بيتر شوارتزستين، صحفي مقره القاهرة ويعمل بشكل منتظم في ناشيونال جيوغرافيك، وديلي بيست.
بينما يخسر جهاديوا داعش الإرهابي الأراضي التي سيطروا عليها في شمال العراق، فإنهم يتركون خلفهم آبار مسممة وأراضٍ محروقة
منذ لحظة دخول مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي في مدينة الموصل وتغلغلهم في المناطق ذات الأغلبية الكردية في صيف عام 2014 ، اعتبر سكان قضاء الدبس غاباتهم المفضلة على أنها نقمة أكثر منها نعمة، يقع قضاء الدبس في تلال جنوب شرق العاصمة الكردية أربيل، وكانت غاباتها فيما مضى من المناطق الجاذبة للسياح، أما الآن فيستغل مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي كثافة الأشجار لشن الهجمات على القضاء، ويخشى قادة البيشمركة من أن يكرر خصومهم ما قاموا به في المناطق الأخرى من إحراق الأشجار ليخفي الدخان مواقعهم مما يجعل الهجمات الجوية عديمة الفائدة.
كان مدافعي المدينة على حق – بأن الجهاديين سيستخدمون الغابات كسلاح لهم في نهاية المطاف ولكن استراتيجيتهم كانت مختلفة عمّا توقع البيشمركة ؛ فبدلاً من استخدام الغابات كغطاء عسكري لهم ، قام مقاتلوا تنظيم داعش الإرهابي بتنفيذ استراتيجية إحراق الأراضي التي تجعل المنطقة غير صالحة للعيش لسكان القضاء.
في يوم عاصف من كانون الثاني عام 2015 ، خرجت مجموعة من الخنازير البرية المذعورة إلى سوق الخضار الرئيسي في المنطقة – وبعد لحظات من ذلك انبعثت رائحة الخشب المحترق، وانتشر الجنود الكرد داخل الغابات باحثين عن مقاتلي التنظيم الإرهابي بين الشجيرات الصغيرة وكتل من السنديان المحترق، وبعد العثور على جثة رجلين – الذين وصفهما مصدر أمني محلي “كشافة النظام الإرهابي”- شكّل الجنود سلسلة بشرية لنقل دلاء الماء من نهر الزاب السفلي المجاور .
احترقت الأعشاب بشكل سريع ، ودمرت معها قطعان الماشية والحظائر المليئة بالمعدات الزراعية الثمينة
إن الحريق الذي تم إشعاله في سبعة أماكن مختلفة بواسطة سائل قابل للإحتراق قد انتشر ليصل إلى أكوام القش المخزنة وصفوف من خلايا النحل لإحداث حريق هائل، احترقت الأعشاب بشكل سريع ، ودمرت معها قطعان الماشية والحظائر المليئة بمعدات زراعية ثمينة، بمرور الوقت هرع جنود آخرون من الخط الأمامي المجاور لدعم رجال الإطفاء، ولكن بعد فوات الأوان، فقد أصبحت ثاني أكبر غابة في العراق ضحية لتنظيم داعش الإرهابي .
كانت الثلاثة عشر عاماً من الأعمال العدائية شبه المتواصلة في العراق قاسية على الطبيعة، إذ هُمشت محافظتي نينوى وكركوك الزراعيتان في “المثلث السني” العراقي، وقد حوصرتا في الفوضى التي خلفها الغزو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003. وعودة إلى الثمانيات ، عندما قام صدام حسين بإجبار المزارعين بالانضمام إلى الجيش العراقي لمحاربة إيران، ولم يكن أمام مالكي الأراضي خيار سوى التكيف مع تقلبات الحرب.
بالنسبة للمزارعين الذين لايزالون يعانون من مشاكل الماضي، فإن الأحداث الأخيرة للصراع المتكرر قد تركتهم في بؤس أعمق – وربما كان ذلك صوت ناقوس الخطر الذي يعلن موت الزراعة في أجزاء واسعة من البلاد.
تم اعتبار ما لا يقل عن مليون فدان من الأراضي الرئيسية الصالحة للزراعة بأنها غير صالحة للزراعة بسبب تخلص تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي من نفاياته في المساحات الواسعة من الأراضي العراقية
تم اعتبار ما لا يقل عن مليون فدان من الأراضي الرئيسية الصالحة للزراعة بأنها غير صالحة للزراعة بسبب تخلص تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي من نفاياته في المساحات الواسعة من الأراضي العراقية، وقد سرق التنظيم المعدات اللازمة لتجديد عمليات الزراعة من المزارعين بشكل منظم، وفي تطور غير متوقع للأحداث العسكرية، شاهد العديد من العراقيين عملية تدمير أراضيهم بشكل متعمد من قبل التنظيم الإرهابي عند تراجعه.
قال شيخ ايزيدي يدعى فهد حمد عمر “لقد شاهدنا الكثير من الفوضى في الماضي بحكم عيشنا في هذه المنطقة”، نزَح الشيخ فهد حمد من مزرعته عند سفح جبل سنجار ليذهب إلى مخيم لللاجئين على قمة الجبل حينما قام تنظيم داعش الإرهابي بإبادة جماعية للطائفة العرقية الدينية القديمة في آب عام 2014. أضاف الشيخ قائلاً “لم يحدث سابقاً أن يحرق أحد حقولنا بشكل متعمد، ولم يحاول أحد أن يدمر سبل عيشنا بشكل كامل ، لم نواجه أبداً حيوانات كهؤلاء”.
مالذي تم فقدانه؟
أدت الأحداث إلى إرباك مسؤولي الزراعة العراقية، ولم يتمكنوا حتى الآن من تقييم كامل للأضرار، ويعود ذلك جزئياً بسبب سيطرة التنظيم الإرهابي على الكثير من الأراضي في البلاد، وقال مهدي مبارك رئيس مديرية الزراعة في كركوك، وهو في شدة الإحباط حينما إلتقيت به في مكتبه ذو الحراسة المشددة “هناك 250 ألف فدان من المزارع في هذه المنطقة، ولايزال تنظيم داعش الإرهابي مسيطر على 40 ألف فدان”، وحتى بدون إجراء إحصاءات شاملة، فإن حجم الدمار في المناطق المحررة مؤخراً من أيادي التنظيم الإرهابي هو أمر واضح.
أدت أعمال التنظيم الإرهابي، خلال فترة الخمسة أشهر من سيطرتهم التي انتهت في أواخر عام 2014، إلى تحويل 450 ألف فدان من الأراضي الزراعية في أقضية ونواحي شمال نينوى إلى أراض بور، ومعظم تلك الأراضي تقع في منطقة ايزيدية شمال جبل سنجار وعلى طول الحدود السورية. ووفقا لرئيس بلدية المدينة، تم تدمير 145 بيت زجاجي في المنطقة وسرقت المولدات والمحولات الخاصة بالبيوت الزجاجية إلى الموصل أو الرقة، كان الأشد ضرراً هو تحطيم مضخات المياه التي تقوم بري المناطق الزراعية من مياه الأبار الإرتوازية، أدى قطع المياه إلى جفاف محاصيل القمح والشعير التي تشتهر بها تلك المناطق والتي تعتمد بشكل كامل على مياه الأبار.
وفقاً لإحدى المنظمات غير الحكومية، التي طلبت عدم الكشف عن اسمها لكي لا تلفت الانتباه إلى وجودها في المنطقة، تعد مشكلة الألغام الأرضية في سنجار مشكلة كبيرة، وقد يستغرق عقوداً من الزمن لجعل المنطقة آمنة من جديد، وفي الوقت نفسه، هناك بعض المباني الخاصة لحفظ البذور سليمة والتي تقع في مناطق احتلها التنظيم الإرهابي في مرحلة ما خلال الحرب – وفضل التنظيم الإبقاء عليها لاستعمالها كأبراج مراقبة أثناء القتال.
حاول علي عابدين مراد استجماع قواه عندما سئل لوصف الأشياء التي فقدها، وهو مزارع يبلغ 46 عاماً ويسكن في منزله الذي لم يتضرر في عملية استعادة السيطرة على الناحية الشمالية. دمر مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي شبكة الري تحت الأرض وذلك لصنع قنابل في أنابيب المياه. وقاموا أيضاً بملئ بئره بالوقود، الأمر الذي جعل مياه البئر سامة ولا تصلح لري المحاصيل وهي عملية تخريبية لايمكن إصلاحها. وبسبب الإكتشافات الجديدة عن العبوات الناسفة المزروعة في حقوله والتي كانت جزءاً من الخطوط الدفاعية للتنظيم الإرهابي، أصبح علي يشعر بالخوف من أنه لن يقوم بزرع حقوله مرة أخرى.
” يبدو وكأنهم أرادوا قتل كل فرد من الايزيديين، وإذا لم ينجحوا بذلك فإنهم سيجعلون الحياة بائسة لأي ايزيدي نجا من قبضتهم”
قال علي أن أطفاله الصغار سيتوجب عليهم الإستعداد لأشهر من حصص الطعام القليلة، وأضاف “يبدو وكأنهم أرادوا قتل كل فرد من الايزيديين، وإذا لم ينجحوا بذلك فإنهم سيجعلون الحياة بائسة لأي ايزيدي نجا من قبضتهم”.
يبدو أن مستوى الدمار يرتبط بهوية الشعب الذي استولى مقاتلي تنظيم داعش الأرهابي على أراضيه، فبالنسبة لبعض المزارعين العرب السنة من منطقة الجميرة وهي إحدى مناطق محافظة كركوك، فإن أولى مواجهاتهم مع حكام التنظيم الإرهابي الجدد في المنطقة قد أظهر بعض الأمل، وقال نازح من سكان القرية الذي طلب حجب اسمه، إن الإداريين في التنظيم الإرهابي قد منحوا حصص أكبر من الوقود لأصحاب الحقول الصغيرة لنقل بضائعهم إلى الأسواق، وأضاف قائلاً “يبدو إن الخلافة بحاجة لأن يقوم الناس بالحصاد”، بعدما قام الأكراد والجيش العراقي بإعادة تنظيم صفوفهم واشتداد القتال مع التنظيم الإرهابي، شاهد المزارعين العرب السنة قوة تدمير تنظيم داعش الإرهابي الوحشي بقطع خطوط الكهرباء وتفخيخ المباني الزراعية كلما تراجع مقاتلي التنظيم من الأراضي التي استولوا عليها. أدت العديد من هذه المتفجرات إلى عرقلة النازحين الذين حاولوا الحصول على ملاجئ أثناء هروبهم من مناطق سيطرة التنظيم الإرهابي. خوفاً من الكمائن وحرصاً على إزالة العقبات التي منعت عمل نقاط التفتيش الخاصة بالتنظيم الإرهابي، قام مقاتلوا التنظيم الإرهابي بإزالة عشرات البساتين، بما في ذلك مزارع الرمان التي تشتهر بها مدينة شهربان، وقال راشد محمد سويدي، وهو مزارع يقع منزله في قرية الدريس الخزان على الطريق الذي يربط بين مدينتي كركوك والحويجة الذي دُمر منزله أثناء القتال” نعتقد بأنهم غاضبون لأننا لم ندعمهم، ولذلك قرروا أن يجعلوا الحياة صعبة علينا قدر الإمكان”.
الصراع الطويل لإعادة البناء
تسبب التدمير الذي حصل في الأراضي الخصبة الواسعة شمال بغداد إلى صدمة السكان المحليين وإدراكهم لتداعيات الأعمال التخريبية لتنظيم داعش الإرهابي، إذ ارتفعت أسعار الفواكه والخضروات في ظل غياب الإنتاج المحلي، حيث أصبح سعر البصل في سوق مدينة الدبس 90 سنتا بعدما كان سعره لا يتعدى 25 سنتا لكل كيلوغرام، وتضاعف سعر التفاح من 65 سنتا للكيلوغرام الواحد إلى 1.35 $، وملئت السلع المستوردة من أوروبا الشرقية والدول المجاورة الثغرات الموجودة في السوق. أصبحت اللحوم أكثر تكلفة أيضاً، فقد أدت الحرب إلى زيادة التكاليف على موزعي اللحوم، ففي سوق الماشية غير المرخص على حافة الطريق السريع الى الغرب من كركوك، اشتكى التجار من الرشاوى التي تفرضها الميليشيات الشيعية والبيشمركة الكردية في نقاط التفتيش مما أدى إلى زيادة سعر رأس الأغنام من 150 ألف دينار عراقي الى 200 ألف دينار عراقي خلال الشهر الماضي وحده.
يصارع العراقيون مع فواتير الغذاء التي لا يستطيع معظمهم توفير أثمانها
بسبب تضرر معظم العراقيون جراء انخفاض مدخولاتهم فإنهم يصارعون مع فواتير الغذاء التي لا يستطيع معظمهم توفير أثمانها، “لا يمكنك أن تتخيل مقدار الإذلال الذي ستعاني منه عند عدم معرفة أمكانية إطعام عائلتك الشهر القادم”، هذا ما قاله عباس عمر، الذي يبيع أنظمة الري تركية الصنع في الدبس والذي توقف عمله بسبب انخفاض القدرة الشرائية للسكان المحليين.
أما بالنسبة للحكومة العراقية، فإن فقدان الكثير من زراعته المحلية وتدمير الاقتصاد الريفي الشمالي لم يكن ليأتي في وقت أسوأ من ذلك، وانهيار أسعار النفط قد خفض الإيرادات وأدى إلى عجز الميزانية لتصل إلى 20 مليار دولار على الأقل، أدى إلى فقدان الأمن الغذائي بسبب تدمير المناطق الزراعية الرئيسية التي تزود الدولة بالقمح والشعير فاتجهت الدولة إلى تركيا والمملكة العربية السعودية وإيران لسد هذا العجز، وقال مبارك، وهو مسؤول الزراعة في محافظة كركوك ” كانت كركوك سلة الغذاء في العراق، ولكننا الآن لا ننتج أي شي”. قبل ظهور تنظيم داعش الإرهابي، كانت تنتج المنطقة 450 ألف طن من القمح و 250 ألف طن من الشعير و 100 ألف طن من القطن ، قبل أن تدمرها الحرب وعدم رغبة المزارعين الاستثمار في هذه الأراضي ، وتنتج حالياً أقل من ربع الكميات السابقة.
ماذا بعد؟
حتى في أفضل الأوقات، فإن الحكومة تعاني من أجل دفع فواتير الأضرار التي لحقت بالسلع الزراعية، والآن، فإن خزينة بغداد لم تعد تتلقى أموال كافية من مبيعات النفط وخفضت ميزانية وزارة الزراعة بشكل كبير، وبالتالي هناك تفاؤل ضئيل بأن الأراضي الزراعية التي دمرت في البلاد سيتم احياؤها مرة أخرى، وقال رئيس بلدية الشمال، نايف سيدو قاسم، ” سيتطلب من الدولة 70 مليون دولار لإصلاح الأضرار في الناحية ويجب استبدال جميع المضخات والجرارات والبذور”، فيما عدى الدفعة الأولى والتي تبلغ 45 ألف دولار التي تمت استلامها من الحكومة المركزية لازالة الانقاض من الشوارع وإقامة خطوط الكهرباء الجديدة، إلا أننا لم نتلقى أي مساعدة على الإطلاق من الحكومة المركزية. في غضون ذلك، فإن العديد من المزارعين النازحين في جميع أنحاء البلاد لا يزالون في المناطق المخصصة لإيواء النازحين. ويقولون بأنه لا جدوى من العودة إلى أراضيهم إلى أن تصبح قابلة للزراعة مرة أخرى، حتى ولو انسحب التنظيم الإرهابي من تلك المناطق.
قال عبدالله عزيز محمد، وهو مزارع من عشيرة شمر والذي تقع أرضه بالقرب من منطقة ربيعة الواقعة بين محافظة دهوك وسنجار “نحن مزارعون ولا نعرف مهنة غير الزراعة”، وستظل أرضه غير قابلة للزراعة إلى أن تفتح السلطات الكردية قناة الري التي كانت قد قطعت لحرمان التنظيم الإرهابي من الماء.
يرى البعض أن الفوضى هي فرصة مبطنة لإصلاح القطاع الزراعي في البلاد الذي عانى من مشاكل عديدة على عقود من الزمن، اشترت الحكومة القمح والشعير بسعر يصل إلى ثلاثة أضعاف سعر السوق، مما أدى إلى تدمير القدرة التنافسية لهذه الصناعة، كما إن ارتفاع درجات الحرارة بسبب تغير المناخ ونقص المياه في الجنوب قد دفعت العديد من المزارعين إلى التخلي عن زراعة أراضيهم، وقال مبارك، وهو مسؤول الزراعة في محافظة كركوك، :” ليس لدينا سياسة زراعية منسقة، ولم نحصل على دعم من وزارات النفط والموارد المائية والتجارة. وينبغي أن يكون هذا درساً للعراق “.
ولكن لأولئك الذين يحاولون تجاوز هذه الأزمة فإن انفراجها لن يكون قريباً، فبدون عودة المزارعين السريعة إلى أراضيهم، يقترح البعض بأن الزراعة سوف تنقرض في الهلال الخصيب، وقال عمر، وهو مزارع ايزيدي في جبل سنجار ” اخترع أجدادنا الزراعة، وسيكون من العار علينا لو ماتت هنا”.
ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .
المصدر :
http://foreignpolicy.com/2016/04/06/the-islamic-states-scorched-earth-strategy/