مع اقتراب الربع الأخير من العام، تقوم المديرية العامة للموازنة في وزارة المالية العراقية بإعداد اطار الوثيقة التي ستبنى عليها الميزانية النهائية للعام المقبل. ليس هناك شك في أن الميزانية ستواجه عجزاً مرة أخرى مع استمرار الحكومة في كفاحها من أجل تخفيض النفقات، في الوقت الذي لا تزال فيه أسعار النفط أقل مما كانت عليه في السنوات السابقة. وقد ساعدت بعض تدابير التقشف وخفض التكاليف لبعض النفقات الحكومية، ولكنها غير كافية للحد من العجز الكبير التي تعاني منه الميزانية. يتطلب استمرار الحرب مع داعش إنفاق مبالغ طائلة على الدفاع والأمن، وفي الوقت نفسه لاتزال العديد من آبار النفط والحدود، والأراضي خارج سيطرة الحكومة.
لمواجه العجز في الميزانية، يحتاج المخططين إلى أمرين: الاول هو العثور على وسيلة لخفض النفقات، والثاني هو ايجاد طريقة لزيادة الإيرادات. وبالنظر إلى أن 97٪ من إيرادات الحكومة تعتمد على مبيعات النفط، ومع أنهُ من غير المرجح أن تزداد الضرائب ومصادر الايرادات من القطاعات الأخرى في الأشهر المقبلة، لذلك فانه لمن المنطقي جدا افتراض أن جانب الإيرادات في الميزانية مطابقاً تقريبا للإيرادات الناتجة عن صادرات النفط. وقد تم فسخ اتفاق تصدير النفط مع حكومة اقليم كردستان بشكل فعال منذ شهر حزيران، وليس من الحكمة ان تعتمد الحكومة الاتحادية للبناء على الإيرادات المتوقعة من مبيعات النفط في الشمال لعام 2016. لذا سيكون اعداد الميزانية اقل تعقيداً لأنه يعتمد فقط على تخمين صادرات النفط من الجنوب ومتوسط السعر المتوقع للنفط لعام 2016.
تصدر المحطات الجنوبية في الوقت الحالي ما يقرب من أكثر من 3 مليون برميل يومياً، مع قيام شركات النفط العالمية بتخفيض استثماراتها في حقول النفط العراقية، وحاجة الحكومة إلى الدفع الى هذه الشركات بواسطة النفط وليس نقداً، وسيكون من المعقول أن نتوقع ان يكون متوسط التصدير 3 مليون برميل يومياً في عام 2016. وقد ذكر هذا الرقم أيضا في التصريحات التي ادلى بها وزير النفط عادل عبد المهدي في وسائل الاعلام. بما ان جنوب العراق يعيش في حالة أمن، ولايتوقع ان تتعطل صادرات النفط، يمكننا أن نفترض أنه الحكومة ستكون قادرة على تصدير 3 مليون برميل يومياً.
أما بالنسبة لسعر البيع، فمن المستبعد جداً أن أسعار النفط ستصل إلى 70 $ قبل نهاية عام 2016، ويرجع ذلك الى كثرة العرض في السوق، وانخفاض الطلب بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي، وزيادة إنتاج أوبك والدول غير الأعضاء في أوبك، ورخص تكلفة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة. وبالنظر إلى توقع معظم المحللين بان اسعار خام برنت ستتراوح حول 50 $ في بداية 2016، ورؤيتهم بعدم وجود أي سبب سيجعل ارتفاع الأسعار فجأة وارداً، سيكون من الحكمة أن نتوقع أن تكون الأسعار أعلى من 60 $ كمتوسط سنوي لعام 2016، ولأن العراق يتلقى ما بين 4 $ و 12 $ أقل من سعر خام برنت بعد تكاليف التصدير وتخفيض الأسعار، فان التوقع بتراوح سعر البيع بين 45 $ و 50 $ يبدو معقولا. مرة أخرى، ذكر وزير النفط ارقام مماثلة في تصريحاته، وهناك بعض التوقعات بأن سعر النفط قد ينخفض دون 40 $ ولكن هذا لن يستمر لفترة طويلة من الوقت، أن اعتماد الميزانية لسعر 45 $ سيكون واقعياً وحذراً، وبالتالي سيعمل على تجنبها لأي عجز غير متوقع.
سيكون اجمالى الايرادات 49.275 مليار دولار اذا كان سعر البرميل 45 $ و54.75 مليار دولار اذا كان السعر 50 $ للبرميل. ان أفضل سيناريو لو ولدت الحكومة 10٪ من إجمالي إيراداتها من المصادر غير النفطية، ستحصل على 60.83 مليار دولار لو أن سعر 50 $ للبرميل. ان الاعتماد غير الواقعي على تصدير 3.6 مليون برميل يوميا بما في ذلك من الحقول الشمالية، سيعطي 73 مليار دولار من 90٪ المتمثلة بعائدات النفط. وبالنظر إلى كل هذه التوقعات التي ستقودنا إلى التخطيط لإيرادات تتراوح بين 50 مليار دولار و60 مليار دولار، سيتراوح هذا بين 58 ترليون دينار عراقي و 69.6 ترليون دينار عراقي، على افتراض ان سعر صرف 1 $ = 1160 دينار عراقي.
في ميزانية 2015 كانت توقعات الإيرادات غير واقعية، 94.05 ترليون دينار عراقي مقابل إنفاق يقدر بـ 119.59 ترليون دينار عراقي، مع عجز مقدر بـ 25.54 ترليون دينار عراقي. ونتيجة لذلك، زاد العجز في الميزانية بشكل كبير مع انخفاض أسعار النفط ادنى من 56 $ المتوقع وعدم تصدير 3.3 مليون برميل يومياً كما كان متوقعا. شكلت الإيرادات غير النفطية 3٪ من اصل 17٪ المتوقعة. وبالتالي، فان العراق يواجه سيناريو انخفاض الإيرادات مرة أخرى، وأنه سيكون من الحكمة التخطيط لان يكون إجمالي الإيرادات الحكومية ما دون الـ 70 ترليون دينار عراقي.
من جانب النفقات، فانه من غير المرجح أن تكون الحكومة قادرة على القيام بأي تخفيضات كبيرة بسبب ضغوط الحرب والحاجة إلى تحسين الخدمات العامة على خلفية الاحتجاجات الاخيرة في البلاد. سيتم تحويل أي ادخارات في نفقات الحكومة بسبب إصلاحات رئيس الوزراء العبادي إلى القيام بصرفيات أخرى بدلا من الحد من الإنفاق العام. قد يكون من الممكن تجميد مستوى الانفاق لعام 2016 الإنفاق على مستوى عام 2015، بحيث لا يزيد عن 120 ترليون دينار عراقي. وهذا سيتطلب تجميد الإنفاق الوزاري، أو أي استثمارات جديدة في مجال الخدمات العامة.
لذلك فان التخطيط لإيرادات تتراوح حول 70 ترليون دينار عراقي على الأكثر، ولإنفاق يتراوح حول 120ترليون دينار عراقي على الأقل، سيترك الحد الأدنى للعجز حول ما يقرب من 50 ترليون دينار عراقي. ان القبول بأن وجود عجز كبير مؤكد سيساعد على التخطيط لكيفية التغلب عليه. قد تختار الحكومة العمل من خلال مزيج من الاقتراض، سواء من خلال مبيعات السندات أو القروض الخارجية، والمبيعات من احتياطيات الذهب، وزيادة المعروض من النقود، واستخدام الاحتياطيات النقدية الأجنبية. ستعمل كل من هذه الاحتمالات على زيادة معدلات التضخم، وبالتالي فإن على الحكومة التصدي لهذا.
هناك العديد من الخطوات التي يمكن للحكومة أن تتخذها لمنع الاقتصاد من السقوط في ركود عميق:
- زيادة الاستثمار الأجنبي.
- جولة جديدة من تراخيص حقول النفط.
- خصخصة الشركات والمرافق المملوكة للحكومة.
- زيادة دخل ومعدلات الضريبة على الشركات، وتحسين الجباية.
- فرض ضرائب على بعض المبيعات.
- زيادة الجمارك والرسوم الجمركية على الواردات.
- مبيعات الأراضي والممتلكات العامة
- تراخيص لتشغيل الهواتف المحمولة الجديدة وتراخيص القطاعات الأخرى.
- رفع الدعم عن الطاقة.
- دعم أساسي لتنمية القطاع الخاص.
ستتطلب كل هذه الخطوات عملاً تشريعياً، وستجد الحكومة أن الوقت الذي سيستغرق للوصول الى النتائج المطوبة لن يخفف من المصاعب التي تواجه ميزانية عام 2016. ولكن تجنب المتاعب الاقتصادية على المدى الطويل أكثر أهمية من الأزمة النقدية قصيرة الأجل، ولذلك فان إعداد استراتيجية للنمو الاقتصادي إلى جانب واحد اخرى من أجل سد العجز في الموازنة يعد أمرا ضروريا.