ستيفن ايرلنجر
لندن- اختار البريطانيون مغادرة الإتحاد الأوروبي في قرار تاريخي الذي من شأنه إرباك الأوضاع في القارة وتشكيل وضع جديد للمملكة في العالم وتخلخل المؤسسات السياسية في جميع أنحاء الغرب.
لم يمض وقتاً طويلاً بعد الإنتهاء من فرز الأصوات حينما ظهر رئيس الوزراء البريطاني ، ديفيد كاميرون، الذي قاد حملة لتبقى بريطانيا في الإتحاد الأوروبي، أمام مبنى رئاسة الوزراء (10 داونينج ستريت) صباح يوم الجمعة ليعلن انسحابه من منصبه بحلول شهر تشرين الأول ، قائلاً بأن البلاد تستحق قائداً يتعهد بتنفيذ إرادة الشعب.
رافق هذا التحول الصاعق للأحداث تراجع في الأسواق المالية، وتراجع أسعار الأسهم البريطانية وسعر الجنيه البريطاني. فاجأ هامش الفوز البريطانيين المؤيدين لمغادرة الإتحاد ، إذ فازت حملة “المغادرة ” بنسبة 52 في المئة مقابل 48 في المئة ، وذلك بتصويت أكثر من 17.4 مليون شخص في الاستفتاء الذي أجري يوم الخميس على قطع العلاقات مع الإتحاد الأوروبي ، وحوالي 16.1 مليون شخص صوتوا من أجل البقاء في الإتحاد.
قال كاميرون :” سأبذل قصارى جهدي بصفتي رئيساً للوزراء للحفاظ على استقرار هذه الأمة على مدى الأسابيع والأشهر القادمة ، ولكني لا أعتقد بأنني سأكون جديراً بقيادة بلادنا إلى وجهته الجديدة”.
فاجأت نتيجة الاستفتاء مناطق عديدة في بريطانيا وأوروبا وحلفائهم عبر الأطلسي على الرغم من أن استطلاعات الرأي أظهرت بإمكانية فوز متساوية لكل من المؤيدين في البقاء بالإتحاد الأوروبي والراغبين بمغادرته. سلطت نتيجة الاستفتاء الضوء على قوة مشاعر أتباع الشعبوية والقومية ومعارضي فئة النخبة في الوقت الذي تعاني البلاد من اضطراب اقتصادي وثقافي.
قال نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني لمؤيديه المبتهجين والذي كان سبباً رئيسياً وراء تغيير وجهة الاستفتاء نحو مغادرة بريطانيا للإتحاد الأوروبي : “أنا الآن أجرؤ على أن أحلم بأن الصباح القادم سيكون في مملكة متحدة مستقلة”.
ستكون عملية الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي ،والتي سيتركها كاميرون على عاتق الرئيس الجديد، عملية طويلة الأمد. إن مغادرة الإتحاد تعني الإنسحاب من أكبر منطقة تجارية في العالم والتي تضم 508 ملايين نسمة بما فيهم 65 مليون بريطاني و الإلتزام بتحقيق حرية لحركة العمل، ورأس المال والسلع وتوفير الخدمات. ولها تبعات عميقة على النظام القانوني البريطاني والذي يضم مجموعة كبيرة من الأنظمة انطلاقاً من سلامة المنتجات وصولاً إلى الخصوصية الرقمية والإقتصاد البريطاني.
إن أحد أسباب قلق مدينة لندن يوم الجمعة ، وهي المنطقة التجارية في العاصمة لندن، هو أنها مركزاً لتداول الأوراق المالية بعملة اليورو، والتي ستنتقل إلى منافسيها مثل فرانكفورت وباريس بعد عملية الإنسحاب من الإتحاد.
لم يكن واضحاً بأن المملكة المتحدة ستتمكن من النجاة بعد انسحابها من الإتحاد الأوروبي . إذ كان هناك ضغطاً مباشراً لإجراء استفتاء آخر حول استقلال اسكتلندا من بريطانيا، الذين صوّتوا بأغلبية ساحقة للبقاء في الإتحاد الأوروبي يوم الخميس.
اعلنت رئيسة وزراء اسكتلندا (نيكولا سترجون) : “أعتقد أن إجراء استفتاء حول الإستقلال من بريطانيا أصبح أمراً مرجحاً الآن”، وأضافت :”سيكون من غير المقبول ديمقراطياً” بأن يتم طرد اسكتلندا من الإتحاد الأوروبي عندما صوّت غالبية الأسكتلنديين على رغبتهم في البقاء فيه.
وقال كيث فاز، وهو عضو في حزب العمال، “إن قرار الخروج له آثارا “محطمة، وهو “يوم حزين لبريطانيا ولأوروبا. لألف عام قادمة ، لم أكن لأتصور يوماً بأن الشعب البريطاني سيصوت لمغادرة الإتحاد الأوروبي”.
اعترف القادة الأوروبيون بأن تصويت بريطانيا للانسحاب من الإتحاد من شأنه أن يحد من قدرتهم في المضي قدماً لاكمال عملية التكامل الإقتصادي والسياسي, وقد توقفت هذه العملية الآن على أية حال.
اعتبرت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل أن اختيار بريطانيا لمغادرة الإتحاد هي “ضربة موجهة الى اوروبا وهي نقطة تحول لعملية توحيد أوروبا”.
بعد إعلان نتائج الاستفتاء ، بدأت المحاولات وبشكل فوري لتولي السلطة بعد تنحي كاميرون، بعد تصريحه بأنه سيستمر إلى حين ترشيح حزب المحافظين رئيس وزراء جديد محله. من أبرز المرشحين المحتملين هو بوريس جونسون، عمدة لندن السابق وقائد حملة مغادرة الإتحاد, أشاد جونسون بدور السيد كاميرون ووصفه بأنه “سياسي استثنائي” وقال بأنه حزين لتنحيه عن السلطة. ستكون بريطانيا الدولة الأولى التي تغادر الإتحاد والذي يتألف من 28 عضواً، الذي أثقل كاهله فشله بالتعامل مع الأزمات انطلاقاً من الإنهيار المالي عام 2008 وصولاً إلى تمرد روسيا والتدفق الهائل للمهاجرين العام الماضي.
كان ذلك انتصاراً ملحوظاً لقوى معارضي الإتحاد الأوروبي في البلاد، التي اعتبرت منذ فترة قصيرة بأن لديها فرصة ضئيلة في السيادة.
بدأت الأسواق المالية التي توقعت استمرار بقاء بريطانيا في الاتحاد بالانهيار وذلك قبل انتهاء الاستفتاء مشكلةً ضغطاً كبيراً على البنوك المركزية والهيئات التنظيمية لاتخاذ التدابير التي تحول دون انتشار الضرر. وأشارت توقعات علماء الاقتصاد بأن مغادرة بريطانيا من الإتحاد الأوروبي سيلحق ضرراً كبيراً للإقتصاد البريطاني . واجه مارك كارني ، مدير بنك إنحلترا، تلك المخاوف قائلاً :” إن البنك قد وضع خططاً موسعة في حالة الطوارئ ، وأنه قد اتخذ جميع التدابير الضرورية للاستعداد لمغادرة بريطانيا من الإتحاد “.
في وقت سابق ، تعهد كاميرون بأنه سيتحرك بسرعة لإتمام عملية المغادرة إذا ما صوّت البريطانيون على مغادرة الإتحاد الأوروبي، ولكنه صرّح يوم الجمعة بأنه سيترك عملية المغادرة الرسمية بقيادة رئيس الوزراء الجديد، في الوقت الذي يسعى فيه إلى تهدئة الأجواء قبل اتخاذ أي إجراء.
في هذه الأثناء، لن يتغير أي شيء على الفور من الجانبين (بريطانيا والإتحاد الأوروبي) مع استمرار قواعد التجارة والهجرة الحالية. ومن المتوقع أن تكون عملية المغادرة أمر معقد ومثير للجدل، على الرغم من أن المعاهدة التي تحكم الاتحاد الأوروبي ستكون فعالة لمدة عامين منذ بدء عملية الإنسحاب. قال السيد جونسون ، وكالعديد من القادة الآخرين الذين شجعوا ترك الاتحاد الأوروبي، بأنه ليس هناك حاجة إلى التسرع في بدء الإجراءات القانونية – مستنداً على المادة 50 من معاهدة لشبونة- التي من شأنها قطع العلاقات بين بريطانيا والإتحاد رسمياً.
يتخذ جونسون وغيره من دعاة الإنسحاب من الاتحاد الأوروبي موقفاً متباطئ بالمضي قدماً في عملية مغادرة الإتحاد ، قائلا إن بريطانيا تستطيع الحصول على صفقات أفضل في التجارة إذا كان بإمكانها تجنب المواعيد النهائية التعسفية على المفاوضات.
أمّا بالنسبة للإتحاد الأوروبي فإن نتيجة هذا الإنسحاب هو أمر كارثي ، الأمر الذي أثار التساؤلات حول مستقبل وتماسك واتجاه الإتحاد الذي تم بناؤه على أسس القيم الليبرالية والسيادة المشتركة التي تمثل وبالإشتراك مع منظمة حلف شمال الأطلسي عنصراً حيوياً من بنية أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وتعد بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد بعد ألمانيا في الإتحاد الأوروبي ، التي تمتلك قوة نووية ولها مقعد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وهي أيضاً من دعاة الإقتصاد الحر وحليف مقرّب للولايات المتحدة الأمريكية.
إن فقدان بريطانيا تعد ضربة كبيرة لمصداقية الإتحاد الذي يعاني من ضغوط في تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة، وأزمة المهاجرين، وأزمة الديون في اليونان بالإضافة إلى الصراع في أوكرانيا. قال تييري دي مونبريال المؤسس والرئيس التنفيذي للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية “إن التأثير الرئيسي لعملية الإنسحاب هو حدوث اضطراب هائل في النظام التابع للاتحاد الأوروبي في العامين المقبلين”، وأضاف “ستكون هناك تكاليف باهظة في عملية الإنتقال السياسي حول كيفية إيجاد حل للإنسحاب البريطاني، وخطر تأثير هذا الإنسحاب في مغادرة دول أخرى للإتحاد أو حدوث ذعر مصرفي في البلدان الأخرى التي تفكر في مغادرة الإتحاد.”
قال كارل كايزر ، أستاذ في جامعة هارفارد والمدير السابق لمجلس العلاقات الخارجية الألماني وأوروبا، “سيتوجب على أوروبا إعادة تنظيم نفسها في نظام يتضمن درجات مختلفة للإتحاد. لدى أوروبا مصلحة في إبقاء بريطانيا في سوق منفرد، إن كان ذلك ممكنا، وتكوين علاقات أمنية متخصصة لهذا الأمر”.
بينما تحدث قادة حملة مغادرة بريطانيا للإتحاد بشكل جدي حول السيادة وهيمنة البرلمان أو عن طريق استخدامهم للأسلوب الجميل في وصفهم لمستقبل بريطانيا الجميل الخالي من وجود بروكسيل، فقد كان القلق حول الهجرة هو الدافع وراء هذه الحملة .
لم يستطع كاميرون أن يستجيب بشكل فعّال للحد من مشكلة تدفق المهاجرين إلى بريطانيا الذين وصل عددهم إلى 330 ألف شخص عام 2015 وكان أكثر من نصف ذلك العدد هم من الاتحاد الأوروبي. ولم يكن هناك شك حول تأثير المهاجرين على اقتصاد البلاد وعلى الإيرادات الضريبية ، كما شعر العديد من البريطانيين بأن هويتهم الوطنية كانت تتعرض لهجوم وأن تدفق المهاجرين شكّل ضغطا كبيرا على المدارس والرعاية الصحية والإسكان.
كان يدير حملة المغادرة أحد أبرز دعاة الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي ، وهو حزب استقلال المملكة المتحدة ، الذي يدعو إلى كراهية الأجانب ، واللجوء إلى السياسة القائمة على حماية مصالح المواطنين وتفضيلها على مصالح المهاجرين، ووصف منتقدي هذا الحزب بأنهم عنصريين. ولكن اعتمدت حملة المغادرة على اعتبار موضوع الهجرة كقضية وكان شعارهم “السيطرة” التي لاقت رواجاً بين الناخبين الذين يشعرون بأن الحكومة فشلت في تنظيم تدفق الناس من أوروبا وغيرها من البلدان.
احتفلت العديد من أحزاب اليمين المتطرف وأحزاب المعارضة لنتيجة الاستفتاء مثل الجبهة الوطنية مارين لوبان في فرنسا، وحزب غريت وايلدرز في هولندا وحزب البديل لألمانيا. إن عمق المشاعر المعادية لأوروبا يمكن أن تكون عاملا رئيسيا في الانتخابات الوطنية المقررة في العام المقبل في البلدين المهمين في الاتحاد الأوروبي وهما (فرنسا وألمانيا).
أظهرت الحملة البريطانية التأكيدات والإدعاءات مع قليل من الاعتبار للحقائق، إذ لعب الجانبان مابين مؤيد للبقاء في الإتحاد ومؤيد للإنسحاب منه على المشاعر ، وكانت المشاعر التي لجؤا إليها بشكل أكبر هي “الخوف”.
حذر العديد من مؤيدي البقاء بالإتحاد عن المخاطر التي ستنجم عن خروج بريطانيا من الإتحاد والذي أطلق عليه إسم (( Brexit، التي ستؤدي إلى حصول كارثة اقتصادية، وتراجع هائل في قيمة الجنيه وزيادة الضرائب، والمزيد من التقشف وفقدان الوظائف. بينما حذر الجانب الآخر الذي يؤيد خروج بريطانيا من الإتحاد من استمرارية الهجرة غير المتحكم بها وزيادة نسبة الجرائم والعمليات الإرهابية ، وحشود هائلة تتدفق إلى بريطانيا من تركيا، البلد الذي يضم 77 مليون مسلم والمجاور للعراق وسوريا ، والذي يأمل بالإنضمام إلى الإتحاد الإوروبي.
قبل الاستفتاء بأسبوع ، هزّ البلاد خبر مقتل عضو في حزب العمال البريطاني والتي تدعى “جو كوكس” ذي 41 عاماً ، وهي أحدى أنصار بقاء بريطانيا في الإتحاد الأوروبي. قال ممثلوا الإدعاء بأن الرجل الذي وجهّت له تهمة قتلها قد ردد قائلاً “بريطانيا أولاً” و “حافظوا على استقلالية بريطانيا”. في إنجلترا على وجه الخصوص ، التي تشكل نسبة 85 % من سكان بريطانيا، فإن العديد من الأشخاص فكروا بكبريائهم الوطني واستثنائية ثقافتهم وشعروا بالحنين إلى الماضي، واختار العديد من الناخبين الإنجليز للإعتقاد بأن إصرار القادة المعارضين للإتحاد الأوروبي ، مثل السيد جونسون، هو أن بريطانيا ستكون أكثر قوة ونجاحاً خارج الإتحاد الأوروبي . وعلى النقيض من ذلك ، ففي اسكتلندا وشمال إيرلندا ، فقد كان هناك شعور قوي بتأييد البقاء في الإتحاد الأوروبي ، الأمر الذي زاد من حدة التوتر داخل المملكة المتحدة .
أمّا بالنسبة لإيرلندا الشمالية، التي لطالما كانت حدودها مفتوحة مع جمهورية أيرلندا، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، فإنها ستواجه واقع جديد، فإن تلك الحدود المفتوحة ستكون بين عضو في الاتحاد الأوروبي ودولة خارج ذلك الإتحاد الأمر الذي سيؤدي إلى تجهيز الحدود بمراكز حدودية لفحص البضائع وجوازات السفر لأسباب أمنية واقتصادية.
رضخ كاميرون للمتشككين في الاتحاد الأوروبي في حزبه في أوائل عام 2013 لطرح عضوية بريطانيا بالاتحاد الأوروبي في استفتاء شعبي ، عندما شكل السيد فاراج رئيس حزب استقلال المملكة المتحدة ضغطاً كبيراً على السيد كاميرون الأمر الذي دفعه إلى تنظيم ذلك الاستفتاء .
ومع ذلك ، دخل كاميرون الحملة بقوة بوجود خبراء اقتصاديون ، والرئيس الأمريكي باراك أوباما ، والحلفاء الأوربيون وكبار رجال الأعمال إلى صفه. ولكن ، لم تكن الإستفتاءات تدور حول سؤال يطرح بل حول “المزاج السياسي ” في ذلك الوقت ، والمزاج السياسي اليوم كان مراً.
ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .
المصدر: