عقد مؤتمر التحالف الدولي لمحاربة داعش في باريس يوم 2015/6/2 على إثر مبادرة قامت بها الحكومة الفرنسية لمناقشة الأوضاع في المنطقة بسبب التقدم المثير للقلق الذي يحرزه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق والمنطقة. ويأتي هذا المؤتمر الذي هو الثاني من نوعه (الأول عقد في باريس في 15 أيلول 2014 بعد ايام من تسلم رئيس الوزراء، د.حيدر العبادي منصبه رئيساً لوزراء العراق) في ظل استمرار التهديدات التي يمثلها التنظيم، والصعوبات التي ما يزال يواجهها العراق في احتواء تهديداته. إذ على الرغم من النجاحات التي حققتها الحكومة العراقية وخصوصاً عبر زج قوى الحشد الشعبي في كبح ضغط التنظيم الأمني والعسكري في مناطق جنوب بغداد، ومحافظتي ديالى وصلاح الدين، إلا أن التنظيم نجح مؤخراً في السيطرة بشكل كامل على مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار. وتأتي هذه الخسارة التي وصفها الجنرال الأميركي المتقاعد، ديفيد بترايوس، والذي قاد عملية “الاندفاع” الأميركية ضد تنظيم القاعدة عام 2007، بأنها “خسارة استراتيجية”، إذ رغم امتلاك القوات العراقية القدرة على استرجاع المدينة خلال أسابيع، إلا أن سقوط المدينة كسر الشعور الذي بدأ يتكون مؤخراً بأن تنظيم داعش كان يعيش حالة تقهقر وهزيمة.
ترأس المؤتمر بشكل مشترك كل من فرنسا والولايات المتحدة والعراق. ويبدو أن إعطاء هذا الدور المميز للعراق في المؤتمر له ما يبرره. فالعراق أصبح ساحة رئيسية للقتال ضد تنظيم داعش، وهو يعيش حرباً سجالاً مع التنظيم ازدادت شراستها منذ سقوط الموصل تحت قبضته في حزيران 2014. بالاضافة الى ذلك فإن العراق مايزال يواجه صعوبات حقيقية في الحاق الهزيمة بالتنظيم. ولذا فإن التأكيد على وجود دعم رمزي دولي لرئيس الحكومة العراقية، يدخل في حسابات التأثير والضغط السياسي وسط هذه الظروف. ولكن الرمزية في اعطاء رئاسة المؤتمر بشكل مشترك للعراق، لا تعني الكثير أمام ما طرحه المؤتمر في بيانه الختامي. إذ أن جهود المؤتمر لمحاربة تنظيم داعش بدأت فيما يبدو تتحرك سياسياً، وتتضاءل عسكرياً.
شارك في المؤتمر 24 بلداً، منها ثمانية بلدان عربية هي البحرين، مصر، العراق، الأردن، الكويت، قطر، العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. كما شاركت تركيا بالمؤتمر أيضاً. اما على المستوى الدولي فقد شاركت الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، كندا، الدنمارك، بلجيكا، إيطاليا، اسبانيا، النرويج، هولندا، أستراليا، نيوزيلندا، الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة (كمراقب). فيما لم تحضر الاجتماع كل من روسيا واليابان (شاركتا في المؤتمر السابق)، الصين وإيران. ويبدو من تشكيلة الوفود التي شاركت في المؤتمر انها تمثل المنظومة الغربية في المجتمع الدولي، بالاضافة الى البلدان التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة في المنطقة. كما يلاحظ أن بلدان حلف شمال الأطلسي/ الناتو كان لديها حضور قوي في المؤتمر.
أشار البيان الختامي للمؤتمر –من بين أمور أخرى- الى خطورة الأوضاع في المنطقة بعد سقوط مدينتي الرمادي العراقية وتدمر السورية تحت قبضة التنظيم، مما يعني أهمية تجديد وتوسيع “الجهد المشترك” للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش من أجل الحاق الهزيمة به. وأن الجهد يجب أن يكون مشتركاً وموحداً وفق استراتيجية مشتركة، متعددة الأوجه وطويلة الأمد لإضعاف التنظيم ومن ثم القضاء عليه. وقد أكد المؤتمر أن التنظيم يمثل تهديداً للمجتمع الدولي أجمع. ويبدو من صياغة هذه العبارات انها جاءت لتعكس الوضع غير المنهجي الذي يتحرك فيه “التحالف ضد داعش” في محاربته للتنظيم. حيث يلاحظ وجود أجندات متصارعة في داخل التحالف حول المقاربة الأمثل لمحاربة التنظيم وغياب استراتيجية واضحة المعالم ومتجانسة لضرب التنظيم. بالاضافة الى وجود تساؤلات عن مدى جدية بعض البلدان المنضوية في التحالف في مشاركتها في الحرب ضد التنظيم. إذ ما تزال تركيا تمثل خط إمداد لوجستياً مهماً، يزود التنظيم بالمقاتلين، وبالمواد والأموال عبر الحدود التي يتقاسمها مع تركيا، فيما تذكر تقارير عن نشاط تمويلي غير شرعي تقوم به مؤسسات واشخاص خليجيون للتنظيم، فيما لايزال هنالك دعم دعوي وفكري وإعلامي واضح للتنظيم من بعض الاطراف العربية الخليجية.
الأمر الجديد الذي اثار انتباه المراقبين فيما يخص الشأن العراقي في البيان الختامي هو العودة إلى خطاب “المصالحة” و”الإصلاحات” التي ينبغي على العراق اتخاذها، و تشكيل قوة “الحرس الوطني” لإدخال المجاميع المسلحة تحت سلطة الحكومة. وقد تحدث لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي قبل يوم من مؤتمر باريس، “بأن الضربات الجوية التي تشنها قوات التحالف ضد تنظيم داعش “لن تكون فعّالة مالم تكن هنالك مصالحة سياسية في العراق. وأن العراقيين الذين يرزحون تحت سيطرة التنظيم لن يثوروا ضده ما لم يشعروا بوجود حكومة أكثر شمولاً.” أما وزير الدفاع البريطاني، فيليب هاموند فقد صرح، وقبل يوم من انعقاد المؤتمر، بأن العالم “يجب أن يكون واقعياً في معركته ضد تنظيم داعش.” واضاف، “إن الحاق الهزيمة بالتنظيم سيتطلب أعواماً.” وقد وجه عبدالله بن زايد، وزير الخارجية الإماراتي، إحدى الدول الخليجية المشاركة في التحالف، انتقادات للحكومة العراقية، اتهمها من خلالها بأنها السبب في ظهور وانتشار داعش بسبب سياسة القمع وعدم تحقيق المساواة بين مواطنيها، شأنها شأن الحكومة السورية. ويبدو أن المؤتمر تبنى استراتيجية ربط المسارين السياسي في العراق وسوريا لمعالجة ما أسماه جذور توسع تنظيم داعش. عراقياً من خلال “المصالحة” وسورياً من خلال “الحاجة الملحة لإيجاد حل سياسي للازمة السورية.”
المثير للانتباه هو أن البيان الختامي لم يتحدث كثيراً عن خططه وجهوده كتحالف يمتلك امكانيات عسكرية ضخمة لضرب التنظيم. وجاء تركيزه بشكل أكبر على انعدام الاستقرار السياسي في المنطقة، الذي أعطى التنظيم الفرصة للتوسع. بالاضافة الى ذلك فقد ركز ومن خلال النقطة الرابعة على تأكيدات رئيس الوزراء العراقي، د.حيدرالعبادي على جهوده لتعزيز سيادة القانون، احترام حقوق الانسان، انتهاج سياسة تجمع وتضم الجميع، التحقق من التمثيل العادل لجميع فئات المجتمع العراقي في المؤسسات الاتحادية، وأن يحظى جميع المواطنين بالمعاملة دون تمييز. ويبدو أن مؤتمر باريس جاء ليفرض شروطاً على رئيس الحكومة العراقية مقابل اي دعم قد يحصل عليه من التحالف لمواجهة تنظيم داعش. حيث بلاحظ أن التحالف يتحرك في أفق التأثير على الأوضاع السياسية في العراق من خلال الضغط لإعطاء المزيد من التنازلات السياسية للسنة، دون أن توجد أية ضمانات حقيقية أو واضحة لدى القيادات السياسية السنية للعمل ضد تنظيم داعش بشكل أكثر فعالية وقوة وضمن الوضع الرسمي للبلد. كما أن البيان وعلى عكس المؤتمر السابق لم ترد فيه عبارة ” دعم الحكومة العراقية”، مما يعطي مؤشرات على تأرجح في موقف التحالف في دعم حكومة د. العبادي.
جاءت نتائج مؤتمر باريس 2 مخيبة للآمال. ولاحظ المراقبون عدم وجود موقف قوي في مساندة ودعم العراق في حربه ضد تنظيم داعش، على الرغم من اعترافه بخطورة تنظيم داعش على العالم، بل جاءت نتائج المؤتمر مذكرة بوثيقة “العهد الدولي” خلال الأعوام 2006-2008، التي فرضت شروطاً على العراق مقابل الحصول على دعم في الاندماج في المجتمع الدولي واعادة الاعمار. ولم يحصل العراق على شيئ يذكر مقابلها سوى المشاركة في بعض المؤتمرات التي عقدت في شرم الشيخ، واستوكهولم. وقد بدت خيبة الأمل واضحة على رئيس الوزراء العراقي د. العبادي من مؤتمر باريس، من خلال تصريحاته التي قال فيها، بأن الوعود أكثر من الأفعال من قبل المجتمع الدولي لمساعدة العراق في تصديه لتنظيم داعش على أراضيه.
يبدو أن ضعف القدرات العراقية في محاربة داعش، وتحديداً الانكسار الذي تعرضت له قوات الجيش وقوى الشرطة المحلية السنية في مدينة الرمادي أمام تقدم تنظيم داعش، وسقوط المدينة بسهولة تحت سيطرة التنظيم، بالاضافة الى ان عدم وجود خطاب وموقف سياسي موحد مساند للحكومة العراقية في التصدي لتنظيم داعش لعب هو الآخر دوراً إضافياً في سلب الدعم الدولي عن العراق. إذ أصدر اتحاد القوى الذي يتزعمه نائب رئيس الجمهورية، أسامة النجيفي بياناً في يوم انعقاد المؤتمر هاجم فيه سياسة رئيس الوزراء د. العبادي، متهماً اياه بأنه لا يقوم بما يكفي “لتوسيع قاعدة الشراكة، وتحقيق المصالحة، والتوازن، وتمكين العشائر السنية المقاتلة.” كما انتقد المؤتمر ” لحرمانه المكون السني” من حضوره. بالاضافة الى أنه حمّل المؤتمر مسؤولية حماية السنة من “حرب ابادة جماعية منظمة.” وأصدرت حكومة اقليم كردستان بياناً اعترضت من خلاله على عدم توجيه دعوة للاقليم لحضور المؤتمر، رغم مشاركة قوات البيشمركة في الحرب ضد تنظيم داعش.
كانت رسالة المؤتمر واضحة، فالتحالف سيدعم العراق ضمن شروط تفتح الوضع السياسي واسعاً فيه لمزيد من التنازلات السياسية للسنة، مع عدم وضوح حجم ونوع هذا الدعم. وأن المعركة ضد داعش سيديرها العراقيون ولن يكون هنالك تغير كبير في الأداء العسكري للتحالف ضد تنظيم داعش. كما أن الرسالة غير المكتوبة تحركت في أفق الضغط باتجاه ابعاد العراق عن التأثير الإيراني عبر بوابة التهديد الذي يمثله تنظيم داعش ضد بغداد. ويبدو أن المراهنة على طول المعركة وتعقيدها، حسب تصريحات مسؤولين غربيين يدخل في أفق صياغة وضع سياسي مختلف في العراق وربما المنطقة، يكون الوقت أحد عوامل صياغته.
بشكل مختصر يبدو أن مؤتمر باريس 2 لم ينجح في بلورة مقاربة أكثر قوة وحزماً لضرب تنظيم داعش في العراق. ويبدو أن على العراق أن يواجه التنظيم بإمكانياته الذاتية وبمساعدة البلدان التي لديها استعداد حقيقي لمساعدته في تحقيق الفوز ضد التنظيم. إذ يبقى التحدي الذي يواجهه العراق في التصدي لتنظيم داعش ذا أولوية مطلقة. وسيعني النجاح أو الفشل في المعركة تحديد شكل العراق خلال عقود مقبلة. إذ سيكون لضعف الدعم الدولي للعراق في معركته ضد تنظيم داعش أو وضع ذلك الدعم تحت الشروط والضغوط السياسية آثار كبيرة ستحدد طبيعة علاقته مع بلدان التحالف في المستقبل.