي دعم؛ فقامت الحكومة التركية باعتقال رئيس تحرير صحيفة جمهوريت جان دوندار وهو من الشخصيات الإعلامية المشهورة ومدير مكتب الصحيفة بأنقرة، إلا أن المحكمة الدستورية ردت قرار الاعتقال وعدته بلا أساس قانوني وأصدرت قراراً بإطلاق سراح الإعلاميين الاثنين، حينها شنت وسائل الإعلام الموالية للسيد أردوغان حملة واتهمت رئيس المحكمة الدستورية زهدي أرسلان المعروف بعلمانيته بالانتماء لحركة غولن الإسلامية، وعلق أردوغان على القرار قائلا: ’’أنا لا أعترف بهذا القرار ولا أقبل به ولن أطبقه‘‘. وتخشى المعارضة من وقوف المحاكم ضد من يقارع الرئيس بعد التغييرات الحالية، إذ إن تطهير المؤسستين الأمنية والقضائية سيؤدي إلى إغلاق كل الملفات الخاصة بتحقيقات الفساد التي تورط فيها وزراء حكومة أردوغان ونجله ورجال أعمال مقربون منه (في كانون الأول ٢٠١٣).

    من الأمور الاستراتيجية المهمة في تركيا هي عقيدة الجيش التركي التي وضعها كمال أتاتورك ضمن معادلة (الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش) وتقضي هذه المعادلة بأن يكون الجيش ذا عقيدة علمانية ببعد قومي، فمع إقالة ٤١٪ من قياداته يدور حديث عمن سيحل محلهم؟

    الرئيس أردوغان حاول طمأنة بقية قيادات الجيش والحركة القومية بتعيين مجموعة من القيادات ذات التوجه القومي لكن في حقيقة الأمر أن حصة الأسد ستكون لأتباعه الذين سيشغلون أماكن المقالين من المواقع الحساسة والرئيسة، وسيكونون من حزب العدالة والتنمية الجناح الموالي لأردوغان حصراً، وهؤلاء الجدد يؤمنون بأيديولوجية الإسلام السياسي وسيحاولون إبدال العقيدة العلمانية للجيش التركي بعقيدة عسكرية أصولية. هذا الأمر سيترك شرخاً بين القيادات الموالية للعلمانية القومية وبين القيادات الجديدة الإسلامية وسيمتد الشرخ إلى طبقات الضباط الأدنى مرتبة وإلى ضباط الصف والجنود؛ وبالتالي سينقسم الجيش التركي بين مؤيد للعقيدة الجديدة وبين معارض وسيلجأ أردوغان إلى عمليات تصفية جديدة حتى يضمن ولاء جميع القيادات، لكنه سيقود جيشاً مشتت الولاء يرى فيه طرف ما أن الطرف الآخر عدو له، ينتظر الفرصة للانقاض عليه، ازدواجية العقيدة العسكرية سيجعل الجيش التركي متعدد الولاءات لوقت طويل وسيسعى أردوغان إلى بناء جيش جديد بجنود وضباط صف وضباط بمراتب دنيا، وخلال هذه المرحلة سيعمل على استمالة من بقى من جنرالات القوميين حتى يتمكن من تأسيس جيش بعقيدة جديدة وهذا سيحتاج إلى مدة طويلة، فيما يشهد جنوب شرق تركيا عمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني ويزداد الاستقطاب الاجتماعي القومي والطائفي كل يوم مع تمدد الحركة الأصولية الاسلامية في المجتمع التركي.

    هذا الاستقطاب القومي والطائفي بدت ملامحه تظهر بشكل جلي في حديث لوزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي خلال رده لجماهير حاشدة مؤيدة لحزب العدالة والتنمية مطالبة بتطبيق قانون الإعدام، قائلا عن الذين تم اعتقالهم بتهمة المشاركة في الانقلاب: ‘‘إنهم سيُعاقَبون بالشكل الذي سيجعلهم يتوسلون بنا أن نقتلهم ليتخلصوا مما سيكونون فيه.. سنضعهم في سراديب السجون ولن يروا الشمس أو يسمعوا صوت إنسان حتى الموت”، ومن جانب آخر تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي التركي فيديو يظهر رجل دين تركي يلقي خطاباً في تجمع حاشد في اسطنبول موالي للرئيس أردوغان، يدعو فيها الناس إلى استباحة أملاك كل من يقف مع الانقلابين أو حركة غولن واصفا ممتلكاتهم بالغنائم، قائلا للحشود الحاضرة: “تمتّعوا بها كيفما شئتم”.

    إن هذا السلوك الانتقامي وسط رفض ما يقارب نصف المجتمع التركي لعمليات التطهير في مؤسسات الدولة قد تكون له تبعات غير محمودة على الأمد القريب، فكل تلك الإجراءات الاجتثاثية التي تناقض الدستور التركي الذي ينص على استقلالية هيئة أركان الجيش  واستقلال المؤسسة القضائية جعلت أردوغان يقول في مقابلة تليفزيونية إنه سيتم إجراء إصلاح دستوري في مجلس النواب التركي من شأنه إذا ما تم إقراره أن يضع رئاسة أركان الجيش تحت سلطة الرئاسة، إلا أن إقرار هذا التعديل الدستوري يتطلب أكثرية الثلثين في مجلس النواب (٣٦٧ صوتاً) مما يعني أن الرئيس أردوغان الذي يملك (٣١٧ صوتاً) بحاجة إلى تأييد بعض من أحزاب المعارضة، ويرى مراقبون أنه من الصعب أن يحصل اردوغان على أصوات ثلثي المجلس حتى مع انضمام جميع نواب الحركة القومية فسيبقى بحاجة لأصوات نواب الشعب الجمهوري العلماني اليساري وهم ممن يرفضون تلك الإجراءات التطهيرية جملة وتفصيلاً، إذ رفض كمال قلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري التعامل مع المحاولة الانقلابية الفاشلة عن طريق إزاحة أشخاص من مناصبهم، وأنه لا يمكن إدارة مؤسسات الدولة بنفس طريقة إدارة حزب سياسي متهماً حزب العدالة بتهميش مجلس النواب.

    أما الأعضاء الاكراد فقد حذر رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش من أن الحكومة ستستخدم حالة الطوارئ على خلفية محاولة الانقلاب للقضاء على المعارضة السياسية، وأن الصراعات الحالية في تركيا توضح أن محاولة الانقلاب ما زالت قائمة حتى الآن وأنه لا يمكن التصدي للانقلاب بإعلان حالة الطوارئ، وتوقع توسيع العمليات الأمنية لتشمل جميع المعارضين السياسيين بعد الانتهاء من الانقلابين، وأن ما تعيشه تركيا الآن لا علاقة لها بالديمقراطية على الإطلاق وأن جماهيره ستواصل معارضتها للرئيس أردوغان والانقلابيين، وتخشى المعارضة التركية بأحزابها الثلاثة من أن أردوغان يسير قدماً ضمن مراحل مشروع تؤدي إلى إجهاض الديمقراطية المدنية في تركيا عبر تغيير النظام السياسي من نيابي إلى النظام الرئاسي بصلاحيات مطلقة للرئيس، فالسيد قلجدار أوغلو قال إن كل إجراءات حالة الطوارئ كان يجب أن تمر من خلال مجلس النواب حسب الدستور التركي وما يحصل في حالة الطوارئ هي إجراءات غير دستورية ولاسيما مع تغيير أعضاء مجلس المحكمة الدستورية وبقية مجالس المؤسسات القضائية وهيئة أركان الجيش.

    الدولة العميقة والدولة الموازية

    يقصد بالدولة الموازية مجموعات رجال الدولة والتعليم والأعمال والإعلام ممن يتبعون لحركة الخدمة التي يترأسها رجل الدين فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الذي اتهمه أردوغان بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة. هذه الحركة التي بدأت عام ١٩٧٠ عبر جمع الأموال من المتدينين لتمويل فرص تعليم مجانية للفقراء أو بأقساط مخفضة وكل تلك الفرص كانت ضمن مدارس وكليات خاصة للعلمانيين تقوم بتدريس العلوم العامة والمنهاهج العلمانية التي كانت تحظر أي نوع من أنواع العبادة والتدين والحجاب، وبالوقت نفسه قامت حركة غولن بتوفير مساكن مجانية يسيرة لهؤلاء الطلاب بسبب أزمة السكن وغلاء العقارات. هذه العملية أتاحت للحركة تعزيز النشاطات الإسلامية عبر محادثات خاصة مع الطلاب باتباع سياسة الإقناع مما جعل عشرات الآلاف منهم يتحولون إلى خريجين متدينين مستعدين بعد تخرجهم للتبرع أو للعمل في مدارس الحركة أو العمل في وسائل إعلامها، فيما نجح آخرون في التسلل إلى صفوف الجيش التركي باتباع أسلوب التقية والتظاهر بالعلمانية بأوامر من غولن نفسه، وحينما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تشرين الثاني ٢٠٠٢، اعتمد بشكل أساس على هذه الطبقة المنتشرة في كل مؤسسات الدولة لتطبيق سياسات الاقتصاد الناجحة التي دعمها الغرب بقوة عبر الاستثمارات الغربية والقروض الكبيرة، وتفادى المحاولات الانقلابية بوجود أتباع غولن في الجيش والمؤسسات الأمنية والقضاء، لكن مع عام ٢٠٠٩ دب الخلاف بين أردوغان وغولن إذ أراد كل طرف الاستئثار بنفوذ الدولة وإدارتها وهو ما جعل أتباع غولن يقودون حملة كشف ملفات فساد كبيرة في حكومة أردوغان انتهت بحملة مضادة في إقصاء قضاة وضباط من المؤسسات الأمنية ثم في الجيش وملاحقة الموالين في التعليم والإعلام وتجارة الأعمال، وأخيراً بإغلاق المدارس التابعة لحركة غولن أو المدارس المتعاونه معه كافة وإقصاء المعلمين والمدرسين وأستاذة الجامعات ممن قد ينشئون جيلاً جديداً موالياً لحركة غولن.

    إن إعادة هيكلة أجهزة الأمن والمؤسسات القضائية بعد إقالة عشرات الآلاف من القادة والضباط الأمنيين المتخصصين في مكافحة التنظيمات الإرهابية ممن عملوا لفترات طويلة واستبدالهم بموالين للسيد أردوغان سيؤدي إلى تولي أفراد ممن لا يمتلكون الخبرة التي امتلكها أسلافهم، مما سيجعلهم يلجأون إلى القوة المفرطة لضبط الوضع الأمني وهو ما يخالف الدستور التركي القائم على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية ولاسيما مع إغلاق الكليات الأمنية كافة التي كانت تُخرِّج عناصر متخصصة لمراكز الأمن في كل أنحاء تركيا. ولتعويض النقص الحاصل أفرجت الحكومة التركية عن جميع الجنرالات الكبار والضباط من السجن بعد أن أدانتهم المحاكم التركية بتهمة التخطيط للانقلاب على حكومات أردوغان ما بين (٢٠٠٣ – ٢٠٠٧) الذين عرفوا بعناصر الدولة العميقة. والدولة العميقة حسب المفاهيم التركية هي مجموعات من رجال الدولة في الجيش والقضاء وبقية مؤسسات الدولة وخارجها في الإعلام وتجارة الأعمال ممن يدينون للقومية التركية التي أنشأها كمال أتاتورك وهم من قادوا أربعة عمليات انقلاب عسكرية خلال القرن الماضي.

    وبحسب المعطيات التركية فإن أردوغان حينما كان رئيساً للوزراء (٢٠٠٣ – ٢٠١٠) تحالف مع (الدولة الموازية) أو حركة الداعية غولن لمواجهة (الدولة العميقة) أو القوميين في الجيش والقضاء والإعلام؛ بسبب افتقاره للكوادر المهنية والقوية فأطلق يد الغولنيين ضد القوميين الأتاتوركيين بعد اتهام الحكومة للطرف الأخير بتدبير عدة محاولات انقلاب، وكان لأتباع غولن حضور قوي في مؤسسة القضاء والمؤسسات الأمنية فقاموا بزج الضباط القوميين والمراتب العسكرية في السجون ما بين (٢٠٠٣ – ٢٠٠٧)، إلّا أنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز ٢٠١٦ لجأ أردوغان إلى تبديل الأدوار فسلط هذه المرة القوميين على أتباع غولن وبدأ ذلك بإقالة كل من يُشك بولائه لغولن واستبدال موقعه إما بموالي له أو من بأحد المنتمين للقوميين.

    كتبت صحيفة (سوزجو) العلمانية عن تبادل الأدوار بين عناصر الدولة العميقة وعناصر الدولة الموزاية فقالت إن الجنرالات والضباط المحكومين خرجوا من السجون لتنقلب المرحلة في اتجاه معاكس بعد الانقلاب الفاشل وجاء الوقت الذي ظهرت فيه قيمة الضباط القوميين حيث تم ترقية ١٣ ضابطاً بعدما كانوا مسجونين بتهمة مؤامرة الانقلاب العسكري ضد السيد أردوغان، ويبدو أن أردوغان ما زال يعاني من حاجته إلى جنرالات أكفاء لقيادة الجيش؛ لذا لجأ إلى القوميين لتعويض النقص الحاصل بعد إقالة ١٤٩ جنرالاً إذ تمت ترقية ٩٩ عقيداً إلى رتبة جنرال أو أميرال، وهذه الإدارة الجديدة هي تحالف بين حزب العدالة والتنمية والقوميين وستشمل مؤسسات الدولة والإعلام والتعليم بعد حملات التطهير التي بدأت ضد أتباع غولن ومؤسساته المختلفة التي أغلقت جميعها في تركيا.

    يخشى حلف الناتو من أن تؤدي عمليات الاجتثاث في الجيش والأمن لذوي الخبرة على تقليل قدرة الدولة في مواجهة داعش والتنظيمات الأخرى وهو ما أشار إليه مدير المخابرات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر حيث قال: إن عملية التطهير التى تقوم بها تركيا للجيش تعرقل التعاون فى الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش وأنها أثرت على كل ركائز أجهزة الأمن الوطني فى تركيا، ويرى الناتو أن التطهير يشكل خسارة كبيرة للخبرة في وقت تواجه فيها تركيا وأوروبا تحديات أمنية إذ شهدت تركيا عشرات الاعتداءات الإرهابية منها الهجوم الأخير على مطار أسطنبول الدولي، وفي حالة استبدال الحكومة الكوادر الرئيسة بآخرين من الموالين الأقل تأهيلاً فإن ذلك سيؤدي إلى تدمير الكفاءة ومهنية المؤسسة العسكرية وبقية مؤسسات الدولة.

    ماذا لو نجحت محاولة الانقلاب!

    تمر تركيا بفترة عصيبة من فترات تأريخها، فقد انقسم المجتمع التركي على أساس قومي وطائفي بنحوٍ لا مثيل له منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة في عام ١٩٢٣ ولعل الصورة تتضح في مجلس النواب التركي إذ تتربع أربعة أحزاب على مقاعد المجلس لتمثل أربعة اتجاهات وهويات فكرية وقومية وطائفية، فحزب العدالة والتنمية -الذي يمثل تقريباً ٥٨٪ من المجلس- ذو الاتجاه الإسلامي يعمل على أسلمة الدولة العلمانية شيئاً فشيئاً، وحزب الشعب الجمهوري -الذي يمثل تقريبا ٢٥٪ من المجلس الذي أسسه أتاتورك واليوم هو أكبر أحزاب المعارضة- ما زال متمسك بعقيدته العلمانية اليسارية ويمتاز بأن الغالبية العظمى من جماهيره من العلويين الذين على خلاف شديد مع حزب العدالة والتنمية الذي يضم تيارات ترى العلويين كفاراً، فيما تمتاز الحركة القومية العلمانية -التي تمثل ٧٪ من المجلس- ببعدها القومي المتشدد وهي تقف بالضد من الإسلاميين والأكراد واليساريين فقد شهد فقد عقدا الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مواجهات عنيفة بين القوميين واليساريين ودخلت تلك المواجهات الفكرية والعقائدية في آداب الطرفين، وأخيراً حزب الشعوب الديمقراطي الكردي -الذي يمثل ١٠٪ من المجلس- فهو يمثل توجهات الأكراد في تركيا، إن كل حزب من تلك الأحزاب يمتلك هوية وأيدولوجية يحاول تطبيقها على الثقافة التركية، لكن مع وجود النظام الديمقراطي والعملية الانتخابية ومؤسسات القضاء والإعلام الحر تمكنت هذه الأحزاب من التعايش السلمي مع بعضها بعضاً، ولجأت إلى صناديق الانتخاب ومجلس النواب لفض النزاعات فيما بينها.

    إن المحاولة الانقلابية الفاشلة في ١٥ تموز ٢٠١٦ تختلف عن سابقاتها في أمرين أساسيين، الأول أن الانقلابات السابقة التي أزاحت الأحزاب السياسية الحاكمة إنما جاءت عبر اتفاق جميع مؤسسات القوات المسلحة التركية من الجيش والمخابرات وقوات الأمن الداخلي والشرطة فيما لم يحصل هذا الأمر في المحاولة الأخيرة إذ قُدر عدد الأفراد المشتركين بالمحاولة بأقل من خمسة آلاف وسط رفض مشاركة هيئة الأركان العسكرية التي كانت تقود الانقلابات السابقة، والأمر الثاني هو أن الأحزاب السابقة التي أقصيت بالانقلابات لم تكن تمتلك قوات مسلحة داخل الدولة كالتي يمتلكها حزب العدالة والتنمية في وزارة الداخلية والجيش، فقد أظهرت قوات الأمن التابعة للداخلية تماسكاً وواجهت الانقلابيين بقوة، فيما أعلنت بعض فصائل الجيش استعدادها لمواجهة الانقلابيين أيضا ولعلَّ قيام طائرات الجيش بقصف طائرات الانقلابيين دليل واضح على أن الجيش لم يكن بكل مؤسساته مشاركاً في  الانقلاب.

    ولكن بفرضية نجاح الانقلاب ومقتل الرئيس أردوغان أو اعتقاله فإن السيناريو الذي كاد أن يحصل هو كالآتي: انشقاق الجيش ومواجهة مسلحة بين قوات وزارة الداخلية وكتائب الانقلابيين ثم انقسام الإعلام التركي على طرفين وانضمام كثير من جماهير حزب العدالة والتنمية للقتال، وفي هذه اللحظة يلجأ العلويون لمناطقهم ويستعدون للقتال إلى جانب الانقلابيين لا حباً بهم بل خوفاً من انتقام الإسلاميين الذين يعدونهم كفاراً، فقد أظهرت مواقع التواصل الاجتماعي التركية مجموعة من الحشود التركية الموالية للرئيس أردوغان وهم يقتلون جندياً انقلابياً ويقطعون رأسه ثم يرمون به في البحر وسط هتافات دينية وتعبوية. هذا النزاع المسلح بين الاتراك إن كان قد حصل سيترك فراغاً أمنياً كبيراً جنوب شرق تركيا يستغله حزب العمال الكردستاني ويلجأ إلى المدن ذات الاغلبية الكردية ويعلن استقلاله عن تركيا فيما سيرفض القوميون الاتراك وسيقاتلون الاكراد لتدخل تركيا في حرب اهلية قومية وطائفية مدمرة.

    المواقف الدولية والحرب السورية

    ردود الأفعال الباردة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل تجاه محاولة الانقلاب في ساعاته الأولى حينما كان مصير الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم مجهولين، طرحت للنقاش بين الأتراك هذه الأيام إذ إن فشل نظرية تركية تقول: ‘‘إن تركيا محمية بحلفاء غربيين  كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأن الأتراك فوجئوا باتهام الحكومة التركية لغولن المقيم في الولايات المتحدة بتدبير الانقلاب، هذا النقاش التركي الداخلي أحيا شعوراً قديماً بأن الدولة التركية ككيان ما زال مستهدفاً من الغرب وهو ما دأب على قوله القوميون الأتراك؛ وبالتالي صارت هذه المسألة إحدى نقاط الالتقاء بين حزب العدالة والحركة القومية، فبعد ثلاثة أيام على محاولة الانقلاب الفاشلة اجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي ودعوا تركيا إلى احترام حقوق الإنسان والالتزام بالدستور، وجاء الموقف الأوروبي رافضاً لحملات التطهير التركية حيث دعا رئيس وزراء النمسا الاتحاد الأوروبي إلى وقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد بعد حملات التطهير الواسعة وقال إن المعايير الديمقراطية التركية بعيدة عن أن تكون كافية لانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، بالمقابل طالب الرئيس أردوغان من الاتحاد الأوروبي بتطبيق الاتفاق التركي الأوروبي حول منح المواطنين الأتراك حق السفر إلى دول الاتحاد بدون تأشيرة دخول وحذر من أنه في حالة عدم التزام الاتحاد بذلك فإن تركيا وحتى نهاية شهر تشرين الأول فإن اتفاقية قبول المهاجرين ستعد ملغية، بمعنى أن تركيا ستفتح أبوابها للمهاجرين إلى أوروبا كما فعلت بداية صيف ٢٠١٥ وهو ما يشكل تهديداً واضحاً للأمن القومي الأوروبي.

    ولتوظيف حالة الغضب توجه الرئيس التركي إلى روسيا للقاء الرئيس الروسي بعدما أقر أن حل الأزمة السورية يجب أن يتم بالتوافق مع روسيا، الا أن هناك الكثيرين سيخسرون فيما إذا اتفق أردوغان وبوتين على حل الأزمة السورية ضمن الشروط الروسية، أولهم تنظيم داعش وفتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) وكل التنظيمات (الجهادية الأصولية) في سورية لأن تركيا مصدرهم الأكبر في التسليح والتجنيد، وسيؤدي هذا أيضاً إلى تضرر دول إقليمية كبرى تدعم تلك التنظيمات بخسارتها لحليف استراتيجي وستتعرض المخططات الأمريكية والأوروبية إلى انتكاسة إذا ما صارت تركيا تدعم المخطط الروسي، فهل سيواجه السيد إروغان كل هؤلاء؟!

    إن الموقف الرسمي التركي لم يتغير بعد من مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وكان لقاء بوتين بأردوغان اقتصادياً بحتاً؛ مما سيشكل أرضية خصبة لمشهد سياسي سوري بعد عودة العلاقات بين موسكو وأنقرة إلى ما قبل الأزمة، والرئيسان الروسي والتركي تجنبا التطرق إلى نقاط الخلاف وتعاملا معها بطريقة دبلوماسية، أما العلاقات الأمريكية التركية فشهدت بعض الأزمات في  الماضي فمثلاً في عام ١٩٧٤ بعد التدخل العسكري التركي في قبرص، وفي العام ٢٠٠٣ بعد الغزو الأمريكي للعراق غير أن قادة الولايات المتحدة وتركيا كانوا دوماً يجدون موقفاً مشتركاً من القضايا، ولكن هذه المرة ما يغضب الأتراك بشدة هو موقف الولايات المتحدة من دعم الأكراد في سوريا؛ مما يراه الاتراك تهديداً لوحدة الأراضي التركية وللأمن القومي التركي؛ لذا لجأ السيد أردوغان إلى روسيا لحل المسألة الكردية في مقابل حل المسألة السورية.

    أما المواقف العربية فقد اتسمت بالبرود أيضا مع أن كثيراً من الدول العربية ولاسيما الخليجية كانت ترى في تركيا حليفاً استراتيجياً في مواجهة النظام السوري والمحور الإيراني، ولكن غياب الوفود العربية ومنها السعودية التي كان من المفترض أن تزور أنقرة وتقدم الدعم للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، جعلت أردوغان يتحدث في لقاء مع قناة الجزيرة عن خيبة أمله من دول كان يعدها حليفة، وعلى النقيض من المملكة العربية السعودية، أرسلت إيران وزير خارجيتها إلى تركيا وكان مفاجئا قول وزير الخارجية التركي أن الوزير الإيراني اتصل به خمس مرات ليلة الانقلاب للاطمئنان وأن القيادة الإيرانية دانت الانقلاب وهو ما أكده وزير الخارجية الإيرانية.

    خلاصة القول

    إن الانقلاب الفاشل لو كان قد نجح فإنه كان قد أدى إلى حرب أهلية بين اتباع الرئيس أردوغان في الجيش وقوات وزارة الداخلية ومناصريه من الحزب الحاكم والانقلابين الذين لهم في الشارع التركي مؤيدون أيضا؛ وبالتالي ستنقسم تركيا على أساس قومي وطائفي وهو ما ليس في صالح العراق وإيران وسوريا؛ لأن ذلك سيجر إلى تقسيم العراق وسوريا ثم تهديد وحدة الأراضي الإيرانية، وعلى الرغم من فشل الانقلاب إلا أن تركيا خسرت الصورة الكبيرة أمام العالم وظهرت بمظهر المنقسم الهش المهدد داخلياً، وسياسة التطهير والمحاكمات ستزيد من الاستقطابات الداخلية مما قد يعني نجاح محاولة الانقلاب في تمزيق الوحدة الوطنية التركية.

    فبعدما كان الرئيس التركي يسعى لتطبيق نظريته ‘‘تركيا الجديدة’’ من خلال توسيع النفوذ التركي عبر الشرق الأوسط وشرق أوروبا وأواسط آسيا، وجد نفسه يقاتل من أجل وحدة الأراضي التركية والمجتمع التركي، على الأمد القريب ستنشغل تركيا بالمؤامرات الداخلية وتطهير وبناء جيش جديد؛ مما سيستنفذ من قدراتها الأمنية والعسكرية وهذا ما سيبعدها عن موضوع تغيير النظام السوري الذي سيكون مع حلفائه الروس والإيرانيين المستفيدين من ذلك، في حين ستكون المملكة العربية السعودية ومحورها والمعارضة المسلحة أكبر الخاسرين، وسيسعى الأكراد السوريون إلى توسيع إقليمهم على طول الحدود بين تركيا وسورية، إلا أن الرئيس أردوغان سيصر على حل القضية الكردية بالطرق العسكرية، ولكن إنْ قرر أردوغان حل الأزمة السورية بالتنازل والاعتراف ببقاء النظام السوري والرئيس بشار الأسد فهذا يعني أن على تركيا مواجهة تنظيم داعش وجبهة النصرة وكل التنظيمات الجهادية في سورية التي تستطيع تهديد الأمن القومي التركي، ويعني أيضاً الاختلاف استراتيجياً مع المملكة العربية السعودية ومحورها، فهل سيواجه السيد أروغان كل هؤلاء!

    إن الدول الغربية تخشى خروج تركيا عن النظام الديمقراطي وتحولها إلى أنموذج مشابه لماليزيا في أحسن الأحوال أو سورية وقيام حرب أهلية، فأنموذج التنمية الماليزية واردة حيث إن تركيا دولة نامية اقتصادياً لكنها محافظة ولا تلتزم بمعايير الديمقراطية الغربية وتتعامل مع المعارضة السياسية والأقليات بشكل لا يراعي معايير الدول الغربية، وهي ما تفعله ماليزيا التي رغم تقدمها تنموياً إلا أنها شرعت قانوناً تجرم بموجبه التعبد بالمذهب الشيعي، أما الأنموذج الثاني فهناك خشية غربية حقيقية من أن تواجه تركيا حربا داخلية قومية بين الأتراك والأكراد أو طائفية بين السنة والعلويين؛ مما سيقسم البلاد على النمط السوري وتتحول تركيا إلى سوريا ثانية.

    إن العلاقات التركية الأمريكية رغم مرورها بأزمات من حين لآخر فإن القادة الأمريكيين يعولون على برغماتية أردوغان وأن الولايات المتحدة الحليف الأقرب لتركيا؛ لذا قد لا تهتم الدول الغربية كثيراً لتحسُّن العلاقات التركية الروسية لأنها علاقات اقتصادية أكثر من كونها سياسية.

    سيسعى الرئيس أردوغان لتغيير الدستور وإقامة النظام الرئاسي بدلاً عن النظام النيابي لكن هذا التغيير بحاجة إلى تعديل دستوري الذي يتطلب أكثرية الثلثين في مجلس النواب (٣٦٧ صوتا)؛ مما يعني أن الرئيس أردوغان -الذي يملك ٣١٧ صوتاً من حزب العدالة والتنمية- لن يتمكن من إنشاء نظام رئاسي بصلاحيات واسعة؛ بسبب رفض جميع أحزاب المعارضة النيابية، إلا أنه سيستمر في التصرف كرئيس بصلاحيات مطلقة غير دستورية.

    إنَّ المعارضة التركية بدورها تتوجس من أن تؤدي عمليات التطهير والاجتثاث في الجيش والقضاء إلى تسيسه وتعيين القضاة  والقادة العسكريين الموالين للحزب الحاكم لا على أساس المهنية والكفاءة، ولاسيما أن خضوع رئيس الأركان لرئيس الجمهورية سيؤدي إلى الإخلال بسلسلة القيادات في الجيش؛ لأن الأوامر ستكون مرتبطة بوزارة الدفاع وهذه التغييرات الهيكلية ليست كافية لمنع تنفيذ انقلابات أخرى التي إنْ حصلت ونجحت ستقسم الجيش التركي على جيشين وتقود إلى حرب أهلية ستنتهي بتقسيم تركيا وإنشاء دولة كردية.

    أحمد حسن علي
    أحمد حسن علي
    حاصل على درجة البكالوريوس في الإحصاء من جامعة الموصل، وبكالوريوس في علوم الكمبيوتر من جامعة دبلن، ودبلوم عالي من معهد دبلن للتكنولوجيا، وتشمل اهتماماته الأكاديمية والتحليلية عن السياسة والاقتصاد في تركيا ودول الخليج.