بلال صعب
في الثاني من كانون الاول أطلق الفرع السوري لتنظيم القاعدة المعروف بجبهة النصرة سراح ستة عشر جندياً وشرطياً لبنانياً مقابل الافراج عن تسعة وعشرين اسلامي مع اطفالهم الذين سُجنوا في لبنان وسوريا، كان مشهد تبادل الاسرى حدثاً مُثيراً اذ تم عرضهُ ببث مباشرعلى شاشة التلفزيون الفضائي اللبناني والقطري. بالإضافة إلى ذلك فإن رمزية هذا الحدث واهميته الاستراتيجية وانعكاسها على المنطقة جعلت منه موضوع نقاشٍ قوي.
لم يمر وقت طويل قبل ان ينتقد اللبنانيون هذا التبادل ، فبينما احتضن الاسرى المُفرَج عنهم عوائلهم في بيروت ، ظهرت تعليقات اللبنانيون المليئة بالاسف بسبب المأساة التي حصلت، فلم يصدق السياسيون اللبنانيون ان حكومتهم “قد اتمت صفقة مع الشيطان”. ومن احدى امثلة صدمة اللبنانيين عندما وصف نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني هذا التبادل بـ “فضيحة السيادة” على الرغم من حقيقة ان حزب الله المتحالف مع بري كان له دور فعال في تأمين الصفقة.
و بنظرة فاحصة لهذه الصفقة التي توضح لنا اسباب الجو العام الغاضب و خيبة امل معظم اللبنانيين:
أولا: نبدأ بايجابيات هذه الصفقة، وهوعودة الاسرى على قيد الحياة ، اذ ابلَغت بيروت جيشها بأنه مهما طال الوقت فإن لبنان لن تتخلى عن جنودها اللبنانيون عندما يُختَطفون مهما كلفهم الامر. ولكن ارتياح قادة الجيش اللبناني اتجاه تصريح بلدهم هو امر غير واضح وذلك لانه قبل فترة ليست ببعيدة قامت جبهة النصرة بذبح رفاقهم . ومع ذلك فإن النهاية السعيدة لهذا الحدث رفع من معنويات الجيش وحافظت على وحدته في الوقت الذي يتعرض فيه لضغوطات كبيرة في محاربة الارهاب في بلدهم وعلى وجه الخصوص في منطقة الشريط الحدودي الشمالي مع سوريا.
ثانيا: على الرغم من ان الظروف ما تزال غامضة الى الآن ، فقد ادعت السلطات اللبنانية انها رفضت اطلاق سراح ايٍ من الاسلاميين المتطرفين الملطخة ايديهم بالدماء او المتهمين بقضايا الارهاب النشطة. ويصعب التحقق من هذا الامر بدون الحصول على معلومات كافية بهذا الخصوص.
ثالثا: وهو الاهم، ان الصفقة كانت نتاج المصالحة السياسية بين الفصائل السياسية المتناحرة ، وعلى وجه الخصوص بين حزب الله الشيعي وتيار المستقبل السني. فبالواقع، كان من المستحيل ان يتم التبادل لولا تعاون حسن نصر الله الامين العام لحزب الله مع سعد الحريري زعيم تيار المستقبل. ومن اوجه هذا التعاون بين الطرفين فقد سافر الحريري الى قطر لاقناعها بالتوسط في ازمة الرهائن التي استمرت لمدة ستة عشر شهراً، وأن عباس إبراهيم، كبير المفاوضين اللبنانيين ورئيس مديرية الأمن العام في البلاد، هو شخص جدير بالثقة، على الرغم من دعمه القوي لحزب الله.
وفي الوقت نفسه ، اقنع نصر الله حليفه الرئيس السوري بشار الاسد باطلاق سراح ثلاث نساء وتسع اطفال مسجونين في سوريا الذين كانوا في قائمة المطلوبين لجبهة النصرة (ومن بين المفرج عنهم شقيقة أمير جبهة النصرة في القلمون أبو مالك التلّي المدعوه خالدية حسين زينية). ان هذا التوافق بين نصر الله والحريري يمكن ان يُسهل انتخاب رئيس لبناني جديد للبلاد بعد سنة و نصف من الفراغ السياسي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن تبعات هذه الاتفاقية تحمل في جعبتها مخاطر كبيرة في المستقبل ، فقد كانت على مرأى من الارهابيين الذين يُلوحون بالاعلام السوداء لتنظيم القاعدة والذين يقومون بعملياتهم في الاراضي اللبنانية بزيٍ عسكري الذي يعد امراً مؤلماً و مهيناً بالنسبة للشعب اللبناني. ان اتمام صفقة التبادل ، اظهرت ضعف الدولة اللبنانية إذ وجهّت رسالة للارهابيين ان الدولة على استعداد للتعامل مع المجاميع الارهابية وبالتالي التعرض الى المزيد من عمليات الاختطاف والرضوخ الى قوائم طويلة من المطالب. وفي الوقت الراهن يحتجز داعش تسعة من جنود ورجال شرطة لبنانيين، الامر الذي يدفع المرء للتساؤل مالذي ستتنازل عنه بيروت مقابل تحريرهم؟. ويعد تنظيم داعش حركة اكبر واقوى من جبهة النصرة وبالتالي بامكانها ان تطالب لبنان بمطالب اكبر مما طلبته جبهة النصرة فيما لو قررت لبنان التفاوض معهم . وعلى الرغم من استغراب ومخاوف الشعب اللبناني من الثمن الذي ستدفعه لبنان في الصفقات الارهابية المقبلة، يعد عجز الدولة اللبنانية التخلص من جبهة النصرة المسيطرة على شمال بلدة عرسال دليلاً واضحاً على فشل لبنان بعملية التبادل مما ادى الى اخفاقها في الحفاظ على سيادتها و سلامة اراضيها.
بالإضافة الى ملاذها الآمن في عرسال استطاعت جبهة النصرة الاستفادة من هذه الاتفاقية ايضاً وذلك بخلق صورة لجماعة ارهابية قادرة على الرحمة والتعامل بطريقة عملية التي تفتقدها داعش. وهذه السمعة تُمَكّنُها بالحصول على مستقبل سياسي في سوريا.
وبالتأكيد كان هناك تنازلات من قبل جبهة النصرة المتمثلة في فشلها بتحرير مئات المتطرفين البارزين من سجن الرومية اللبناني او في اجبار حزب الله بالانسحاب من الاراضي السورية . و لكن جبهة النصرة كانت على دراية من ان طلبها الاخير يعد امراً غير منطقياً، وإن خسارة الطلب الاول ممكن تحمله بالمقارنة مع المكاسب الممكن تحقيقها .
على الرغم من ان عملية تبادل الاسرى بين اللبنانيين وجبهة النصرة كان صغيراً الى حدٍ ما ، فان التعقيد الناتج من هذه الصفقة يعد امراً ملحوظاً بسبب تدخل عدد من الجهات المحلية والاقليمية والدولية الذين لعبوا دوراً مهماً في هذه الصفقة ، ويعود الفضل بنجاح هذه الصفقة للتدخل القطري. وكما ذكرت في المقال الذي كتبته في مجلة الشؤون الخارجية “Foreign Affairs” بعنوان “الوسيط المخادع” ان قطر تطمح بتعزيز دورها كوسيط تلجأ اليه الدول في المنطقة. فان تدخل قطر الفعّال في ازمة الرهائن التي حرصت على ان يتم عرضها ببث مباشر في قناتها الفضائية الجزيرة ليشهد العالم بأسره عملية تبادل الاسرى بين الطرفين، هو اكبر مثال لالتزام هذا البلد الصغير في لعب دور وسيط اكبر من حجمه بالرغم من بواعث قلق جدي من جيرانها حول نواياها الحقيقية . بالرغم من التساؤلات الاقليمية حول الدور الايجابي لقطر، فإن الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الامريكية تعتبر تدخل الدوحة في بعض مشاكل الشرق الاوسط امراً ضرورياً، فعلى أيّة حال عندما يفشل الهجوم العسكري على الارهابيين والاعداء فلابد من وجود وسيط لتسهيل عملية المفاوضات.
كان اسلوب قطر في التعامل مع المفاوضات بشكل عملي امراً ملحوظاً. فعلى الرغم من الاختلافات الاستراتيجة لكل من قطر وحزب الله في سوريا كما هو واضح في دعم حزب الله لنظام الاسد وضمان استمراريته، في حين تسعى قطر لإسقاط نظامه. ولكن هذا التباين في استراتيجية الطرفين لم يمنع امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بالتعاون مع نصرالله لتأمين عملية تحرير الرهائن اللبنانيين، وعلى وجه الخصوص حين اقنعت المخابرات القطرية ، بعد اخذ توجيهاتٍ من تميم، قادة جبهة النصرة بعدم تصعيد مطالبها في الدقائق الاخيرة من المفاوضات قبيل انعقاد الصفقة.
ان العملية السياسية لم تقتصر فقط على قطر وحزب الله ، اذ قدمت تركيا دعماً لوجستياً من خلال استضافة المفاوضات بين كبار المفاوضين اللبنانيين و قادة جبهة النصرة تحت إشراف الوسيط القطري، كما وافقت تركيا على استضافة بعض السجناء المفرج عنهم من جبهة النصرة الإرهابية. وكذلك اتفقت روسيا والحكومة السورية وبالرغم من موقفيهما العدائي اتجاه أنقرة على وقف اطلاق النار بين حزب الله وجبهة النصرة على طول الحدود الشمالية. وباركت ايران الصفقة ضمنياً من خلال علي أكبر ولايتي ، مستشار المرشد الاعلى الذي زار بيروت مؤخراً. وكان دعم المملكة العربية السعودية في اتمام الصفقة بين لبنان وجبهة النصرة غير مباشر من خلال موافقتها المثيرة للجدل على المرشح للرئاسة في لبنان سليمان فرنجية على الرغم من علاقته القوية مع الأسد ( التي تسعى الرياض الى اسقاط نظامه في سوريا) والذي يدعم حزب الله (التي يُزعم انها قتلت رفيق الحريري الرجل الرئيسي للملكة العربية السعودية في لبنان) وهو الأمر الذي ساهم من تصعيد حدة التوتر في ذلك الوقت.
في طبيعة الحال ان عملية تبادل الاسرى تتطلب عدة تنازلات من كلا الطرفين، ولكن في هذه الصفقة بالذات فقد برزت جبهة النصرة الطرف المنتصر فيها. ان الامر المأساوي في هذه الصفقة هو ظهور لبنان بوضع لا يسمح له بتصحيح الاخطاء واستعادة ما فقد منه، فالجيش اللبناني ليس باستطاعته طرد الجماعات الارهابية من اراضيه الشمالية ، فأن حزب الله الذي نجح تكتيكياً ضد المتطرفين السنة، منشغل بتأمين مناطقه في الضاحية الجنوبية لبيروت ومحاربة اعدائه على الاراضي السورية. والحل الوحيد لانهاء تهديد المتشددين السنة بشكل نهائي في لبنان هو نهاية الصراع السوري وتفادي تبادل مكلف للأسرى مرة اخرى. عندما وضع الخصمان خلافهما جانباً بشكل مؤقت فقد توصلوا الى الاتفاق الاخير بتبادل الاسرى ، ولكن الوضع في القضية السورية سيكون مختلف اذ سيستلزم الكثير من التنازلات لجميع الاطراف و حلول عملية لانهاء الحرب الاهلية فيها.
بلال صعب | مختص بالشؤون الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط في مركز “برينت سكوكروفت” للأمن الدولي التابع للمجلس الأطلسي.
المصدر:
https://www.foreignaffairs.com/articles/lebanon/2015-12-06/lebanons-deal-devil