سر الصفحات الثماني والعشرون
بعد طول ترقب أزاحت وكالة الاستخبارات الأميركية ختم السرية عن بعض الوثائق المتعلقة بالتحقيقات التي أجريت حول الظروف والأسباب التي أحاطت بوقوع اعتداءات 11/9 في نيويورك عام 2001. ومن أهم هذه الوثائق التي نشرها موقع الوكالة هو تقرير 2005 المتعلق بنتائج التحقيقات التي أجراها مفتش عام الوكالة، وعلى الرغم من طول التقرير الذي يقع في 500 صفحة تقريباً، والذي بحث بعمق الأسباب والظروف المتعلقة بتلك الاعتداءات. إلا أنه لم يضف معلومات إضافية مهمة لما تم نشره سابقاً، فالتقرير يذكر وبتفصيل تورط تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن في تنفيذ الاعتداءات، والمتورطين، وكيفية عملهم، والخروقات في المنظومة الأمنية الأميركية التي مكنتهم من تنفيذ عمليتهم، ويبدو على التقرير أنه أكثر تفصيلاً في تحليله لاعتداءات 9/11 مقارنة بغيره من تقارير.
بعد مرور 14 عاماً على تفجيرات نيويورك، يتواصل الجدل في أروقة السياسة الأميركية حول دور سعودي مفترض في تفجيرات نيويورك. إذ لم يتم نشر التقرير بفصوله العشرين كاملاً، وقد جاء ذلك مخيباً لآمال المراقبين المعنيين باعتداءات نيويورك. حيث تركت صفحات الفصل العشرين المعنون “المسائل المتعلقة بالعربية السعودية”، والتي تضم 29 صفحة بيضاء دون معلومات مهمة-على الرغم من الوعود السابقة بنشر التقرير كاملاً-. ولكن ما تم نشره في التقرير على قدر تعلقه بالدور السعودي المفترض، يذكر أن فريق التحقيق لم يتمكن من الدخول على المعلومات المتعلقة بالدور السعودي المحتمل والتي جمعها مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبالتالي فقد استنتج التقرير أنه لم يحصل على أدلة تثبت بأن “الحكومة السعودية كانت على معرفة أو كان لديها القصد في دعم إرهابيي القاعدة.” والنص فيما يبدو لا ينكر وجود دور ما للحكومة السعودية في تلك الاعتداءات، وتضيف هذه العبارة مزيداً من الشكوك حول ذلك الدور. ويشير التقرير كذلك بما سمح بنشره، إلى وجود معلومات “محدودة” تتعلق “بعدد قليل من المسؤلين السعوديين” ممن قاموا بدعم أسامة بن لادن.
حكاية الصفحات الثماني والعشرين
يقود عدم نشر الفصل الأخير في تقرير المفتش العام بشكل تلقائي إلى قضية “الصفحات الثماني والعشرين” والتي ماتزال تشغل اروقة السياسة والرأي العام في الولايات المتحدة. وتمثل هذه الصفحات كل الجزء الرابع من تقرير استقصائي موسع أصدرته لجنتا الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب بشكل مشترك نهاية عام 2002 بشأن اعتداءات نيويورك. وقد صدر أمر رئاسي من قبل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وضع بموجبه المعلومات في تلك الصفحات تحت قانون السرية بدواعي تأثير ذلك على الأمن القومي الأميركي، ومايزال الأمر ساري المفعول إلى يومنا هذا.
يبدو أن تلك الصفحات -بالاضافة الى الصفحات التي حجبت من تقرير مفتش عام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية- تحوي معلومات حول دور سعودي رسمي وبمستويات مختلفة في تقديم الدعم للخلية التي قامت بتنفيذ اعتداءات نيويورك عام 2001. وعلى الرغم من قرار الحجب، إلا أن مشرعين أميركيين، ووسائل إعلام أميركية بدأت تتناقل بعض التفاصيل التي يبدو أنها بدأت ترشح بشكل أو بآخر من التقرير. ومع نفي حكومة العربية السعودية الكامل للاتهامات ومطالبتها بنشر المحتوى، إلا أن عضوي مجلس النواب، وولتر جونز (جمهوري) وستيفين لينش(ديمقراطي)، والذين سمح لهما بالاطلاع على معلومات الصفحات الثماني والعشرين تحت القسم على ألا ينشرا تفاصيل تلك المعلومات، أبلغا الصحافة الأميركية عام 2013 بصدمتهما من المحتوى. وأن المعلومات كانت مفاجئة الى درجة أنها أصابت جونز بخيبة الأمل من “أولئك الذين اعتقدنا أننا نستطيع الثقة بهم.” في اشارة الى السعوديين. ولكن يبدو أن بعضاً من مواد الصفحات قد تم تسريبها عبر السنين بشكل متقطع. حيث ذكرت تقارير صحفية أميركية متعددة أن المعلومات تذكر بوضوح بأن الحكومة السعودية كان لها دور في دعم المجموعة التي نفذت اعتداءات نيويورك، وأن التقرير يؤشر على وجود علاقة مباشرة بين أفراد المجموعة ومسؤولين يعملون في الحكومة السعودية. وقد سجل مشرعون اميركيون اعتراضهم على قرار الحجب، لأن القرار لا يتعلق بالأمن القومي الأميركي، بقدر تعلقه بتأثيره على العلاقات الأميركية-السعودية.
الدور السعودي المفترض أو الحقيقي
لدى الباحثين الآن ثلاثة وثائق رسمية مهمة ولكنها منقوصة، تتعلق بتنفيذ اعتداءات نيويورك، فبالإضافة إلى تقرير لجنتي الكونغرس للاستخبارات عام 2002، وتقرير مفتش عام وكالة الاستخبارات الأميركية االذي أميط عنه اللثام الأسبوع الماضي، توجد تقارير تحقيقية لمكتب التحقيقات الفيدرالي تم نشرها عام 2012. وعلى الرغم من حجب المعلومات، إلا أن تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي تعطي بعض التصور، أو الخيوط حول الدور السعودي الغامض في تفجيرات نيويورك، والشبكة التي حاكت ودعمت تلك التفجيرات. ومع إضافة ما رشح للصحافة والمتابعين لشأن تفجيرات نيويورك، واعترافات زكريا موسوي، أحد أهم المخططين لتفجيرات نيويورك يمكن تكوينة صورة أكثر وضوحاً للموضوع تعطي انطباعاً عن الدور السعودي في تلك الاعتداءات
تتكون المجموعة التي نفذت اعتداءات نيويورك من 15 مواطناً سعودياً من أصل 19 عنصر. وتشير تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي، إلى أن المكتب كانت لديه شكوك وفي وقت مبكر بوجود علاقة وثيقة بين عمر البيومي، وأنور العولقي، رجل الدين الأميركي من أصل يمني، قبل أحداث سبتمبر 2001. وقد برز العولقي فيما بعد كأحد أبرز قادة تنظيم القاعدة حيث قتل في اليمن إثر غارة أميركية عام 2011. وحسب تلك التقارير فإن البيومي وهو مواطن سعودي الجنسية، كان مقيماً في مدينة سان دييغو الأميركية بصفة طالب، كان يعمل في جهاز الاستخبارات السعودية بشكل متخف ويتصل بشخصيات ذات نفوذ في العائلة المالكة السعودية، وقد أثار تدفق الأموال اللامحدود إليه من قبل شخصيات سعودية نافذة انتباه مكتب التحقيقات الفيدرالي آنذاك. وتذكر تقارير صحفية أميركية ذات اطلاع، بأن البيومي وأسامة باسنان -وهو الآخر مواطن سعودي كان يعمل في جهاز الاستخبارات السعودية- كانا يعملان ضمن شبكة معقدة من العلاقات المالية والشخصية مع مسؤولين كبار في الحكومة السعودية. وأن البيومي -على الأقل- كانت لديه أيضاً علاقات قوية مع اثنين من منفذي عملية نيويورك السعوديين، نواف الحازمي وخالد المحضار اللذان كان يرتبطان هما الآخران بعلاقة وثيقة مع العولقي و كانا يقيمان في سان دييغو أيضاً. ويبدو أن الربط بين عميلي الاستخبارات السعودية، والعولقي والخاطفين، والمسؤولين السعوديين الكبار هو الذي دعم شكوك أجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية حول دور سعودي من نوع ما في عملية نيويورك. وحسب “راي ماكغوفرن”، أحد أهم محللي وكالة الاستخبارات الأميركية السابقين، فإن البيومي، وباسنان بالاضافة إلى عشرات السعوديين المرتبطين بالأجهزة الاستخبارية السعودية غادروا الأراضي الأميركية على عجل، بعيد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر.
اعترافات زكريا موسوي
يعتبر زكريا موسوي أحد أهم أعضاء الخلية التي خططت ونفذت اعتداءات سبتمبر 2001. وهو يقضي حالياً فترة عقوبة السجن مدى الحياة في أحد السجون الأميركية. ظهرت اعترافات زكريا موسوي للعلن في شهر فبراير/شباط 2015. وتشير تلك الاعترافات إلى أن موسوي كان يعمل عضو ارتباط بين أسامة بن لادن وأفراد من العائلة الحاكمة في العربية السعودية. وأنه كان مسؤولاً عن إدارة قاعدة بيانات تنظيم القاعدة آنذاك، نظراً لمعرفته باللغة الانكليزية، وخبرته في أجهزة الكمبيوتر وادارة العمل الخاص به. وقد ذكر موسوي في اعترافاته أن عائلة بن لادن لم تقطع صلاتها بأسامة بن لادن كما كان يشاع، وأن كميات كبيرة من المال كان تصل إليه من أخيه غير الشقيق، عبدالله بن لادن، ومن مجموعة شركات بن لادن في العربية السعودية، رغم الادعاء بقطع الصلة به. بالإضافة إلى ذلك فإن موسوي ادعى أن أمراء سعوديين مثل الأمير تركي الفيصل (رئيس جهاز الاستخبارات السعودية المخضرم والذي تخلى عن منصبه بعد عشرة ايام من تفجيرات نيويورك)، والأمير الوليد بن طلال، والأمير بندر بن سلطان، والأمير محمد بن فيصل، والأميرة هيفاء الفيصل كانوا معروفين في أوساط القاعدة بأنهم من المتبرعين بشكل مستمر للتنظيم. وما يزيد الأمر غرابة هو أن موسوي ذكر بأنه سافر الى العربية السعودية قبل تفجيرات نيويورك مرتين والتقى الأمير تركي هناك وأنه استلم منه رسائل ليوصلها الى أسامة بن لادن في أفغانستان. يضاف الى ذلك فإن رجال دين مهمين في هيئة كبار العلماء في العربية السعودية كانوا أيضاً على تواصل مع أسامة بن لادن، وكانت الهيئة تغذي تنظيم القاعدة بالمباركة الدينية والتبرعات المالية كذلك، حسب موسوي. ويدعي موسوي أن انقساماً واضحاً كان ماثلاً للعيان في العائلة المالكة السعودية في الموقف تجاه أسامة بن لادن. فبعض أفراد العائلة كانوا يعادون بن لادن مثل الملك فهد، إلا أن أفراداً آخرين في العائلة كانوا على وفاق تام معه. والسبب كان يتعلق بالتوظيف السياسي لقضية بن لادن لما فيه مصلحة العائلة المالكة.
يذكر أن الخلاف ابتدأ بين أسامة بن لادن- الذي كان مقرباً من العائلة المالكة السعودية- والعاهل السعودي الراحل، الملك فهد عام 1990، عندما عرض بن لادن على الحكومة السعودية الاستعانة بمجاميعه الجهادية لمحاربة الرئيس العراقي السابق، صدام حسين أثناء غزوه للكويت وتهديده العربية السعودية بدلاً من طلب المساعدة من القوات الأميركية، حيث تم رفض عرضه. وقد تم نفي بن لادن الى السودان، لينتقل لاحقاً إلى أفغانستان بسبب ضغوط مورست ضد الخرطوم عام 1996.
ماذا تعني هذه المعلومات؟
تؤكد المعلومات وجود سياسة سعودية مزدوجة تتبعها العائلة الحاكمة السعودية في التعامل مع القوى السنية الجهادية في المنطقة. ويبدو أن هذه السياسة تتحرك في أفق العداء لتلك القوى من جهة، وأفق المساندة والدعم الموجه من جهة أخرى، وبما يخدم بعض الأجندات التي تراها العربية السعودية مهمة لها. ولوجود مشتركات في التاريخ، والثقافة، والفكر، والعلاقات الشخصية بين العائلة الحاكمة وقيادات التنظيم السابقين على الأقل، كأسامة بن لادن، فإن القاعدة وتفرعاتها كانت وستبقى أداة مهمة من أدوات السياسة السعودية الداخلية والخارجية. وهذا –ربما- ما يفسر تحرك التنظيمات الجهادية السنية في بعض الأحيان بشكل يتوافق مع اتجاه السياسة السعودية. يضاف إلى ذلك إلى التعامل اللين الذي تبديه الحكومة السعودية ومؤسساتها الدينية أحياناً مع من ينتمي الى تلك التنظيمات من السعوديين، من الذين شاركوا أو يشاركون في عملياتهم خارج الأراضي السعودية، خاصة في العراق وسوريا واليمن وغيرها من مناطق مثل الشيشان. ومع ملاحظة وجود 7000 عنصر سعودي يقاتلون مع تلك التنظيمات في الوقت الحاضر، سواء ضمن تنظيم داعش، أو النصرة أو القاعدة. يبقى فهم السياسة السعودية المزدوجة في التعامل مع ملف قوى التطرف السني ذا أهمية كبيرة للمتابعين للشأن السعودي، خاصة أن هذه القوى تستفيد مالياُ، وبشرياً وفكرياً وأحياناً سياسياً من هذه السياسة المزدوجة. ولكن هذه السياسة الخطيرة تترك انعكاساتها المؤلمة على المنطقة، إذ أن سياسات الاختراق، أو التواؤم، أوالاستغلال السياسي أو الديني لخطاب تلك الجماعات قد تأخذ منعطفات خطيرة نجد نتائجها ماثلة للعيان في الأوضاع الراهنة في المنطقة. وإذا كانت تأثيرات هذه السياسة السعودية قد أنتجت أميركياً، تفجيرات نيويورك عام 2001، فإن هذه السياسة نفسها ساهمت في انتاج تنظيمات مثل داعش في سوريا والعراق، والنصرة في سوريا، والقاعدة في جزيرة العرب في اليمن وخلقت أوضاعاً قلقة ومضطربة في المنطقة قد تأتي على مستقبلها. ومايزال العراق أحد البلدان الأكثر تضرراً من سطوة وتوسع تنظيمات مثل تنظيم داعش.
ستبقى الصلات المفترضة بين أفراد العائلة المالكة بمنفذي اعتداءات نيويورك تلقي بظلالها على العلاقات السعودية-الأميركية. ويبدو أن التسمم الذي أصاب العلاقات بين البلدين جراء ذلك لم يتم التخلص منه الى يومنا هذا رغم مرور 14 عاماً على تلك الاعتداءات. ومايزال سياسيون أميركيون كبار، وذوو ضحايا الاعتداءات يطالبون بكشف الدور السعودي فيها، وفتح ملف مطالبات التعويضات.
يبدو أن الإدارة الأميركية، ولأسباب تتعلق باستمرار استخدام أوراق الضغط، لا ترغب في إغلاق ملف الدور السعودي في الاعتداءات، وأن الإدارات الأميركية المتعاقبة ستستمر في تحريك ذلك الملف متى ما تطلب الأمر ذلك. مما يعني أن نتائج التحقيقات ستبقى مستخدمة كورقة تأثير سياسي قوية ضد السعوديين من قبل واشنطن. وستبقى الصفحات الثماني والعشرون واحدة من أوراق التأثير السياسي الأميركي ضد السعوديين.
للمزيد
http://www.foia.cia.gov/sites/default/files/DOC_0001525482.pdf
https://fas.org/irp/congress/2002_rpt/911rept.pdf
http://www.judicialwatch.org/document-archive/saudi-and-al-aulaqi-connections-to-911-3/