جيمس جيفري
المشكلة في الإستراتيجية، وليست في التنفيذ
يوفّر كلٌّ من (ماكس بوت)، صاحب مقال (المزيد من الحروب الصغيرة/ في عدد تشرين الثاني-كانون الأول 2014)، وريك برينان، صاحب مقال (أعراض الانسحاب/ في عدد تشرين الثاني-كانون الأول 2014)، نظرة معمّقة فيما يخص ما أخطأت فيه الولايات المتحدة على مستوى العمليات في العراق. من الممكن الشعور بالمبادئ العسكرية من أجل العمل بشكل أفضل في مكافحة التمرد القادم حتى إنْ تطلّب بعضها تسامح أكثر فيما يخص أعداد الضحايا، وبالنسبة لي، فإنّ نقاشات برينان حول الأخطاء المرتكبة من الولايات المتحدة في العراق بين عامي 2010 و2012 بشكل عام تبدو صحيحة، بصفتي أحد الأشخاص الذين يرتكبون بعض هذه الأخطاء.
لكن نقاشات بوت وبرينان تستند إلى فرضية معيوبة وهي (لو فقط أنّ الولايات المتحدة كانت قد لوّحت بمكافحة التمرد بشكل صحيح، كان من الممكن أن تنجح). لو كان هدف واشنطن الأساسي هو تحويل العراق إلى شكل تجعل فيه بغداد تحكم بجدارة، وتقمع التمرّد الحاصل في البلد، وتُؤسس مؤسسات فعالة على النمط الغربي، لكان مصير مكافحة التمرد الفشل مثلما فشلت الولايات المتحدة في فيتنام والصومال وأفغانستان، والسبب لا يقع على التطبيق الضعيف وإنما على الإستراتيجية نفسها.
إنّ مكافحة التمرّد، التي وصفها الجنرال ديفيد بترايوس في كتابه “الدليل الميداني للجيش الأميركي-مشاة البحرية في مكافحة التمرد” عام 2006، تدعو إلى أسلوب ذي ثلاثة مراحل هي “حرر، إمسك، إبنِ”، وذلك يعني طرد المتمردين إلى خارج المناطق المعنية، ومنعهم من العودة، وبناء المؤسسات المحلية التي تساعد السكان على المضي.إنّ الجيش الأميركي قادرٌ على تطبيق أول مرحلتين، بما أنهما عسكريتين بطبيعة الحال، لكنه يواجه مشكلات في المرحلة الثالثة التي تكون نهايتها مفتوحة بطبيعة الحال، فالجيش يمكن أن يستعين بوكالات حكومية أميركية مدنية لتوفير مساعدة محدودة جداً، لكن هذه الكيانات أيضاً سجلاتها شائبة عندما يتعلق الأمر بتطبيق إصلاح ومصالحة، حتى في البلدان التي تنعم بالسلام.
إنّ مرحلة البناء تتصف بالطموح بالتأكيد، فهي تتضمن تكوين حكومات محلية جديرة، وقوى أمن قادرة على أن تحل محل القوات الأميركية، لكن الأمور تجري ضد تحقيق النجاح، فالولايات المتحدة تميل إلى الالتزام بارسال قوات في مهمات لمكافحة التمرد فقط في غياب حكومة مركزية صديقة (كما كان الحال مع أفغانستان في 2001 والعراق في 2003)، أو عندما تكون الحكومة مهزومة من المتمردين بشكل يدعو إلى اليأس (كما كان الحال مع فيتنام في 1965). في مثل هذه الحالات، تواجه القوات الأميركية معركة شاقة وتكون مجبرة على تحمل خسائر كبيرة.
ويزداد الوضع سوءاً، فالقوات البرية الأميركية، على عكس المستشارين العسكريين والقوات الجوية، تقريباً وبشكل دائم، تولّد ردود أفعال سلبية بين أوساط مجتمعات العالم النامي التي لديها مخاوف من حصول تدخلات إستعمارية، مهما كان الجنود حذرين في تجنب إلحاق خسائر بالمدنيين، ومهما حيتهم أجزاء من السكان بانفتاح. فضلا عن ذلك، فإنّ الدول المجاورة، التي لديها قلق من إحتمال تواجد قوات أميركية على حدودها، غالباً ما تكون لها مصلحة في دعم المتمردين، فقد فعلت الصين ذلك في جنوب فيتنام، وباكستان فعلت ذلك في أفغانستان، وإيران وسوريا فعلتا الشيء نفسه في العراق.
إنّ مقاومةً كهذه تزيد من تكاليف الحرب، في الوقت الذي يؤكد فيه القادة الأميركان على زيادة السيطرة على السكان للتعامل مع الأخطار المتنامية، وحتى عندما “يُمسك” الجيش، يبقى السعر بالدم والكنز جوهري، ولتبرير هذه الكلف المرتفعة، تصبح عمليات “البناء” أكثر ضخامة، وانعكاساً، أكثر من أي وقتٍ مضى، لرؤية الولايات المتحدة للدولة وكيف يجب أن تكون إنسانية وكفوءة وذات اقتصاد حي. إنّ مسؤولي الدولة المضيفة، التي تعتمد على واشنطن لبقائها وإفادتها من سخائها، تنسجم بشكل سطحي مع بعضها، لكن الاصلاحات المهمة، كالآليات الثلاثة المنفصلة عن بعضها لمكافحة الفساد التي أسستها في بغداد خلال مرحلة تواجدي هناك، تفشل في أن تستمر من دون رعاية أميركية مستمرة، لأنه طالما بقيت القوات الأميركية، فانّ جهود الاستقرار تستمر، مدعومة بفيض من المقاييس الايجابية بشكل مثير للريبة.
عندما ترحل القوات الأميركية فإن وضعاً كالذي حصل في العراق بعد عام 2011 لا يمكن تجنبه. بعض الاصلاحات تبقى، فالعراقيون، مثلاً، حافظوا على تمسّكٍ عنيد بالاقتراع والمعايير الدستورية، لكن غيرها سقط على جانب الطريق. إذا لم يظهر أي تهديد حقيقي، فإنّ الدولة تتعثر، أمّا إذا برز تهديد مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام كما حصل في 2014، فإنّ القادم سيكون وقوع الكارثة.
يبدو أنّ بوت وبرينان يلمحان إلى أن الولايات المتحدة لو كانت قد أبقت قوات في العراق لمدة كافية لكانت قد تجنبت نتيجة مثل هذه، لكن نقاش مثل هذا حول أمر كبير مثل مكافحة التمرد، لم يتم اختباره لسبب بسيط، وهو أن الرأي العام الأميركي، عادة يضجر من حملات كهذه، وعاجلاً أم آجلاً سوف يضغط على واشنطن لكي تنهي تلك الحملات . يدّعي بوت أن الرؤساء الأميركيين قد استخفوا بالصبر المثير للاعجاب للشعب الأميركي على مساعٍ كهذه، واصفاً مقاومة حرب العراق بأنّها برزت سياسياً فقط في 2006 و2007، عندما وصل عدد القتلى الأميركيين في العراق إلى أكثر من 100 في الشهر وبدت الحرب خاسرة، لكن ذلك يشبه القول بأن معارضة حرب فيتنام كانت ذات أهمية فقط في أوجها بين 1968-1970. إنّها تفشل في قراءة المزاج الشعبي العام الأكبر الذي كان قبيحاً في كلا الحربين، وفي كلا الحالتين، خفف البيت الأبيض من شكوك الرأي العام، ليس فقط بتحقيق إنجازات في أرض المعركة، بل بتطمينات تقول بأن الصراعات سوف تنتهي قريباً. الرئيس (جورج دبليو بوش) خالف الرأي العام بوقاحة وصعّد حرب العراق عام 2007، مثلما فعل الرئيس (ريتشارد نيكسون) في فيتنام عندما أرسل جنوداً إلى كمبوديا ولاوس عامي 1970 و1971، لكن بوش مثل نيكسون، صحب فعله العدواني بتأكيد تسليم الصراع إلى الحكومة المضيفة، وبدأ بسحب القوات المقاتلة بعد مدة قصيرة من نشر آخر الألوية التعزيزية التي زج بها، ووعد أيضاً قادة العراق بأن الولايات المتحدة سوف تسحب جميع قواتها في نهاية عام 2011، ولولا أن الرئيسين أعادا تطمين الرأي العام بوجود انسحاب وشيك، لكانت المعارضة الواسعة لكلا الحربين في تلك الاوقات الحرجة قد تفجّرت.
مهما كانت التغييرات التي ترغب الولايات المتحدة برؤيتها في العراق، يجب عليها أن تتذكر أن الجيش الأميركي موجود لإتمام المهمات العسكرية، مثل دحر النازية الألمانية، أو طرد العراق من الكويت. عندما يعطي القادة السياسيون البنتاغون أهدافاً واسعة لتحوّل اجتماعي على شكل “المرحلة الرابعة من عمليات الاستقرار”، فإنّهم يقوّضون الدعم حتى للمهمات المنطقية ذات الكلف الواطئة، – مثل الحملة الجوية على سوريا- إن مكافحة التمرد كانت وصفةً للاندحار وتقليص النفقات في الماضي القريب، مثلما كانت في سبعينيات القرن العشرين وكما ستكون مرة أخرى في المستقبل.
إذن، ماذا يتوجب على صنّاع القرار الأميركيين أن يفعلوا عندما يواجهون تمرداً؟ إن كان من الممكن، فعلى واشنطن أن ترد بدعم قوات صديقة محلية، وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فيجب عليها أن تتحمل عواقب تمردٍ منتظر، وتحتوي انتشاره، وتحمي الحلفاء المهمين، أما الشروع بمهمة أخرى ترتكز على قوات أميركية لمكافحة التمرد فإن ذلك أمر غير عادل بالنسبة للرجال والنساء الصالحين الذين يخدمون في الجيش الأميركي.
رابط المصدر :
http://www.foreignaffairs.com/articles/143032/james-f-jeffrey/why-counterinsurgency-doesnt-work