مايكل هارسج، وتايلر هيدلي
شهدت اوروبا قبل 20 عاماً في مثل هذا الشهر أسوأ جريمة على اراضيها منذ الحرب العالمية الثانية، إذ أعدم الجيش الصربي من 11-13 تموز 1995 و بشكل منهجي ما يقارب من 8000 من مسلمي البوسنة بعد احتلال “المنطقة الآمنة” الخاضعة لسيطرة الامم المتحدة في سربرنيتسا، وتعد الإبادة الجماعية في البوسنة مروعة بشكل خاص لأنها وقعت بعد أقل من سنة واحدة من الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وخلالها قتل أعضاء الأغلبية من الهوتو ما يقرب من 800,000 ألف شخص في حملة تطهير عرقية بشعة ضد الأقلية من التوتسي. تركت هذه الحروب الأهلية والعنف والإبادة الجماعية كلا البلدين مع أضرار بالغة وصادمة. أرسلت الولايات المتحدة وحلفائها أفضل دبلوماسييها و قادتها العسكريين وخبراء التنمية إلى البوسنة لوضع اتفاقات دايتون وتنفيذها، في حين تُركت رواندا لوحدها لتحدد مستقبلها السياسي. بعد عشرين عاما، يرى الكثير ما حدث في رواندا بعد المجزرة كقصة نجاح، في الوقت الذي تترنح فيه البوسنة على حافة تجدد العنف.
تكشف المقارنة في التحسن الاجتماعي والاقتصادي بين البوسنة ورواندا عن دروس مهمة لمرحلة ما بعد الصراعات الأهلية في سوريا والعراق والسودان، والتي تعج بالفضائع ضد الجماعات العرقية والدينية. في نهاية المطاف، فإن على هذه البلدان أن تجد طريقا للتعافي والمصالحة، وعلى المجتمع الدولي أن يقرر كيفية تقديم المساعدة في هذه العملية.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا مثل المقارنة بين التفاح والبرتقال. البوسنة بلد أوروبي اليوم، وتحد بصورة مباشرة الاتحاد الأوروبي، الذي يضم 28 عضواً، الذي يمثل أكبر اقتصاد إجمالي محلي في العالم،في المقابل تقع رواندا في الصحراء الكبرى في أفريقيا، وهي المنطقة الأكثر تخلفاً اقتصادياً في العالم. رفض صانعو السياسة الغربيون والعلماء منذ مدة طويلة أنشاء أي مقارنات بين البلدين، والتي كانت تعد سخيفة لدرجة انها تمت السخرية منها في فيلم دانيس تانوفيتش الحائز على جائزة الأوسكار عن الحرب البوسنية، “الارض المحايدة.”(1) في الفيلم، يقرأ جندي بوسني صحيفة في وسط المناوشات الدموية التي لا معنى لها تماما مع الجيش البوسني الصربي ويصيح “يا لها من فوضى في رواندا” !
مع ذلك، تُظهر بيانات البنك الدولي ثلاثة أوجه للتشابه بين البوسنة ورواندا التي تمثل صلة عند تقييم الانتعاش بعد الإبادة الجماعية: عدد السكان، والاقتصاد، والمساعدات، ان كلا البلدين صغيران وغير ساحليين في الأساس. وكانت اعداد سكانها حوالي 3.5 مليون نسمة (البوسنة) و 5.5 مليون نسمة (رواندا) متماثلة في منتصف التسعينيات، وكان لديهم ناتج محلي إجمالي متقارب عندما وقعت جرائم الإبادة الجماعية لهم في عام 1995، وكان الناتج المحلي الإجمالي للبوسنة حوالي 1.9 مليار دولار أمريكي، وفي رواندا حوالي 1.3 مليار دولار وكلاهما امتلك ناتج محلي إجمالي للفرد الواحد وضعهما بين أفقر 25 في المائة من جميع البلدان. كان المبلغ الإجمالي للمساعدات الخارجية بين البلدين التي وردت من 1995-2014 مماثلا (البوسنة، 1,230,000,000$، رواندا 1,090,000,000 $)، مما يوحي أن سرعة استعادتهم لعافيتهم لا يعكس عدم المساواة في المساعدات الدولية.على الرغم من هذا التشابه، فان التحسن الاجتماعي والاقتصادي في هذين البلدين أعطى نتائج مختلفة تماما، وغير بديهية إلى حد ما.
( النمو الاقتصادي في رواندا والبوسنة مقارنة بدول الجوار )
المصدر: البنك الدولي، والبيانات المتاحة منhttp://data.worldbank.org.تقديرات الأمم المتحدة ليوغوسلافيا متاحة فيhttps://data.un.org.
بالمقارنة مع الدولة اليوغسلافية السابقة، نما اقتصاد البوسنة ببطء, ويُقدر معدل البطالة فيها بما يقرب من 45 في المئة. ووفقا لمنظمة الشفافية الدولية، فان البلاد تحتوي على واحد من أعلى مستويات الفساد بين دول البلقان ولا تزال هناك انقسامات شديدة بين الجماعات العرقية في البلاد، إذ لا توجد إلى الآن أي كلمات للنشيد الوطني للبلاد لأن الجماعات المختلفة لا يمكنها التوصل الى اتفاق عليه.
على النقيض من ذلك، فقد وصفت رواندا ما بعد الإبادة الجماعية بأنها “منارة للتقدم” في القارة الأفريقية،إذ دفعت الاستثمارات في البنى التحتية والتعليم والرعاية الصحية إلى نموٍ ملحوظ في البلاد. في الوقت الذي بدأت فيه البلاد النمو من منطلق منخفض، فقد بلغ متوسط معدل النمو السنوي في رواندا 14 في المئة بين 2003-2013 مما جعل اقتصادها احد أسرع الاقتصاديات نموا في العالم، وتوفر حكومتها وظائف لكل العاملين. ومع ذلك، ولأن العديد من الروانديين ما زالوا يعملون في الزراعة،فمن الصعب أن نقارن هذا الرقم مع بيانات من بلدان أكثر تقدما. ان مستويات فسادها هي من بين أدنى المعدلات في المنطقة، وفي مؤشر جلوبل لمدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2014، تم تقييم رواندا في المرتبة 55 من 175 بلداً متقدما بفارق كبير عن البوسنة التي تقبع في المرتبة 80، كما ان العنف العرقي حاليا نادر للغاية.
أحد التفسيرات المحتملة لنجاح رواندا هو فعالية المساعدات الخارجية في كل بلد على الرغم من أن المساعدات الخارجية قد انخفضت بشكل عام من حيث الأهمية في جميع أنحاء العالم النامي في العقود الأخيرة، الا انها لا تزال عاملاً حاسماً بالنسبة للبلدان التي مزقتها الحرب. في المراحل الأولى من الانتعاش، فإن هذه البلدان تعتمد على تمويل التنمية الدولي لإيراداتها المحلية التي تكاد تكون معدومة، والتي تجذب عدداً قليلاً من المستثمرين الأجانب. تفترض العديد من الجهات المانحة أنه كلما قدموا مساعدات خارجية أكثر من بلد في مرحلة ما بعد الصراع، فانه سيتعافى بشكل اسرع. ومن تحليل بيانات من البنك الدولي، فقد وجدنا في الواقع علاقة طردية قوية بين حجم المساعدات والنمو الاقتصادي في رواندا. ومع ذلك، وجدنا العكس في البوسنة، إذ إن هناك علاقة عكسية بين المساعدات الخارجية والنمو.
وهكذا، في البوسنة، فقد رافق تلقي المزيد من الأموال الدولي نمواً بطيءً بدلا من ان يكون سريعا. على الرغم من أن العديد من العوامل قد تلعب دوراً في هذه النتيجة، إلا انه من المعقول جدا أن يقلل الفساد من فعالية المساعدات. عندما استخدمنا البيانات المتاحة سنويا من منظمة الشفافية الدولية للسيطرة على مستويات الفساد المختلفة بين البلدين، لم يكن هناك تأثير ذو دلالة واضحة للمعونات على النمو الاقتصادي.
على نطاق أوسع، فان الفرق بين تحسن البوسنة ورواندا متجذر في النظم السياسية في البلدين، واللذين عززا مستويات مختلفة من فعاليات الحكومة. في البوسنة، أنشأت اتفاقات دايتون للسلام عام 1995 نظاماً سياسياً فيدرالياً عرقياً، إذ تنقسم هذه البلاد إلى كيانات منفصلة عرقيا، مع ثلاثة رؤساء يمثلون كل مجموعة عرقية وتدوير واجبات الدولة بينهم كل ثمانية أشهر والكل لديه بحكم الأمر الواقع حق الفيتو على أي تشريع، الأمر الذي أدى إلى نشوب مشاكل سياسية متكررة. على الرغم من أن هدف هذا النظام هو الحفاظ على السلام وتوفير مساحة للمصالحة، الا انه غير عملي إذ يُعد سبباً رئيساً في عدم الكفاءة البيروقراطية واستمرار المشاكل العرقية والسياسية، وتوفر حوافز قليلة للإصلاح، وتباطؤ النمو في البوسنة. وقد اُنتقدت المحكمة الدولية ليوغوسلافيا على نطاق واسع لكونها مسيسة وغير فعالة، وظلت الجهود المحلية للمصالحة غير ناجحة إلى حد كبير.
في رواندا، هيمنت الجبهة الوطنية الرواندية وقائدها الرئيس (بول كاغامي) الذي انهى نصره العسكري الإبادة الجماعية عام 1994، على سياسة البلاد. ويحظر على الجماعات العرقية دستوريا تنظيم أحزاب سياسية، وهذا الشيء حال دون الاستقطاب العرقي. ان 64 في المئة من أعضاء البرلمان هم من الإناث، والذي يرتبط بشكل كبير لتعزيز المساواة بين الجنسين. على الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا واجهت انتقادات لفشلها في التصدي للجرائم التي ارتكبتها الجبهة الوطنية الرواندية، فقد حاولت المحاكم المدنية محاكمة مئات الآلاف من المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية في العقد الماضي في محاولة شعبية غير مسبوقة تاريخيا لعقد المصالحة. خلق الاستقرار السياسي وفعالية توفير السلع العامة واحداً من أفضل بيئات العمل في أفريقيا، وفي منطقة يشوبها الفقر والصراعات المسلحة برزت روندا بوصفها قصة نجاح اجتماعية واقتصادية
بعد عشرين عاما من احداث البوسنة ورواندا، فمن الواضح أن الخيارات السياسية مهمة. وتشير تجربة البوسنة إلى أن الفدرالية العرقية تجمد الانقسامات العرقية القائمة، وتشجع الفساد الذي يعيق النمو الاقتصادي. حتى لو لم يكن هناك بديل ممكن لدايتون في عام 1995، كان ينبغي أن يصمم النظام لتحفيز الإصلاح بما في ذلك الحدود الدنيا في صنع القرار وربط المساعدات بالإصلاح. اليوم أصبح نظام دايتون راسخاً وأصبحت البوسنة حكاية تحذيرية تدل على مطبات الافراط في الطموح، والتي تعرقل بناء الأمة. في المقابل، فان جهود رواندا للتحرك خارج العرقية والسياسية والتزامها بالاستثمار في البنى التحتية ورأس المال البشري اظهر أن الخيارات التطلعية يمكن أن تحدث فرقا إيجابيا كبيرا فيما يتعلق باسترداد بلد مزقته الحروب. ومع ذلك، لا تزال حكومة رواندا بحاجة لإظهار أنها ليست قادرة على بناء دولة فعالة فحسب، بل أيضا مؤسسات سياسية شاملة بنحو متزايد. خلاف ذلك، فان الازدهار الاجتماعي في مقابل السلطة السياسية للجبهة الوطنية الروانديةغير المقيد إلى حد كبيرسيبقى هشاً.
وأخيرا، هناك دروس ذات أهمية كبيرة لجهود المجتمع الدولي لمساعدة البلدان بعد انتهاء الصراعات في داخلها. في حالة عدم وجود أنظمة سياسية فعالة ووجود مستويات معتدلة من الفساد، فان المساعدات الدولية تميل إلى أن تكون نقمة بدلا من ان تكون علاجا. وينبغي للوكالات الدولية أن تولي مزيدا من الاهتمام لخلق مؤسسات مستدامة ومسؤولة في مجتمعات ما بعد الصراع، والتي تتيح بشدة للبلدان التي مزقتها الحروب لرسم طريقها للانتعاش من جديد.
يحمل المستقبل تحديات كبيرة لكل من البوسنة ورواندا، في البوسنة، يجب على المجموعات العرقية العثور على الإرادة السياسية لإصلاح الدستور المختل في أمتهم، اما في رواندا، تنتهي مدة كاغامي الدستورية في عام 2017، وعلى مهندس الانتعاش للبلاد أن يثبت أنه على استعداد للسماح للانتقال إلى نظام يضمن الحرية السياسية وحقوق الإنسان. ويمكن للمجتمع الدولي أن يساعد في كلتا الحالتين عن طريق ربط المساعدات المستقبلية بالاصلاح السياسي. إذا فشل كل من البلدين في هذه المهام الحاسمة، فان العقد الثالث من الانتعاش بعد الإبادة الجماعية من المرجح أن يشهد عودة ظهور العنف المدفوع عرقيا. ومع ذلك ينبغي عليهما أن ينجحا، إذ يمكن لكل منها الدخول في عقد جديد من السلام والازدهار.
مايكل هارسج:هوزميل كلية في جامعة نيويورك في أبوظبي، ويعمل حالياً في مركز التعاون الدولي (CIC) في نيويورك. وهو مؤلف كتاب “قوة الاعتماد: التعاون بين الناتو والأمم المتحدة في إدارة الأزمات” (مطبعة جامعة أكسفورد، 2015).
تايلر هيدلي: هو طالب في جامعة نيويورك في أبوظبي ومتدرب في CIC.
رابط المصدر :
https://www.foreignaffairs.com/articles/rwanda/2015-07-02/life-after-genocide
الروابط
[1] http://www.imdb.com/title/tt0283509/
[2] https://infogr.am/economic_growth_in_bosnia_and_rwanda_compared_to_neighboring_countries
[3] https://infogr.am