أ.د. محمد الربيعي ٬ استاذ هندسة الكيمياء الحيوية ٬ جامعة دبلن
الجامعات العراقية لا زالت تعاني اليوم من حصار كانت قد فرضته على نفسها منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي حيث انها لم ترى في التغيير والاصلاح ضرورة لديمومتها وتحقيق لرسالتها، فرسالتها تكمن في تطوير الكم فقط، والنوايا الحسنة للقيادات الجامعية لا تجد مجالا او فرصا للتطبيق، اما اعضاء هيئاتها التدريسية فالغالبية منهم لا تملك المعرفة او القدرة او الرغبة في احداث التغيير، وتصطدم رغبتهم في امتلاك المعرفة لاحداث التغيير بمعوقات كثيرة اهمها عدم وجود اموال كافية، او برنامج ملائم لتدريبهم، او رؤى واضحة لعملية التدريب وبناء القدرات.
انها العقلية السائدة بان الجامعات العراقية كانت بخير في الماضي، ويراد لها اليوم ان تعود كما كانت عليه سابقا. وبما انها كانت مليئة باساتذة من خريجي الجامعات الغربية فما علينا الا ان نعيد ملئها بمثل هؤلاء الخريجين لتستعيد الجامعة امجادها. جامعات دول الخليج مليئة باصحاب الشهادات الغربية الا انها تعاني من نفس المشاكل التي تعاني منها الجامعات العراقية ومستويات خريجيها ليس بافضل من خريجي الجامعات العراقية، ولربما اهم سبب لتردي المستويات في الخليج وفي البلدان العربية والعراق على حد سواء يعود الى الاهتمام بالكم على حساب الكيف، بالاضافة الى ما اعتبره اكاديميون سعوديون من ان “مخرجات التعليم (في السعودية) تعاني من تدني في الانضباط والتأهيل ولكون المنتج التعليمي الحالي يعاني من غياب الرؤية، وضبابية ناتجة عن التجاذبات الفكرية والمهنية للمجتمع، مع التأكيد على أن هناك افتقاراً كبيراً للعمل المؤسسي”. ويذكر د. خالد طوقان ان عدد الطلبة في الاردن بلغ 200 الف طالب وهي نسبة عالية من حيث الكم، اما من حيث الكيف الذي يتضمن قوة الجامعات وطبيعة البحث العلمي والاوراق العلمية المنجزة والابتكارات فسنجد ان جامعات الاردن ما زالت ضعيفة ودون المستوى المطلوب.
ومن المشاكل التي تعاني منها الجامعات العراقية تعتبر مركزية القرار الاداري من اهم العوامل المشتتة للطاقات والاموال بالاضافة الى افتقار للعمل الجماعي والعمل المؤسساتي حيث يتميز الاكاديمي العراقي بالفردية في العمل خصوصا في البحث العلمي وينعكس تاثير العمل الفردي سلبا على الانتاج المعرفي للجامعات العراقية وينأى بها عن اللحاق بالجامعات العالمية والحصول على مستويات مرضية في السلالم العالمية للجامعات. ومن مظاهر ازمة الحصار التي تمر بها الجامعات هو الركود المزمن والضعف في تأمين حاجات الاقتصاد والمجتمع والتمنية. ولكي تتدارك الجامعات هذا الامر بدأت بانتهاج سياسة خاطئة وغريبة عن وظيفة الجامعة، فبدلا من التركيز على وظيفتها الاساسية في نشر وانتاج المعرفة بدأت بالاهتمام بأنشاء “مصانع” انتاجية للمواد الغدائية وغيرها مما سيؤدي دون شك الى حرفها عن اهدافها الاساسية في التعليم وتدريب المهارات والبحث العلمي الرصين ويدخلها في دوامة السوق وتذبذباته والمنافسة مع المنتجات المماثلة. ويبدو لي ان هدف هذا المشروع والذي اطلق عليه “بالجامعة المنتجة” هو مجرد توفير مصادر مالية جديدة للجامعات بعد ان تم نبذ فكرة استحصال اجور من الطلبة. ومشروع “الجامعة المنتجة” هذا شأنه شأن التعليم الموازي والدراسة المسائية لا يبدو انها درست دراسة مستفيضة وهي مشاريع وبرامج غريبة عن الجامعات العالمية حيث لا توجد مثيلاتها في هذه الجامعات. انها امثلة واضحة على ان الاعتماد على الذات والقدرات المحلية يؤدي الى الانغلاق واقرار اجراءات مبنية على افكار محلية لم تتوفر الوسائل لدراستها في ظل استمرار الحصار الداخلي والابتعاد عن التجارب العالمية وعدم الاستفادة من تجارب الجامعات الغربية.
ان سيادة عقلية الحصار تفرض الاعتماد على الذات والقدرات المحلية وتمنع الاستفادة من كفاءات الخارج او من العقول المتوفرة في الدول الغربية وتمنع حتى الاستفادة بما توفره الانترنت ووسائل الاتصال بالخارج باكتساب المعرفة في ظل ضعف التواصل باللغات الاجنبية بحيث ان هذه العقلية لازالت تقف حجر عثرة امام التعليم الذاتي، والسياسات الحالية لا تأخذ بنظر الاعتبار ان كثيراً من معارف وبيداغوجيات التعليم والتعلم وتقنيات البحث العلمي يمكن اكتسابها عن بعد ولا تستحق الجلوس في الصفوف الدراسية. اننا نحتاج الى ثقافة تشجع كسب المعرفة وتنشرالحريات الاكاديمية وتربط الدراسات الاكاديمية بسوق العمل وتشجع، لا بل تفترض، المضي في متابعة التطورات العلمية وعدم التوقف بمجرد الحصول على شهادة الدكتوراه، او الترقية لدرجة الاستاذية. فالشهادة والترقية في الجامعات المتطورة ليس غاية بحد ذاتها، بل وسيلة للوصول الى القمة عن طريق الابداع والابتكار. القراءة والتتبع والاطلاع ضرورية للاستاذ الجامعي كما هي ضرورية للطالب، والاستاذ الذي يتوقف عن مراجعة احدث التطورات في علمه كمن يضرب رأسه بطلق ناري.
عقلية الثواب والعقاب
نحن نحتاج الى ثقافة لا تعتمد على المكافأت المالية والاغراءات البسيطة والساذجة لاجل دفع التدريسي لتحسين اسلوب تدريسيه او للبحث والتطوير. نحن نحتاج الى نظام اداري واكاديمي يعطي للاساتذة حق ادارة الجامعة بينما تتمتع الجامعة بالاستقلالية الادارية والاكاديمية، وفيها تنمو وتزدهر الحريات الاكاديمية، وحق التعبير وتمارس الادارة الديمقراطية، وان تكون الجامعة مركز محبة واخلاص وتفاني في العمل والبحث. نحن نحتاج الى مراكز بحث متميزة تكون حاضنات للابداع لنخرج من المحلية الى العالمية والى شراكة مجتمعية مع القطاعين العام والخاص وشراكة عالمية مع الجامعات العالمية الرائدة والى ايجاد بيئة علمية ايجابية وجاذبة للعلماء المتميزين. المكافأت يجب ان تكون لمن ينشر بحوثا متميزة في مجلات علمية متميزة وليس لكل من ينشر في مجلات او مؤتمرات مغمورة او زائفة. على سبيل المثال تمنح مكافاة لاتقل عن عشرة الاف دولار للبحث المنشور في مجلات العلوم او الطبيعة او الخلية بالرغم من عدم توقعنا ان يكون هذا الحدث في المستقبل القريب، وان لا تقل المكافاة عن ثلاثة الاف دولار للبحث المنشور في مجلة مرموقة ومسجلة في قاعدة بيانات اي اس اي، ويدفع الف دولار عن كل عشرة اشارات في بحوث عالمية يحرزها البحث. هذا علما ان هذه المكافأت اقل مما تخصصه الجامعات السعودية كمكافأت للنشر في المجلات العالمية.
ونحن نحتاج الى التخلص من عقلية الثواب والعقاب، واللجان التحقيقية لكل شاردة وواردة، فالجامعات العراقية اليوم من اكثر جامعات دول العالم من حيث عدد لجانها التحقيقية والتي هي برأيي تكريس لعقلية الحصار حيث اصبحت الجامعات حساسة للغاية لأي مبادرة او عمل خارج اطار التعليمات والقوانين المركزية نتيجة انعدام الثقة والريبة التي تشعر بها القيادات تجاه فعاليات اعضاء هيئة التدريس، والتي تعتبر من وجهة نظرهم نوايا سلبية. فكما بينت في مقالة سابقة ان خوف الاداري والاكاديمي من العقاب واللجان التحقيقية هو الحاجز رقم واحد للابداع والابتكار. في المقالة ذكرت أن “الخوف من القيادة العليا، والخوف من الفشل، والخوف من السخرية، والخوف من اتخاذ القرار، والخوف من الوقوع في الخطأ، والخوف من المخاطرة، والخوف من عدم الترقية، والخوف من التغيير، والخوف من المجهول. الخوف يشل الطاقات العقلية والإبداعية، ويمنع التدريسي من اكتشاف طرق جديدة، فهو يعرف ان افضل طريقة للحفاظ على مركزه هو اتباع الممارسات التقليدية الجاهزة”.
الخوف افضل وسيلة لبقاء وديمومة عقلية الحصار والتي بدورها ترسخ المنظومة الوظيفية التي تعتمد التسلسل الوظيفي الهرمي الذي يعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة، فالبروفسور مهما كانت منزلته العلمية لا يعتبر الا موظفا في الدولة وبدرجة اقل من مدير، ومتى تقاعد هذا البروفسور فانه سيقف في طوابير مديرية التقاعد ليستلم راتبه التقاعدي شأنه شأن اي عامل او موظف في الدولة. اقولها بصراحة انه بدون اصلاح هذا النظام الاداري الجامد القاتل لن تتمكن الجامعات العراقية من التقدم والرقي للوصول الى مستويات الجامعات الغربية.
ومن الضغوط الخارجية التي تواجهها الجامعات في يومنا هذا – والتي يجب العمل على حلها من خلال ابعادها عن الاجواء السياسية الخانقة والمفسدة – الضغوط غير المقبولة التي يمارسها السياسيين ومسؤولي الدولة والعشائر والاقرباء على الاستاذ الجامعي، وضغوط الظروف السياسية القاسية والتناحر الطائفي والحرب ضد الارهاب والاوضاع الاجتماعية والدينية والطائفية غير الملائمة بالاضافة الى الفساد المالي المستشري في الدولة.
ادارة الجامعات
من الواضح ان النظام الاداري الحالي يفرض على القيادات الجامعية ممارسات بيروقراطية غير مجدية مما يؤدي الى ارهاقها بالاعمال الروتينية الادارية. كما يفرض عليها ان تؤدي مهامها في تعليم وتدريب طلبة باعلى المستويات الا انه في نفس الوقت يمنعها من اختيار نوعية طلبتها (اي نوعية المدخلات) وفي اختيار اعضاء هيئة تدريسها ويعرقل اختيار البرامج والمناهج واساليب التعليم والتعلم الملائمة وتنعدم فيه المبادرات البيداغوجية وتبني مشاريع تعليمية وبحثية جديدة أو تغيير النظم التقليدية في ادارة الجامعة والاطر التركيبية كدمج الاقسام والكليات المتشابهة او محاولات تقليل عدد الكليات الهائل لان مثل هذه المشاريع تحتاج الى موافقات من جهات عليا وزارية او حكومية كما تحتاج الى معارف ومعلومات حديثة عن التعليم الجامعي العالمي وفلسفته ورؤاه واهدافه.
تحتاج الجامعات العراقية الى مرونة اكبر في التنظيم وقدرة ذاتية على اغلاق دراسات لا حاجة للمجتمع لخريجيها فبالرغم من التوسع السريع في قبول الطلبة واستحداث اقسام وكليات وجامعات جديدة منها انشاء عشر جامعات جديدة لم يتم اغلاق او وقف القبول في قسم واحد لانتفاء الحاجة الى اختصاصه او لعدم استيفائه لمستوى اكاديمي مقبول. ولتوضيح المرونة في استحداث او غلق اقسام اكاديمية استنادا الى متطلبات سوق العمل دعني اطرح مثلين احدهما من الهند والاخر من الولايات المتحدة الامريكية. في حيدراباد، انشأت الجامعة ثلاث دراسات جديدة بالاستناد المباشر على حاجة سوق العمل، إحداها ماجستير مهارات اللغة الانكليزية وذلك بعد أن أصبحت الهند المركز الرئيسي للشركات الالكترونية والخدمية الأمريكية والأوربية لتقديم الخدمات التقنية للمستهلكين الغربيين عن طريق التلفون. والمثل الاخر من جامعة بنسلفانيا حيث كان عدد الطلبة المقبولين في الفروع الهندسية قبل سبعة سنوات موزعين على ما يقارب 150 طالبا في قسم الكومبيوتر وبما يقارب نفس العدد في كل الفروع الهندسية الاخرى، اما اليوم فأن العدد تغير حيث انشأ قسم الهندسة البيولوجية وليصبح عدد الطلبة فيه 150 طالبا وبما يقارب 200 طالبا موزعا على الاقسام الاخرى بما فيها قسم الكمبيوتر، وان سبب هذا التغيير يعود الى نمو الصناعات البيوتكنولوجية في الولاية واعتقاد الطلبة بأن اختصاص الهندسة البيولوجية يوفر لهم فرصا لوظائف عمل افضل.
الاختلالات الوظيفية لنظام التعليم العالي
يعاني التعليم العالي من اختلالات وظيفية نتيجة ضعف مستويات المدخلات حيث يتم قبول طلبة البكلوريا الثانوية في الكليات على اساس النسبة المئوية لنتائج الامتحانات النهائية من دون الاخذ بنظر الاعتبار القابليات والمهارات الاخرى التي يتمتع او يفتقر اليها الطالب. وبما ان نظام التعليم لا زال يعتمد في معظمه على التلقين والحفظ واجترار المعلومات والذي من سلبياته هو اعتماده على اسلوب امتحاني يعطي افضلية “للحفاظ” دون “المبدعين والمبتكرين”. ولان هذا النهج الامتحاني يشجع على الدروس الخصوصية والواجب المنزلي ويفضل اسئلة تعتمد على حل واحد للمشكلة الواحدة، ولا يفضل الاسئلة ذات الاجابات المفتوحة، او الاسئلة التي تتطلب نقدا وتحليلا وتعبيرا مختلفا فأنه يؤدي الى انتاج اعداد هائلة من المتفوقين الحاصلين على مجموع درجات تتراوح بين 90% الى 100%. وكنتيجة لهذه التخمة نرى بعض كليات الطب لا تقبل في صفوفها طلابا بمعدلات اقل من 99% في المرحلة الاعدادية، وهذا ما يجعل الطلاب يحفظون كتبهم حرفيا لتجنب اي خطأ مهما كان صغيرا او اي انحراف عما هو ملقن لهم مهما كان ضئيلا لان درجة واحدة قد تؤدي بهم الى كلية ليست من اختيارهم. لا اعرف اي نظام تربوي في العالم يستطيع التمييز بين قابليات ومهارات طلبة تختلف درجاتهم ب 1% فقط، فكيف يمكن دفع طلبة على هذا الاساس لدراسة الهندسة دون الطب او العلوم دون الهندسة كما يحصل في نظامنا التربوي.
التلقين آفة غزت مناهج التدريس، فلم يعد للمدرس دور إلا النقل الآلي للمعلومات سواء عن طريق الالقاء او الكتابة على السبورة، وهو مصيدة للطالب من ناحية جعله سلبيا اثناء الدرس، وحضوره الدرس لا يزيد ولا ينقص ولا يضيف جديدا على ما يوفره الكتاب المدرسي لغرض الحصول على اعلى الدرجات في الامتحانات. من المفيد هنا أن أذكر تجربة اجراها احد اساتذة الجامعة في الماضي أثبت فيها فشل اسلوب التلقين في اعداد متخصصين مهرة. طلب هذا الاستاذ من احدى طالبات اللغة الانكليزية في كلية الآداب ان تستذكر مواضيع “ملزمته” التدريسية المكتوبة باللغة الانكليزية والخاصة بكلية الطب، وان تتهيأ لإجراء امتحان في الموضوع مع طلبته في كلية الطب. بعد اجراء الامتحان ظهر من النتائج ان هذه الطالبة من قسم اللغة الانكليزية في كلية الاداب قد تفوقت على طلبته في موضوع تخصصهم الطبي. لماذا تفوقت هذه الطالبة على طلبة الكلية الطبية وفي درس لا علاقة لها به؟ هناك سببان لهذه النتيجة، اولها ان التدريس باللغة الانكليزية لطلبة ضعيفي التكوين في اللغة يفقدهم الى درجة ما القدرة على فهم المادة العلمية مما يضطرهم الى التركيز على حفظ المادة عن ظهر القلب واستذكارها كما استذكرتها طالبة اللغة الانكليزية. ويكمن السبب الثاني في كون منهج التلقين لا يسمح إلا بأسئلة إمتحانية لتقييم قابليات ترديد المعارف وتسجيلها وتسميتها واستذكارها وتعديدها مما منح افضلية لطالبة تعودت على الحفظ والترديد واكسبها ذلك قدرة لغوية استطاعت بها وفي ظل الزمن المحدد للامتحان من تكديس نسبة اعلى من المعلومات.
الواقع العلمي مقارنة بدول المنطقة
بقدر ما يهم القاعدة العلمية والتكنولوجية في جامعات ومؤسسات العراق العلمية تتوفر عبر الشبكة العنكبوتية احصائيات وبيانات ومعلومات ذات اهمية كبيرة حول مسارات التطور والإحباط في التعليم العالي والبحث العلمي، نعتبر في مراجعتها ودراستها اهمية كبيرة لتوضيح الصورة الحقيقية لواقع الانتاج العلمي. تبين الاحصائيات الدولية ان الانتاج العلمي العراقي منذ 1919 ولغاية اليوم والذي بلغ عدده 12778 ما بين بحث ورسالة ومقالة القيت في مؤتمر وفصل في كتاب يظهر تصاعدا مستمرا فيما عدا فترة الحصار وبلغ اقصاه 5930 نشرة وفي الفترة منذ 2010. وعند دراسة هذه النتائج نُفاجأ بضعف انتاجية الباحث العراقي عند الاخذ بنظر الاعتبار عدد التدريسيين والباحثين الهائل. بما ان عدد أعضاء الهيئة التدريسية في عام 2013 هو (39445)، وعدد طلاب الدراسات العليا في نفس العام هو (27540) لذا فالعدد الكلي للعاملين في المجال البحثي هو (66985) وبما ان عدد النشريات في نفس العام هي (1697) فان نسبة انتاجية الباحث العراقي هي تقريباً 40 تدريسي وباحث لكل نشرية. من الضروري التأكيد ان سبب ضعف هذه النسبة تعود بقدر ما الى تفضيل الباحثين العراقيين في نشر بحوثهم بالمجلات المحلية والتي لا تظهر في الاحصائيات الدولية. سبب هذا الاقبال على النشر في المجلات المحلية يعود الى ايام الحصار حيث اتجه الباحثون وبتوجيه من الدولة نحو البحوث “التطبيقية” اي النقلية وغير الاصيلة مما ادى الى ازدياد العزلة العلمية واستمر هذا التوجه الى يومنا هذا بسبب سهولة هذا النهج وعدم احتياجه الى تقنيات حديثة باهظة الكلفة، كما ان انعدام “الرقابة” العالمية التي يفرضها “استعراض الاقران” ساعد في انتشار الفساد العلمي وتزوير البحوث.
هذا ونجد ترتيب العراق ضمن 16 دولة شرق اوسطية مؤلما فقد احرز العراق المرتبة 10 في الترتيب المعتمد على معدل النشريات منذ 1919 ولغاية اليوم (الجدول ادناه). تصدرت تركيا الترتيب بأكثر من 400 الف نشرية، تلتها اسرائيل ثم ايران بحوالي 300 الف نشرية. اما العراق فلم ينتج الا اقل من 13 الف نشرية في تاريخه وهو معدل اعلى بقليل من عُمان وقطر كما مبين في الجدول ادناه:
وكمعدل للإنتاجية العلمية منذ 1919 الى 1964 تبؤا العراق المرتبة السادسة متفوقا على ايران والسعودية الا ان مستواه تراجع الى المرتبة السابعة في الفترة 1965 والى 1990 وبنسبة 2.08% من معدل الانتاج العلمي للدول الستة عشر وتبوأت اسرائيل المرتبة الاولى بمعدل 64.95% من المعدل الاجمالي تبعتها مصر ثم تركيا. في خلال الفترة من 1991 الى 2003 نزل معدل الانتاج العلمي العراقي الى المرتبة 12 وبنسبة 0.42% من مجموع انتاج دول المنطقة فيما بقت اسرائيل في الصدارة بينما تمكنت تركيا من دفع مصر الى المرتبة الثالثة. وبالرغم من بقاء العراق في المرتبة 12 خلال الفترة 2004 الى يومنا الحالي إلا ان نسبة النشر العلمي ازدادت الى 0.82% من مجمل انتاج الدول الستة عشر. استطاعت قطر خلال هذه الفترة ان تتخطى انتاج العراق بينما بقى فقط كل من انتاج سوريا وفلسطين والبحرين واليمن متخلفا عن الانتاج العراقي.
اما بالنسبة الى H-Index وهو المؤشر الذي يقيس كل من الإنتاجية ودرجة الاقتباس (الاشارة) للأعمال المنشورة للعلماء فقد نزلت مرتبة العراق الى الدرجة الرابعة عشر ولم يبقى إلا البحرين واليمن بمعدل ادنى كما هو موضح في الشكل ادناه:
وتظهر الاحصائيات تفوق ايران في معدلات النمو في الانتاج العلمي ويبدو انها استطاعت في احراز قصب السوق من بين 16 دولة شرق اوسطية ببداية عام 2011. وبالرغم من عدم ملاحظة ازدياد كبير في عدد البجوث والاصدارات العلمية بقت اسرائيل متفوقة في نوعية وجودة البحوث المنشورة. ويدل النمو السريع لمعدلات الانتاج العلمي في ايران الى وجود سياسة تشجع النشر العلمي في المجلات العالمية ولربما تفرض على الباحثين والتدريسيين نشر عدد من البحوث سنويا وهذا طبعا غير ممكن تحقيقة مالم تتوفر الامكانيات المادية وفرص التعاون العلمي العالمي. اما العراق فلم تحصل تطورات كبيرة مقارنة بتركيا وايران فبقى منذ عام 1990 ولغاية اليوم في اسفل القائمة ولا يختلف كثيرا عن معظم دول الشرق الاوسط فيما عدا ايران وتركيا واسرائيل ومصر والسعودية كما هو مبين في الشكل ادناه:
اقتراحات لتطوير بيئة التعلم في الجامعات
على الجامعات الشروع في استحداث مشاريع وتجارب اكاديمية جديدة كمثل التعلم عن طريق حل المشكلة او التعلم الجماعي، واستخدام منهج التعلم (وليس التعليم)، وتدريس المهارات والقدرات الرئيسية، واستخدام مخرجات التعلم لاجل تحويل العملية التعليمية من شأن خاص الى ملكية اجتماعية، وتشجيع الطلبة على تحمل مسؤولية تعلمهم، واعتماد معايير راقية للتعليم والتعلم، وتبني مشاريع طوعية خارج نطاق العمل الاكاديمي كالحفاظ على بيئة الجامعة كالنظافة والتشجير.
تغيرت اليوم بيداغوجيا التعليم فقد اصبحت مركزة على تعلم الطالب، وبدأ الاساتذة في تغيراساليب التدريس معتمدين على نهج جديد يضع الطالب في المركز ويهدف الى تعليمه مهارات التعلم والقابليات من خلال طرق حديثة كالتعلم المبني على المشكلة والذي تتبناه كثير من الجامعات في العالم، ويحقق هذا النهج نجاحا هائلا ،خصوصا عندما يقترن بسياسة تثقيف الاساتذة بالطرق البيدوغولوجية الحديثة. النموذج البيداغوجي الذي تحّكم في اساليب التدريس في الجامعات العراقية منذ نشؤها هو انها مؤسسات وجدت لتدريس الطلبة بمعلومات مختصة، ولكن النموذج الجديد والذي بدأت جامعات العالم بالتحول له هو انها مؤسسات موجودة لغرض انتاج المعرفة عن طريق التعلم. هذا التحول سيغير كل شئ، من طريقة تفكيرنا الى اسلوب عملنا، فالتدريس والتعليم لم يعد غاية الجامعة فذلك مثله كمثل القول بأن غاية العناية الطبية هي لملء أسـّرة المستشفيات بالمرضى. ان غاية الجامعة اليوم هو تعلم وليس تعليم الطلاب وبأية طريقة يمكنها من تحقيق ذلك. احد الاسباب التي ادت الى هذا التغيير في بيداغوجية التعليم هو الازدياد الهائل في عدد الطلبة المقبلين على التعليم العالي والذي ادى الى زيادة هائلة في المصادر المالية والبشرية والتي بدونها تنحسر الجودة. وهذا ما يحصل في الجامعات العراقية، فبسبب زيادة عدد الطلبة تضطر الجامعات الى زيادة حجم الصف او نصاب الاستاذ او تعيين اساتذة غير أكفاء او الاستعانة باساتذة من خارج الجامعة، وبحشر الطلبة في اقسام داخلية تفتقر الى ادنى الخدمات وبعدم توفير وسائل نقل كافية لهم. لذا يبدو أن بيئة التعلم لطلبة الجامعات والتي تعتمد ايضا على كون الاستاذ هو العامل الايجابي لانه يقوم بالقاء المحاضرة والطلاب يمثلون العامل السلبي لكونهم متلقين للمحاضرة، ولم تعد هذه البيئة مقبولة لانها تتعارض مع كل مبدأ مثالي لتعلم الطلاب. منهج التعلم (وليس التعليم) يحقق هدفا كبيرا الا وهو ان كل دورة جامعية تتعلم اكثر من الدورة السابقة لها، وبعبارة اخرى، ان منهج التعلم يفترض ان الجامعة نفسها متعلم يتعلم اكثر واكثر بمرور الوقت وانها تتعلم باستمرار كيفية انتاج معرفة اكثر مع كل دورة ومع كل طالب متخرج.