كون هالينان
إذا كان هناك ثمة درس يمكن تعلمهُ من الانتخابات التركية التي أُجريت في الأول من تشرين الثاني الجاري، فهو أن الخوف يفعل فعلته، وأنّ هناك القليل ممن يمكنهم أن يكونوا أفضل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إشاعة الخوف. فبعد خمسة أشهر فقط من خسارة حزب العدالة والتنمية لأغلبيته في البرلمان التركي، وضعته انتخابات خاطفة ثانية في موقع القيادة مرة أخرى.
مع ذلك، قد تكون تكلفة الانتصار غالية. فمن أجل تحقيقه، أعاد أردوغان إشعال فتيل حرب تركيا الطويلة والدامية مع الأكراد، ووقف صامتاً بينما قام رعاع من القوميين بمهاجمة معارضيه، وقام من جانب واحد بتغيير الدستور بشأن ما يتعلق بمنصبه .في هذه الأثناء، قال مراقبون من مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي: كان للعنف والهجمات على وسائل الإعلام أثر كبير على سير الانتخابات. وقال أندرياس غروس، البرلماني السويسري ورئيس وفد الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي: “لسوء الطالع، خلصنا إلى استنتاج أن هذه الحملة كانت غير نزيهة، وانتابها الكثير من العنف والخوف”.
في الوقت نفسه، بدا أنّ الاتحاد الأوروبي يفضل فوز حزب العدالة والتنمية. فقد أوقفت مفوضية الاتحاد الأوروبي صدور تقرير منتقد للديمقراطية التركية إلى ما بعد الانتخابات. وقبل أسبوعين من الانتخابات، كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد زارت تركيا وهي تحمل 3.3 مليارات دولار كمساعدات للاجئين السوريين، مع عرض لتركيا لإحياء جهودها من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. في السابق، كانت ميركل تعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
كانت النتيجة النهائية تماماً كما أراد لها أردوغان أن تكون، على الرغم من أنه فشل في تحقيق حلمه بتحقيق أغلبية ساحقة تمكنه من تغيير طبيعة النظام السياسي التركي من حكومة برلمانية إلى حكومة يحكمها شخص تنفيذي مركزي قوي -هو نفسه.
هناك 550 مقعدا في البرلمان التركي. وقد نال حزب العدالة والتنمية 49.4 بالمائة من الأصوات، وكسب 317 مقعداً -أي بزيادة 64 مقعداً على المقاعد التي كان قد حصل عليها في الانتخابات التي جرت في شهر حزيران الماضي. وبينما تشكل 276 مقعداً أغلبية، فإن الذي أراده أردوغان كان أغلبية فائقة تتكون من 376 مقعداً، التي تسمح له بتغيير الدستور من دون إشراك الناخبين. لكنه لم يحقق هذا الهدف.
من جهته، فاز حزب الشعب الجمهوري العلماني بمقعدين زيادة عما فاز فيه في انتخابات حزيران الماضي وحصل على 134 مقعداً. واستطاع حزب الشعوب الديمقراطي الذي يهيمن عليه الأكراد تأمين الحصول على نسبة 10.7 من الأصوات و61 مقعداً في مقابل حصوله على نسبة تاريخية بلغت 13.1 من الأصوات و80 مقعداً في الانتخابات التي جرت في شهر حزيران. ولو أن هذا الحزب فشل في تأمين حاجز النسبة الخاص بالتمثيل البرلماني، فإن معظم تلك المقاعد كانت ستذهب إلى حزب العدالة والتنمية، وربما أعطت حزب إردوغان الأغلبية الفائقة التي كان يريدها.
في الحقيقة، كان إعلاناً عن صمود حزب الشعوب الديمقراطي، فهو على الرغم من العنف الموجه ضد الحزب، واعتقال العديد من ناشطيه، فقد استطاع الوصول إلى حاجز 10 بالمائة اللازمة للتمثيل في البرلمان. وأعلن حزب الشعوب الديمقراطي أنه يخطط للطعن في مقاعد عدة يقول إنها شهدت تزويراً.
من ناحيته، خسر حزب الحركة القومية اليميني 31 مقعداً، وهبط إلى المركز الرابع بجمعه 40 مقعداً فقط، ويبدو أن معظم ناخبيه قد قفزوا إلى حزب العدالة والتنمية. و أردوغان قد شرع في تغيير الدستور التركي منذعام 2007 ودفع من أجل إعادة بناء سياسة البلد منذ ذلك الوقت. ومع ذلك، لم يحصل حزب العدالة والتنمية على 330 مقعداً في البرلمان، العدد اللازم لطرح استفتاء أمام الناخبين. ولم يحصل أردوغان على ذلك الرقم السحري في هذه المرة أيضاً، ولكنه أصبح قريباً من ذلك، وقد يحاول سرقة مجموعة من الناخبين أو نحو ذلك من صفوف القوميين اليمينيين، ويتمكن بالتالي من إجراء الاستفتاء.
في هذه الانتخابات، كسب حزب العدالة والتنمية خمسة ملايين صوتاً تقريباً زيادة عما كان قد حصل عليه في انتخابات حزيران. وكانت نسبة الإقبال على التصويت قد بلغت أكثر من 86 في المائة.
إنّ فكرة إجراء استفتاء هي فكرة مقلقة. ويعد أردوغان صاحب حملات عنيدة، بينما يبدي معارضوه قلقاً، مع أن معظم الأتراك لا يظهرون الكثير من التحمس للتغييرات الدستورية، فإن تكتيكات التخويف والقمع والمال ستدفع بهذا الاستفتاء قدماً. وكانت استطلاعات الرأي العام قبل الانتخابات قد تنبأت بأن حزب العدالة والتنمية سيحصل في تشرين الثاني على العدد نفسه من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات شهر حزيران تقريباً. وكانت هذه الاستطلاعات مخطئة تماماً. فمهارات أردوغان السياسية القوية ورغبته في استقطاب البلد لا يجب أن تعامل بسوء تقدير.
بينما أصبحت لدى حزب العدالة والتنمية الآن أغلبية، فإنها جاءت على حساب إعادة إشعال فتيل الحرب مع الأكراد، وهو النزاع الذي كلف تركيا 1.2 تريليون دولار ونحو 40.000 قتيل. كما أنه شهد تقريباً موجة غير مسبوقة من الهجمات على الحزب الكردي ومؤيديه والصحافة.
وكانت الشرطة قد أغارت قبل أربعة أيام من انتخابات الأول من تشرين الثاني الأخيرة على مكاتب “إيبك” الإعلامية وأغلقت صحيفتين ومحطتي تلفزيون. وعهد بالمنافذ الإخبارية إلى أحد الأمناء الحكوميين للتحقيق معها بتهمة “دعم الإرهاب”. ومن الجدير بالذكر أن “إيبك ميديا” مرتبطة عن قرب بفتح الله غولن، الواعظ الإسلامي الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة.وكان غولن و أردوغان حليفين في السابق، لكنهما اختلافا في العام 2012.
كما لاحق إردوغان منافذ إعلامية أخرى عدة بما فيها مجموعة (دوغان) التي تمتلك الصحيفة اليومية التركية الشعبية “حريات” ومحطة “سي. إن. إن تركيا”. وكان كلا المنفذين قد أجريا مقابلات مع ساسة من الحزب الكردي الذي يتهمه الرئيس بأنه يشكل واجهة لحزب العمال الكردستاني. وقد صُنف حزب العمال الكردي على أنه منظمة إرهابية وهو هدف حرب تركيا الراهنة على الأكراد.
بينما هناك علاقة بين حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي، فإن الأخير دان بحدة العنف الذي يرتكبه الحزب الأول، وهو يتوافر على قاعدة دعم أوسع بكثير بين الأكراد وغير الأكراد. ويبدو أن بعض الأكراد المحافظين المتدينين الذين كانوا قد صوتوا لصالح حزب الشعوب الديمقراطي في حزيران الماضي قد خافوا من العنف وعادوا إلى صفوف حزب العدالة والتنمية.
وكان رعاع بقيادة “أوتومان هيرثز” -الذراع الشابة لحزب العدالة والتنمية- و”ايديليست هيرث” -الذراع الشابة لحزب الحركة القومية اليميني- قد أحرقوا مكاتب حزب الشعوب الديمقراطي وهاجموا شركات ومنازل كردية، كما هاجموا مخازن كتب تابعة لليسار. ويوم 8 أيلول الماضي، قام رعاع من الوطنيين بأعمال شغب لسبع ساعات، وأحرقوا مكاتب ومخازن في مدينة كيرشهر بينما الشرطة متفرجة ومراقبة فقط.
وكانت رئيسة الفرع المحلي لحزب الشعوب الديمقراطي، ديميت روزلوغلو، قد قالت أنها حذرت الشرطة من الرعاع، لكن الشرطة لم تفعل شيئاً. وكانت هي وآخرون عديدون قد احتجزوا مؤقتاً في مخزن للكتب من جانب رعاع أحرقوا المكان. وقالت لصحيفة “المونيتور”: “لقد نجونا بأنفسنا بعدما قفزنا من الطابق الثاني. كان ذلك عملاً مدبراً. وكل شيء حدث بعلم الشرطة والمحافظ والجميع”. وقد وقعت هجمات مشابهة في بلدتي المنتجعات، الانيا ومانارغات.
خلال الحملة الانتخابية، كان الأكراد الأتراك واليساريون أهدافاً لتفجيرات عدة أودت بأرواح 130 شخصاً. وكانت على الأغلب من تدبير “الدولة الإسلامية”. لكن إردوغان ورئيس وزرائه، أحمد داود أوغلو، وجّها اللوم إلى حزب العمال الكردستاني وحاولا إلصاق التهمة نفسها بحزب الشعوب الديمقراطي.
في الأثناء، يجري التحقيق حالياً مع صلاح الدين ديميرطاش، القائد في حزب الشعوب الديمقراطي وعضو البرلمان، بتهمة دعم “الإرهاب” وإهانة الرئيس. ومنذ أن أصبح أردوغان رئيساً لتركيا في آب من العام الماضي، وجهت تهمة إهانة الرئيس لأكثر من 240 شخصاً.
ومن المرجح أن يعد أردوغان انتصار حزب العدالة والتنمية الأخير مصادقة على حملته للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، على الرغم من أن استطلاعات الرأي العام تظهر أن 63 في المائة من الأتراك لا يوافقون على التدخل في سورية.وقد تحولت الحرب إلى مستنقع كارثي، فيما يدفع الأوروبيون والروس نحو تسوية سياسية.فيما يصر أردوغان -صاحب الخط المتعنت- على ذهاب الأسد أولاً، وهي صيغة ستقربه من الملكيات الخليجية، لكنها ستفضي على الأغلب إلى استمرار الحرب. وتستضيف تركيا مليوني لاجيء سوري بينما توجهت ملايين أخرى باتجاه أوروبا.
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس التركي أعاد -ومن جانب واحد- تعريف منصب الرئيس من شخص يتميز بالحيادية إلى ناشط حزبي. وبدلاً من محاولة تشكيل حكومة ائتلافية بعد انتخابات حزيران الماضي -وهو جزء رئيس من عمل الرئيس- نسف إردوغان كل جهد في اتجاه التسوية، معولاً على إمكانية تحريك النزعات الطائفية والخوف من أجل خلق المناخ المواتي لعودته.
وبينما يتمتع حزب العدالة والتنمية بالثراء، فإن أحزاباً مثل حزب الشعوب الديمقراطي قد أنفقت ما كان لديها من أموال خلال انتخابات حزيران، ولم تعد تستطيع جمع الموارد لشن حملة وطنية أخرى. وفي الأسابيع الأخيرة من الانتخابات، ألغى حزب الشعوب الديمقراطي التجمعات خشية مهاجمته من جانب رعاع اليمين القومي أو خلق أهداف للمفجرين الانتحاريين من مجموعة الدولة الإسلامية “داعش”.
لقد خلق أردوغان فوضى عارمة، ثم قال للناخبين إن حزب العدالة والتنمية هو الطريق الوحيد نحو السلام والاستقرار. وكانت تلك حجة اشتراها الكثير من الناخبين، لكن الكلفة كانت باهظة.فقد تم تكميم أفواه الصحافة، وأعيد إشعال حرب انتهت إذ عاد الأتراك والأكراد مرة أخرى إلى قتال بعضهم البعض. ومن المرجح أن تستمر الحرب في سورية، كما سيتعمق الاستقطاب في المجتمع التركي.
لكن الأغلبية التي حاز عليها حزب العدالة والتنمية لا تعدو كونها أغلبية ضئيلة، كما أن السلام والاستقرار اللذين تعهد بهما لا يعدوان كونهما سراباً. وكما لاحظت صحيفة الغارديان البريطانية: “لقد استعاد الرئيس إردوغان أغلبيته، لكن تركيا تضررت في العملية… ومما يبعث على الحزن والأسى حقيقة أنه من غير المرجح أن تؤذن هذه الانتخابات بمرور تركيا نحو مياه هادئة”.
كون هالينان | كاتب عمود للسياسة الخارجية تحت المجهر حاصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة كاليفورنيا، مجلة كاونتربنتش الأمريكية
المصدر:
http://www.counterpunch.org/2015/11/04/turkey-erdogan-and-the-cost-of-victory/