back to top
المزيد

    الشعبوية الحديثة: أنظمة الدولة التوزيعية والصراع الاقتصادي بعد الثورات العربية

    ستيفن هيرتوج، أستاذ مشارك في السياسة المقارنة في قسم الحكومة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

    أعدت هذه المذكرة لورشة العمل، “من التعبئة لمكافحة الثورة: الربيع العربي في منظور مقارن”، الذي عقد في 03-04 أيار 2016.

    إن أنظمة التوزيع الغنية في العالم العربي مركزية لفهم كل من الانتفاضات العربية والإخفاقات اللاحقة في المنطقة لإصلاح الاقتصاد وإيجاد عقد اجتماعي جديد، وستقوم هذه المذكرة برسم الخطوط العريضة وباختصار لفكرة وجود “مجموعة متنوعة من الرأسمالية” العربية التي تتميز بالدور المركزي للدولة التوزيعية التي تؤدي تدخلاتها الكبيرة، وعلى الأقل في مناطق غير مقصودة، الى تجزئة الأسواق التجارية والعمل بين المقربين من الحكومة وغير المقربين، وسوف أشرح كيف أدى هذا النموذج إلى الركود الاقتصادي وساهم في الانتفاضات من عام 2011، وكذلك الكيفية التي تعثر فيها التكيف الاقتصادي بعد الانتفاضات، سواء في إطار الأنظمة القديمة ام الجديدة، وإن خلاصتها المتشائمة هي أن المؤسسات التوزيعية في معظم الدول العربية لا تزال قوية جداً، بعد أن خلقت مصالح خاصة قوية ليس فقط في مجال الأعمال التجارية ولكن أيضا في المجتمع ككل، وهذا يقوض التفاوض على “العقد الاجتماعي” الجديد – وهو مفهوم يتحدث عنه العديد، ولكن يبدو أن لا أحد قادرا على فهم تفاصيله.

    تستمد المذكرة الافكار من عمل المؤلف المستمر على تعريف مجموعة متنوعة من الرأسمالية العربية وكذلك العمل المشترك على موروثات دولة الرفاه العربية مع فرديناند ايبل.

    خلفية: أنظمة التوزيع في العالم العربي

    قد يكون من الصعب الاعتقاد بذلك، ولكن في عدد من المجالات الهامة، تبرز الدول العربية بوصفها ناجحة في مجال التنمية مقارنة مع تطور أقرانهم في العالم، ومنذ الاستقلال، زادت معظم الدول العربية من معدلات الالتحاق بالمدارس وتحسين تقديم الخدمات الصحية الأساسية، وهذا جعل معظم البلدان في جنوب الصحراء الافريقية وآسيا وأمريكا اللاتينية يشعرون بالغيرة، ويبين الشكل 1 أدناه أن كل بلدان المنطقة التي تفتقر إلى الموارد الوفيرة شهدت نقصاً في معدل وفيات الرضع بالنسبة لأقرانهم في جنوب الصحراء الافريقية الكبرى، اذ بلغت نسبة الانخفاض حوالي 4 ٪ مقارنة 2 ٪ في جنوب الصحراء الأفريقية (لاحظ: يستخدم تعريف البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط هنا؛ والأرقام تكون مشابهة جداً من البلدان العربية الوحيدة المدرجة)، ان تحسن دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا على مؤشر التنمية البشرية، الذي يضم متوسط ​​العمر المتوقع، والالتحاق بالمدارس، والناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، أمر مثير للإعجاب مماثل (الشكل 2).

    الشكل 1: معدلات وفيات الرضع منذ عام 1960 في الشرق الأوسط وجنوب صحراء البلدان الأفريقية
    الشكل 1: معدلات وفيات الرضع منذ عام 1960 في الشرق الأوسط وجنوب صحراء البلدان الأفريقية
    الشكل 2: مؤشر التنمية البشرية منذ عام 1980 للشرق الأوسط وجنوب الصحراء الأفريقية
    الشكل 2: مؤشر التنمية البشرية منذ عام 1980 للشرق الأوسط وجنوب الصحراء الأفريقية

    وقد حققت الجمهوريات الاستبدادية-الشعبوية مثل الجزائر، مصر، سوريا (قبل الحرب) وتونس تنمية بشرية جيدة ولا سيما بالنظر للمستويات المتواضعة للثروة الموجودة في هذه البلدان (الشكل 3).

    الشكل (3): مؤشر التنمية البشرية للدول العربية (2010)
    الشكل (3): مؤشر التنمية البشرية للدول العربية (2010)

    وقد مكنت هذه التحسينات السريعة للنمو بعد مرحلة ما بعد الاستقلال الدول العربية وزادت من قوة البنية التحتية، وأصبحت الدول العربية ضالعة بشكل عميق في الاقتصاد والمجتمع أيضا بطرق أخرى، وكثير منهم يعكس طموح بناء وحماية الطبقة الوسط ماديا.

    بينما ادى طموح الحكومات العربية لتقديم الخدمات إلى تغطية الخدمات الأساسية، الا ان معظم الدول العربية تعهدت بمواد أكثر كضمان لمواطنيها – عادة ما يتجاوز قدرتها المالية والإدارية، خاصة عندما بدأ النمو الاقتصادي بالتعثر في السبعينيات، وكانت النتيجة هي انقسام الاعمال بين المقربين من الحكومة وغير المقربين منا بشكل استفاد منه البعض من الكرم النسبي للحكومات العربية، في حين أن آخرين لا يزالون مستبعدين. وكانت أهم ميدان التدخل في سوق العمل، حيث احتفظت الدول العربية بدور أقوى كمنظمين، وبشكل حاسم، وموظفين مباشرين (انظر الشكل 4)، وتتراوح أسهم الجمهور في مجموع العمالة بين البلدان العربية الأساسية في المشرق والمغرب العربي في الغالب بين 20 و 40 في المئة، أعلى بكثير من تلك الموجودة في أمريكا اللاتينية الاثرى، اذ تتراوح من 4 إلى 15 في المئة (منظمة التعاون والتنمية عام 2014، 61)، وجنوب الصحراء الافريقية الكبرى ، اذ تتراوح من 2 إلى 9 في المئة (مونغا ولين 2015، 138)، أو منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، اذ هي في الغالب أقل من 5 في المئة (باكارد وفان نجوين 2014، 16).

    وتشير استطلاعات الرأي إلى تفضيل المواطنين العرب القوي المستمر للعمل في القطاع العام، ففي المتوسط، فضل حوالي خمس المشاركين في استطلاع غالوب لعام 2010 العمل في القطاع الخاص، مع أرقام تتراوح بين 8 في المئة في اليمن و 35 في المئة في المغرب.

    ومع ذلك، لا يزال الغالبية العظمى من المواطنين مستبعدين من العمل الحكومي والذي غالبا ما ينظر إليه على انه يعطى بطرق غير شفافة، وبينما لا يزال العمل الرسمي في القطاع الخاص ضئيلا، فإن الخيار الافتراضي يبقى هو العمل غير المستقر في القطاع غير الرسمي مع تقاضي أجور زهيدة، ومرة أخرى كان الدافع وراء نمو هذا القطاع هو تدخل الدولة الذي يهدف إلى حماية الطبقة الوسطى، ولكنه يردع التوظيف الرسمي، وينظر الى لوائح سوق العمل الرسمية في العالم العربي بأنها ثقيلة وخصوصا من قبل الشركات المحلية والبنك الدولي الذي يصنف “صعوبة التكرار” في العالم العربي كأعلى نسبة في جميع أنحاء العالم.

    ويوجد قطاع غير رسمي كبير أيضا في بلدان نامية أخرى، ولكن بشكل يختلف عن معظم الاقتصادات النامية الأخرى، إذ أن مجموعة “المقربين من الحكومة” في سوق العمل تتكون في معظمها من موظفي القطاع العام (الشكل 5)، هذا الإعداد يكون مجموعة كبيرة من المقربين نسبيا والمحميين من الحكومة، ولكنها تزاحم أيضا موارد الدولة للسياسات الأكثر شمولا والموجهة للنمو.

    الشكل 4: سهم التوظيف العامة في المقارنة الدولية
    الشكل 4: سهم التوظيف العامة في المقارنة الدولية

    المصدر: منظمة العمل الدولية، ومصادر وطنية

    الشكل 5: توزيع العمالة الرسمية، بالنسبة المئوية
    الشكل 5: توزيع العمالة الرسمية، بالنسبة المئوية

    مصادر: غاتي، ومورغاندي، وغرون 2013، 148. غاتي وآخرون. 2014، 90.

    أن تحركات المقربين من الحكومة وغير المقربين منها هي أيضا في ميدان لعب أعمال العرب، في المراكز العليا التي هي مقربة عادة وتعتمد على الدولة والمحمية من خلال طبقات من التنظيم الشديد فضلا عن الدعم التقديري وتخصيص الائتمان- والذين هم أنفسهم من الموروثات المشوهة عن فترات سابقة من التنمية الدولتية ( شقير وديوان عام 2015؛ ديوان، كيفر، وشيفبير، 2015، ونيوسيفورا، بيجكيرز، وفرويند 2014)، ولا تزال معظم الشركات الأخرى، ولا سيما الشركات الصغيرة، غير المقربة من الحكومة  والتي حقوقها الملكية غير مؤكدة والتي ليس لها تمثيل في عملية صنع السياسة.

    ان أسواق العمل المجزأة والقطاعات الخاصة ليست غير عادية، ولكن تدخل الدولة العميق للغاية والتجزئة الجامدة يصعب التغلب عليها بشكل خاص، ان الشركات في منطقة الشرق الأوسط ​​قديمة، وهناك عدد أقل من الشركات التي تدخل وتخرج مما كانت عليه في مناطق أخرى من العالم (البنك الدولي 2009؛ غاتي، مور غاندي، وغرون 2013)، ان تشتت القيمة المضافة في القطاعات مرتفعة بشكل خاص، الأمر الذي يعكس عدم وجود منافسة (البنك الدولي 2009، 103)، وفي أسواق العمل، ان العمل غير الرسمي عادة ما يستمر لفترة أطول لان دوران اليد العاملة أقل والخروج من الوظائف العامة قل ما يسمع به (غاتي، مور غاندي، وغرون 2013، 52، 153؛ غاتي وآخرون عام 2014، 187) وبعبارة أخرى، عندما تكون مشترك، فأن مشترك، وعندما تكون خارجا، فأنت حقا كذلك: ان تدخل الدولة وحمايتها الرسمية وغير الرسمية متجذرة وتنتج انخفاض التنقل بين القطاعات.

    وقد وفرت الرأسمالية العربية توزيع أوسع نطاق لموارد الدولة من معظم الحكومات الأخرى في البلدان النامية، ويستفيد من هذا الطبقة الوسطى الواسعة نسبيا، وهي ظاهرة يتم وصفها بأنها “الكي نزية قبل الاوان” من قبل ديفيد فالدنر (فالدنر 1999)، إلا ان النظام يبقى خاصا للغاية بالنسبة لأولئك الذين هم خارج هذا التحالف، ان البرامج غير القائمة على الاشتراكات وبرامج الضمان الاجتماعي العالمية مثل الإعانات النقدية، والقروض الصغيرة، وبرامج التشغيل المؤقتة الحكومية، وبرامج التدريب ضعيفة في العالم العربي، حتى بالمقارنة مع الدول النامية الأخرى (لويفي 1998)، اذ يرقى الإنفاق عليها فقط إلى ما متوسطه 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء المنطقة، وأنها مفتتة بعمق ومستهدفة بشكل سيء (ليفين، سيلفا، و مورغاندي، 2012)، وبالنظر إلى أن آليات السلامة الاجتماعية الشاملة هذه يمكن أن تزيد الحراك التعليمي وسوق العمل، الا ان هذا الضعف يساهم بشكل حاسم في ركود الاقتصادات العربية، وان الفائدة العالمية الوحيدة التي تنفق عليها معظم الدول العربية مبالغ كبيرة هي دعم الطاقة، والتي تتميز بكونها غير تناسبية كما أنها تفيد بشكل غير متناسب الأسر الأكثر ثراء.

    ان مجموعة المقربين من الحكومة في مجال الأعمال وسوق العمل تخلق المصالح السياسية التي تجعل من الإصلاحات الاقتصادية للحد من التجزئة صعبة جدا، وان للمصالح الشاملة أو الفئات المهمشة التي يمكن ان تدفع تجاه الإصلاحات الشاملة مساحة صغيرة للتنظيم في السياق السلطوي للعالم العربي.

    لماذا لم يمنع التوزيع الجماعي انتفاضات عام 2011؟

    كانت معظم الدول العربية قمعية، ولكن بالمقارنة مع العالم أيضا فهي سخية نسبيا لسكانها، لماذا لم يمنع هذا الكرم الانتفاضات عام 2011؟ وفي حين لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به بشأن هذه المسألة، فمن الواضح أن هناك انفصالا بين التوقعات والأداء، والإحباط مع عدم المساواة (في كثير من الأحيان غير مقصودة) التي تم إنشاؤها من قبل أنظمة المقربين وغير المقربين من الحكومة في المنطقة. بينما قطعت الدول العربية أشواطا طويلة للتوفير، شهدت التوقعات الشعبية للحكم في المنطقة أيضا ارتفاعا ملحوظا (الشكل 6) – يمكن القول بأنها إرث للسياسات الشعبوية التي وعدت الخدمات العامة الشاملة والعمل للجماهير منذ عصر عبد الناصر .

     

    الشكل 6: التفضيل للتوفير الحكومي
    الشكل 6: التفضيل للتوفير الحكومي

    ملاحظة: سئل المشاركون عن “ان الحكومة مسؤولة على التوفير للجميع؟” على مقياس من 10، النسب المئوية في الرسم البياني تمثل نسبة أولئك الذين “أتفقوا تماما”. المصدر Wave  WVS 6.

    ونظرا لهذه التوقعات العالية والإقصاء المادي وعدم المساواة الواضحة للغاية خصوصا وان “الفائز يأخذ كل شيء” ومحسوبية الأعمال في بداية الالفية الجديدة، تم صريف الكثير من المواطنين العاديين – حتى إذا بقيت هناك مستويات متوسطة من عدم المساواة في المنطقة على مستوى معتدل في المقارنة العالمية. كما كنا نتوقع، كانت مستويات الثقة في الحكومة وقطاع الأعمال الكبيرة في جميع أنحاء المنطقة منخفضة، وخاصة في جمهوريات “ما بعد الشعبوية” التي شهدت الثورات الاخيرة (اشكال 7 و 8).

     

    الشكل 7: المشاركون الذين اجابوا ب "عدم الثقة على الإطلاق" في الحكومة
    الشكل 7: المشاركون الذين اجابوا ب “عدم الثقة على الإطلاق” في الحكومة

    المصدر: مسح القيم العالمية، wave 6.

    الشكل 8: المشاركون الذين أجابوا ب "عدم الثقة على الإطلاق" في الشركات الكبيرة (WVS)
    الشكل 8: المشاركون الذين أجابوا ب “عدم الثقة على الإطلاق” في الشركات الكبيرة (WVS)

    المصدر: مسح القيم العالمية، wave 6.

    نظرا لان الدول العربية مفرطة في التمدد، وعدم الوفاء بالوعود، والتدخل والمحسوبية، والانقسامات العميقة من بين المقربين وغير المقربين من الحكومة في مجال الأعمال التجارية والعمل، فمن غير المستغرب أن المواطنين قد يشعرون بالخيانة من قبل القادة السياسيين ورجال الأعمال، وفي حين أن النخبة الرائدة في الثورات يهتمون بعمق حول مسائل الحرية السياسية، إلا انه من الواضح أن القضايا المادية لعبت دورا هاما في التعبئة الجماهيرية التي قلبت الموازين في حالات مثل مصر أو تونس.

    ماذا حدث للتوزيع؟

    لم يكن أول رد فعل من الحكام العرب للتحديات الشعبية من عام 2010 و 2011 هو الإصلاح، ولكن زيادة التوزيع على طول النموذج المعمول بها، على الرغم من الضغوط المالية التي واجهتها الدول العربية، وتعهد الحكام بتوفير الوظائف العامة وعكس إصلاحات الدعم الجزئي، وفي الحالات التي تم فيها استبدال الحكام، قامت النخب الحاكمة الجديدة بنفس الشيء، ومنذ عام 2011، تم قطع بعض الدعم على الطاقة بطريقة مجزأة، ولكن فقط تحت الضغط المالي الهائل وبدون بناء نظام تأمين اجتماعي شامل للتعويض، وفي حال عدم وجود مثل هذه الأنظمة، كانت المقاومة الشعبية للإصلاح قوية، ولم يجرؤ أي حاكم حتى الآن على تغيير سياسات التوظيف العامة بشكل جوهري.

    وبينما زادت الثقة في قدرات العرض وقابلية الدولة، كان التفاوض على عقد اجتماعي جديد صعبا جدا، بدلا من ذلك، ارتبطت المصالح في مجال الأعمال التجارية والقطاع العام بأي استحقاق ملموس لديهم، ان الحجم الصغير جدا للتوظيف في القطاع الخاص يعني أن الروابط العضوية بين المواطنين ورجال الأعمال ضعيفة، وهذا يوفر مجالا ضيقا للتوصل الى تسوية والتي ستفيد كلا من رجال الأعمال والعمال من خلال نمو الاقتصاد الخاص.

    ولكن من دون خفض في الدعم والعمل في القطاع العام، لن يكون هناك موارد لتحسين الخدمات العامة وتوفير ضمان اجتماعي شامل أو الاستثمار في التنمية الاقتصادية، وبدون خفض حواجز الدخول إلى القطاع الخاص، لن يكون هناك نمو ولن تخلق فرص العمل، ولكن خفض الحواجز أمام الدخول يتطلب في حد ذاته تنظيما أفضل للأعمال التجارية، وهذا بدوره يدعو إلى إنشاء دولة أقوى وأكثر مرونة، وليست بطيئة الحركة والتي انتجت بيروقراطيات عربية مبهمة بسبب عقود من الإفراط في التوظيف.

    وقد ادى هذا التوازن المضاد للتطوير وانخفاض القدرات والمصالح الخاصة الى قيام الدول العربية بسلوك طريق التوزيع غير المتكافئ والحصري بعد عام 2011، ففي تونس، فإن اقوى جماعة ذات مصالح هي الاتحاد الوطني العام التونسي للشغل، الذي يمثل في الغالب موظفي الحكومة من الطبقة الوسطى – وليس القطاع غير الرسمي الذي غذى ثورة الغضب. وقد ساهم هذا الاتحاد بالاتفاقات السياسية على مستوى النخبة التي حالت دون عودة تونس إلى الحكم الاستبدادي، ولكن في المجال الاقتصادي ركز الاتحاد في الغالب على الدفاع عن امتيازات المقربين من الحكومة من خلال استثمار الكثير من طاقته في القتال بنجاح والصمود ماليا ليرفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية، وفي غضون ذلك، لم يحدث شيء يذكر لتحسين ظروف العمال غير الرسميين، وهم أنفسهم لا يزالوا يركزوا اهتمامها على القطاع العام: المحتجون من المجتمعات المهمشة قد يطلبون بتوفير وظيفة حكومية واحدة لكل أسرة، وقد أثيرت الاضطرابات من خلال إزالة الأفراد من القائمة الرسمية الواعدة للوظائف الحكومية.

    في مصر، ان النقابات الرسمية متجذرة في القطاع العام، ولكن أقل تأثيرا من ذلك بكثير من الاتحاد العام التونسي للشغل، كما وظهرت نقابات رسمية جديدة قبل وبعد انتفاضة عام 2011، ولكن لديهما أيضا حلقات ضعيفة مع القطاع غير الرسمي الضخم، الذي لا يزال مهمشا وغير منظم، وإن التوقعات العامة والمطالب مرة أخرى بقت في القالب الشعبي القديم: وكان أول احتجاج علني في يوم 3 تموز عام 2013، الانقلاب الذي جاء بالسيسي الى السطلة، وهذا لم يتعلق بالسياسة، ولكن بسبب قيام مجموعة من أساتذة وحاملي درجة الدكتوراه بالمطالبة بفرص عمل حكومية (وقد فرقت بعنف)، وفي الآونة الأخيرة، حاول السيسي معالجة هذه المسألة الشائكة المتعلقة بإصلاح القطاع العام مع قانون الخدمة المدنية الجديد الصادر بالمرسوم من قبل البرلمان، ومما يعكس مدى عمق نظام التوزيع في مصر هو ان هذا القانون هو المقياس الوحيد للطعن اللاحق من قبل البرلمان الجديد الضعيف المنتخب في عام 2015.

    حتى الدول “المتدهورة” المتورطة في حروب أهلية عمقت من الطراز القديم لالتزاماتها التوزيعية: فقد أدت سياسات رعاية ما بعد صدام تحت سلطة رؤساء الوزراء الى توظف 7 ملايين فرد، أي حوالي نصف مجموع السكان البالغين (أكثر من 55 في المئة من عدد السكان الذي يبلغ حوالي 36 مليون هم تحت ال 20 سنة)، وبما في ذلك في المناطق المحتلة من قبل داعش، ويعتمد 8  ملايين فرد على الراتب الحكومي أو معاش  التقاعد، ويتنافس العراق مع دول الأكثر ثراءً في مجلس التعاون الخليجي حول أكبر حصة من موظفي الحكومة في أي مكان في العالم، وقد فشل إصلاح راتب القطاع العام الذي حاول القيام به مؤخرا رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، على الرغم من الأزمة الحادة في الميزانية.

    في سوريا، ارتفع التوظيف في الدولة بنسبة 61 في المئة من عام 2010 إلى عام 2014. [1] ومن بين مجموع القوى العاملة ال 5.5 مليون فإن 2.1 مليون منهم يعملون في الدولة، واستمرت الحكومة في دفع الرواتب في المناطق المحتلة إلى نفس الناس الذين تلقى قنابل عليهم، وأصبحت سوريا صورة كاريكاتورية للأنظمة الوحشية الشعبوية الدكتاتورية القديمة.

    وعلى جبهة الأعمال، بقت الأنماط القديمة للتجزئة على النحو ذاته، حتى في الحالات التي تكون فيها الكراهية تجاه الحاكم وشبكات المحسوبية العامل الأساس للغضب الثوري، وكانت المحاولات التونسية والمصرية لملاحقة أعوان النظام القديم غير مصحوبة بكره كامل في أحسن الأحوال، إذ بقى العديد من المقربين باتصال جيد مع النخب الحاكمة الجديدة، وان عدم وجود طبقة رجال الأعمال مستقلة، جعلت كلا الحكومتين تحاول جذب رجال الأعمال المهمشين من المدرسة القديمة إلى بلادهم للاستثمار مؤقتا. ان مسار السياسات التوزيعية بعد عام 2011 يتحدى حجة ستيفن هايدمان بأن أساس السلطة في المنطقة آخذ في التغير بشكل أساسي باعتبارها “نماذج سوق موجهة من قبل الحكم السلطوي” وتعرض وتدعم من التحالفات التي تعمل على أسس عرقية أو طائفية. [2] وفي حين أن هذا الأخير قد يكون صحيحا من الناحية السياسية، الا ان سجل السياسة الاقتصادية يروي قصة مختلفة، وصحيح أن أي دولة عربية يمكن أن تعيش تماما بوعودها الشعبوية، لكنهم جميعا يستمرون في المحاولة، حتى لو كانت النتائج الاجتماعية والاقتصادية تزداد سوءا اكثر من أي وقت مضى.


    المصادر:

    Chekir, Hamouda, and Ishac Diwan. 2015. “Crony Capitalism in Egypt.” Journal of Globalization and Development.

    Diwan, Ishac, Philip Keefer, and Marc Schiffbauer. 2015. “Pyramid Capitalism: Political Connections, Regulation, and Firm Productivity in Egypt.”

    Gatti, Roberta, Diego Angel-Urdinola, Joana Silva, and Andras Bodor. 2014. Striving for Better Jobs: The Challenge of Informality in the Middle East and North Africa. Directions in Development: Human Development. Washington, D.C: World Bank.

    Gatti, Roberta, Matteo Morgandi, and Rebekka Grun. 2013. “Jobs for Shared Prosperity: Time for Action in the Middle East and North Africa.” Washington, D.C: World Bank.

    Levin, Victoria, Joana Silva, and Matteo Morgandi. 2012. “Inclusion and Resilience : The Way Forward for Social Safety Nets in the Middle East and North Africa – Overview.” 72975. The World Bank. http://documents.worldbank.org/curated/en/2012/09/16965002/inclusion-resilience-way-forward-social-safety-nets-middle-east-north-africa-overview.

    Loewe, Markus. 1998. “Sozialpolitik Im Dienste Des Machterhalts: Soziale Sicherung Und Staat Im Arabischen Vorderen Orient (Social Policies as a Legitimation Strategy: Social Protection and the State in the Arab World).” SSRN Scholarly Paper ID 2192560. Rochester, NY: Social Science Research Network. http://papers.ssrn.com/abstract=2192560.

    Monga, Celestin, and Justin Yifu Lin. 2015. The Oxford Handbook of Africa and Economics: Context and Concepts. Oxford University Press.

    Nucifora, Antonio, Bob Rijkers, and Caroline Freund. 2014. “All in the Family : State Capture in Tunisia.” WPS6810. The World Bank. http://documents.worldbank.org/curated/en/2014/03/19291754/all-family-state-capture-tunisia.

    OECD. 2014. “Government at a Glance: Latin American and the Caribbean.” Paris: OECD.

    Packard, Truman, and Trang Van Nguyen. 2014. “East Asia Pacific At Work: Employment, Enterprise and Well-Being.” East Asia and Pacific Regional Reports. Washington, D.C: World Bank.

    Waldner, David. 1999. State Building and Late Development. Ithaca, NY; London: Cornell University Press.

    World Bank. 2009. From Privilege to Competition: Unlocking Private-Led Growth in the Middle East and North Africa. World Bank Publications.


    رابط التقرير:

    http://pomeps.org/2016/06/02/late-populism-state-distributional-regimes-and-economic-conflict-after-the-arab-uprisings/