أندرو سكوت كوبر
طوال نصف القرن الماضي فرضت المملكة العربية السعودية سيطرتها على الاقتصاد العالمي بشكل منفرد، إذ ساعدت احتياطيات النفط الضخمة والإنتاج غير المستثمر بأن تلعب المملكة العربية السعودية دوراً أكبر من حجمها بعتبارها المُنتِج الرئيسي، وذلك بإغراق أو استنزاف النظام العالمي للنفط، وإن الحظر الذي فرض على النفط في عامي 1973 و 1974 كان دليلاً على أن آل سعود قد اتخذوا من النفط سلاح لهم، في تشرين الأول من عام 1973 أوقف تحالف الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية وبشكل مفاجئ شحنات النفط رداً على دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل في حرب اكتوبر، وبالتالي تم زيادة أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف، مما أدى إلى حدوث صدمة للاقتصاد الغربي المعتمد على النفط وارتفاع حاد في المعيشة والبطالة وازدياد الاستياء الشعبي.
قال وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لنائبه برنت سكوكروفت “لو كنت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لأخبرت العرب بأن يحتفظوا بنفطهم” لكن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، لم يكن في موقف يسمح له بأن يأمر السعوديين بفعل أي شيء.
في الغرب، قد تناسوا الدروس المستوحاة من تجربة عام 1974 ويعود ذلك جزئياً بسبب تغير اقتصاد الغرب حيث أصبح أقل عرضة للتأثر، ولكن السبب الرئيسي هو أننا لسنا الهدف الرئيسي للسعوديين، وتشير التوقعات إلى أن الإنتاج العالمي للنفط سيصل إلى ذروته في نهاية المطاف مع ضمان ارتفاع الأسعار بشكل دائم، ولكن تلك التوقعات لم تحدث، إن الأزمات الحالية للنفط تأثرت بواسطة تعويم أسعار النفط الخام أكثر من تأثرها بالسياسة الإقليمية للنفط، وحروب النفط في القرن الحادي والعشرين ستعود من جديد.
في السنوات الماضية، اعتبر السعوديون أسواق النفط كخط جبهة مهم للمسلمين السنة في المملكة العربية السعودية ضد منافستها إيران التي يهيمن فيها المسلمون الشيعة، وإن اسلوبهم يعتمد على ضخ كميات هائلة في الأسواق الناشئة وهو يعد حرب باستخدام الوسائل الاقتصادية حيث أن تجارة النفط هي بمثابة إسقاط قنبلة على الخصم. حذر نواف عبيد مستشار أمني سعودي في عام 2006 من أن الرياض على إستعداد بفرض أسعار أقل “لتضييق الخناق” على الاقتصاد الإيراني، وبعد عامين قام السعوديون بفرض أسعار أقل للنفط بهدف إعاقة قدرة طهران على دعم الميليشيات الشيعية في العراق ولبنان وغيرها من الأماكن.
في عام 2011، صرح الرئيس السابق للاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل لمسؤولي حلف الشمال الأطلسي أن الرياض مستعدة لإغراق السوق بالنفط لإثارة المشاكل داخل إيران، وبعد ثلاث سنوات ضرب السعوديون مرة أخرى وقاموا بإغراق سوق النفط، ولكنهم هذه المرة بالغوا في الأمر. عندما قام المسؤولون السعوديون بخطوتهم في خريف عام 2014 مستفيدين من اتخام السوق بالنفط، فهم يأملون وبدون أدنى شك من أن انخفاض أسعار النفط من شأنها أن تقوض صناعة الصخر الزيتي الأمريكي الذي كان ينافس هيمنة المملكة العربية السعودية على سوق النفط، ولكن هدف المملكة الرئيسي هو خلق حياة صعبة بالنسبة لطهران، كما قال السيد عبيد “إن إيران ستتعرض لضغوط اقتصادية ومالية لم تشهدها من قبل وذلك لأن إيران تحاول الحفاظ على اقتصادها الذي يعاني في الأساس من عقوبات دولية مفروضة عليها”.
البلدان المنتجة للنفط، روسيا على وجه الخصوص التي لا تمتلك اقتصاد متنوع، تستند ميزانيتها الاقتصادية على أسعار محددة للنفط لا تتراجع عن حدٍ معين، فيما لو تراجعت الأسعار عن الحد المدروس فإنها ستواجه انهيار مالي كبير، وجاءت توقعات السعوديون في التراجع الحاد لأسعار النفط ليست فقط لأذية صناعة التكسير الأمريكية لاستخراج النفط بل لتدمير الاقتصاد الإيراني والروسي أيضاً الذي من شأنه إضعاف قدرتهم على دعم حلفائهم وأتباعهم لا سيما في العراق وسوريا.
كان التكتيك الذي اتبعته المملكة العربية السعودية فعالاً بصورة وحشية في الماضي، حيث أن هذا السيناريو المظلم الذي واجهه الشاه عام 1977 عندما غمرت السعودية سوق النفط وذلك لكبح النفوذ الإيراني، لم تكن تخمة السوق بالنفط عام 1977 السبب الوحيد للثورة الإيرانية، ولكنه بالتأكيد كان عاملاً أساسياً إذ تم زعزعة حكم الشاه بينما شن آية الله الخميني هجومه ليحل محل النظام الملكي الموالي للغرب بدولة ذات سيادة دينية، ومن هذا المنطلق تم الإستفادة من تخمة السوق بالنفط لظهور الإسلام السياسي.
ساعدت أسعار النفط بإنهاء الحرب الباردة أيضاً في ذلك الوقت ومثل الوضع الروسي الحالي، كانت القوة الشيوعية العظمى مُنتِجاً عالمياً للطاقة التي تعتمد عائداتها على النفط والغاز، في عامي 1985 و1986 قرر السعوديون إغراق سوق النفط – الذي اعتقد البعض أن إدارة ريغان هي من شجعت المملكة على ذلك – قد تسببت بانهيار الأسعار وتسببت أيضاً بإنهيار الاقتصاد السوفياتي. كتب الخبير الاقتصادي الروسي، ايغور غايدار “إن الجدول الزمني لإنهيار الإتحاد السوفيتي يمكن إتباع أثره إلى 13 سبتمبر 1985” وفي هذا التاريخ أعلن وزير النفط في المملكة العربية السعودية الشيخ أحمد زكي يماني “أن المملكة قد قررت تغيير سياستها النفطية بشكل جذري”.
في الوقت الحاضر، فإن نصف كامل الإيرادات الحكومية الروسية تأتي من النفط والغاز، حتى وإن عاد سعر برميل النفط إلى 40$ – فإن الأسعار قد تراجعت مرتين تحت الثلاثين دولار هذا العام- وفقاً لنائب وزير الاقتصاد الروسي السابق ميخائيل ديميترييف، فإن أسعار النفط المتراجعة لا تزال تخلق “سيناريو حساس”، فقد بلغ التضخم المالي في روسيا مستويات مرتفعة العام الماضي وصندوق الثروة السيادي الروسي الذي يساعد الشركات الروسية المكافحة قد تم استنزافه، وتسبب إغلاق المصانع باضطرابات عمالية. لسوء حظ الرئيس فلاديمير بوتين، فقد تزامنت الأزمة المالية الروسية مع التدخلات العسكرية في شرق أوكرانيا وسوريا، وإذا تدهور الاقتصاد الروسي وشعر السيد بوتين بالقلق، فقد يبحث عن سبل لإلهاء الشعب الروسي بالمزيد من الاستفزازات، وكذلك إحداث الذعر في أسواق النفط بشأن الامدادات والتأثير على أسعار المشروبات الروحية.
إن الصدمة المستقبلية قد حدثت بالنسبة لمنتجي النفط مثل فنزويلا التي تم تدميرها بواسطة فقدان عائدات النفط التي تشكل 95 ٪ من عائدات تصديرها، فمع ارتفاع معدلات التضخم التي تنبأها صندوق النقد الدولي التي تصل إلى 720% هذا العام، أصبحت فنزويلا دولة ذات غيبوبة مالية – وهذا تذكير قاسي لما يمكن أن يحدث لبلدان تعتمد بشكل كبير على عائدات سلعة واحدة غير مستقرة. ويقع الرئيس نيكولاس مادورو تحت رحمة الأسواق التي تدفع نظامه يومياً إلى حافة الهاوية. نيجيريا وهي بلد آخر منتج للنفط ستتعرض للإفلاس، إذ شن الرئيس محمد بوهاري حملة ضد المتمردين التابعين لمنظمة بوكو حرام الإسلامية شمال شرق البلاد، تسبب تراجع أسعار النفط بإضعاف اقتصاد البلدان في آسيا الوسطى ، إذ أعربت كل من أذربيجان وكازاخستان عن رغبتهم في الحصول على مساعدات الطوارئ المالية المقدمة من صندوق النقد الدولي وغيرها من الجهات التي تقرض المال.
وفي الشرق الأوسط ، قيّدت عائدات النفط المنخفضة قدرة العراق على شن هجمات ضد تنضيم داعش الإرهابي، كما أعلنت الدول الواقعة على الخليج العربي والمنتجة للنفط كقطر والإمارات العربية المتحدة أنها قد تعرضت لخسائر تقدّر بنحو 360 مليار دولارمن عائدات النفط المصدرة وهذه الخسائر الضخمة قد تسببت بمشاكل على الحفاظ على النظام داخل البلاد في الوقت الذي يقاتل هذين البلدين في اليمن وسوريا وفي تقديم المساعدات المالية لحلفائهما الذين يعانون من ضائقة مالية كمصر.
هناك أيضاً مشاكل حدثت في المملكة العربية السعودية نفسها، اذ تشير الدلائل أن المسؤولين السعوديين لم يتوقعوا أن تنخفض أسعار النفط إلى أقل من 60$ للبرميل، ولم يتوقعوا أبدا أنهم سيفقدون سيطرتهم باعتبارهم البلد المسيطر في إنتاج النفط ضمن منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، وعلى الرغم من تصريحات الوزراء السعوديين المليئة بالأمل فقد فشلت جهود المملكة لعقد اتفاق مع روسيا وفنزويلا وقطر للحد من كمية العرض ورفع الأسعار، وحذر صندوق النقد الدولي أنه إذا لم يتم السيطرة على مقدار إنفاق الحكومة فإن السعودية ستفلس بحلول عام 2020، وبشكل مفاجئ فإن بنك الاحتياطي العالمي للذهب الأسود يتطلع إلى اقتراض المليارات من الدولارات من الأجانب، وكانت ردة فعل الملك سلمان هي باتباع سياسة التقشف وفرض الضرائب وانخفاض الدعم الحكومي للشعب السعودي الذي طالما اعتادوا على سخاء الدولة والصدقات التي تمنحها لهم، وهذا يطرح تساؤلا حول تماسك الدولة من الداخل – حتى عندما قرر الملك تحمل أعباء الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وذلك بخوض القتال في جبهتين، هل كانت هناك يوماً دولة نفطية مثقلة بالأعباء في الداخل وتتوسع خارج حدودها؟
في الوقت نفسه تم إبرام الإتفاق النووي التاريخي وخرجت إيران من تحت وطأة العقوبات الإقتصادية الأمر الذي سيضيف بلد آخر منتج للنفط في السوق العالمي الذي لن تستطيع الرياض من السيطرة عليه، ويبدو أن انعدام الإستقرار الاقتصادي للدول الصغيرة المنتجة للنفط مثل نيجيريا وإذربيجان سيستمر، ولكن المشكلة في هذين البلدين ماهي إلا أضرار جانبية، القصة الحقيقية الآن هي أن السعوديين قد تعرضوا للأذى بواسطة سلاحهم الخاص.
أندرو سكوت كوبر، مؤلف كتاب “ملوك النفط: كيف غيّرت الولايات المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية ميزان القوى في الشرق الأوسط.
ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .