كريستوف رويتر
ضابط عراقي خطّط لسيطرة الدولة الإسلامية في سوريا، وحصلت شبيغل بشكل حصري على أوراقه التي تعطي صورة عن منظمة تضع الحسابات بشكل بارد، بالرغم من أنّها تبدو منقادة خلف تعصبها الديني.
متحفظ، مؤدب، محتال، نبه جداً، مكبوت، مخادع، قابل للتعلم، خبيث، هكذا يتذكره ثوارٌ من شمال سوريا بتذكرهم للقاءات جمعتهم به بعد شهور عدة ، إنّهم يتذكرون عدة جوانب من هذا الرجل، لكنهم متفقون على شيء واحد “لم نكن نعلم بالضبط أمام من كنا نجلس”.
في الحقيقة، حتى أولئك الذين رموه وأردوه قتيلاً بعد تبادل قصير لاطلاق النار في بلدة (تل رفعت) في إحدى صباحات كانون الثاني 2014، لم يكونوا يعرفون الهوية الحقيقية للرجل الطويل الذي كان في نهايات الخمسينات من عمره، لم يعرفوا أنّهم قتلوا العقل الإستراتيجي للمجموعة التي تطلق على نفسها إسم “الدولة الإسلامية”،وكانت إمكانية حدوث هذا الأمر نتيجة لخطأ نادر بل فتاك في حسابات المخطِّط البارع. لقد وَضَع الثوار المحليون الجثة في ثلاجة كانوا ينوون أن يدفنوه فيها، ولم يستخرجوا جثته إلا بعد أن اكتشفوا كم كان الرجل مهماً.
(سمير عبد محمد الخليفاوي) كان الاسم الحقيقي لهذا العراقي، الذي خففت من ملامحه النحيلة لحيته البيضاء، لكن لم يكن أحد يعرفه بهذا الاسم، وحتى اسمه المستعار (حجي بكر)، لم يكن معروفاً بشكل واسع، لكن ذلك، تحديداً، كان جزءاً من الخطة.إنّ هذا العقيد السابق في استخبارات صدام حسين للقوة الجوية كان يستغل معارفه بشكل سري لصالح الدولة الإسلامية لسنوات، وكان الأعضاء السابقون في الجماعة يذكرونه بشكل متكرر كواحد من الشخصيات القيادية، لكن لم يكن واضحاً أبداً ما هو دوره بالضبط.
لكن، عندما مات مخطِّط الدولة الإسلامية هذا، ترك وراءه شيئاً كان ينوي أن يبقيه كشيء سري جداً، ألا وهو مخطَّط هذه الدولة. إنّه ملف مليء بمخططات تنظيمية مرسومة باليد، وقوائم، وجداول، توضح كيف يمكن أن يُقهر بلدٌ بشكل تدريجي، وحصلت شبيغل على إطّلاع حصري من الـ31 صفحة، بعضها يحتوي صفحات عدة ملتصقة ببعضها، تكشف التركيب متعدد المستويات وتوجيهات العمل، بعضها قد تمت تجربته في السابق، وبعضها الآخر تم ابتكارها لتلائم الوضع الفوضوي في مناطق سوريا التي يسيطر عليها المتمردون. بمعنى، أن هذه الوثائق هي شفرة المصدر للجيش الارهابي الأكثر نجاحاً في التاريخ المعاصر.
حتى الآن، أغلب المعلومات عن الدولة الإسلامية جاءت من المقاتلين الذين إنشقوا عنها ومن مجموعات البيانات المستحصلة من عناصر الإدارة الداخلية للدولة الإسلامية الذين تم مسكهم في بغداد، لكن جميع هذه المعلومات لم توفر توضيحاً للظهور النيزكي لهذه الجماعة قبل أن تضع الضربات الجوية في نهاية صيف 2014 حداً لمسيرة نصرها.
إن وثائق (حجي بكر) جعلت من الممكن، ولأول مرة، أن نصل إلى استنتاجات حول آلية تنظيم قيادة الدولة الإسلامية، وأن نعرف الأدوار التي يؤديها المسؤولون السابقون في حكومة الدكتاتور السابق صدام حسين.وفوق كلي شيء، إنّها تُظهر كيفية التخطيط للسيطرة على شمال سوريا، الأمر الذي جعل التقدّم اللاحق للجماعة في العراق ممكناً. فضلا عن ذلك، فإنّ شهور البحث التي أخذتها شبيغل على عاقتها في سوريا، وكذلك سجلات اكتُشفت حديثاً وحصلت شبيغل على اطلاع حصري عليها، تُظهر أن تعليمات (حجي بكر) تم تنفيذها بدقة.
تم إخفاء وثائق بكر لمدة طويلة في ملحق صغير في بيت يقع في الجزء الشمالي المتأزم من سوريا، وأول كلام عنها جاء من شاهد عيان رآهن في بيت (حجي بكر) مباشرة بعد موته. في نيسان 2014، تم تهريب صفحة واحدة من الملف إلى تركيا إذ تمكنت شبيغل من أن تتفحصها للمرة الأولى، ولم يكن من الممكن الوصول إلى تل رفعت لتقييم المجموعة الكاملة من الأوراق المكتوبة بخط اليد إلا في تشرين الثاني 2014.
يقول الرجل الذي كان يحتفظ بملاحظات (حجي بكر) بعد استخراجهن من تحت كومة عالية من الصناديق والملاحف “كان همّنا الأكبر أن هذه الخطط من الممكن أن تقع في الأيادي الخاطئة ولن يتم التعرف عليها”، تحفظ الرجل على إسمه خوفاً من فرق الموت التابعة للدولة الإسلامية.
الخطة الرئيسة
تبدأ قصة جمع الوثائق في وقت كان القليل قد سمع فيه بالدولة الإسلامية. عندما سافر (حجي بكر)، عراقي الجنسية، إلى سوريا كجزء من فريق متقدم في أواخر 2012، كان لديه، كما كان يبدو، خطة سخيفة، وهي أن الدولة الإسلامية تستولي على أكبر قدر ممكن من الأراضي في سوريا، ثم استخدام سوريا كموطئ قدم لغزو العراق.
سكن بكر في منزلٍ غير واضح في تل رفعت، شمال حلب، وكانت البلدة اختياراً جيداً، ففي ثمانينيات القرن العشرين ذهب كثير من سكانها للعمل في دول الخليج، وبالأخص السعودية، وعندما عادوا، جلب بعضهم معه قناعات وجهات اتصال متطرفة. في عام 2013، أصبحت تل رفعت معقل الدولة الإسلامية في محافظة حلب بوجود مئات المقاتلين المتمركزين هناك.
وهناك قام “رجل الظل”، كما سماه البعض، برسم تركيب الدولة الإسلامية نزولاً إلى المستوى المحلي، وجمع قوائم تتعلق بالتسلل التدريجي إلى القرى، وقرر من يُشرف على من، وقام، باستخدام قلم سوفت، برسم سلاسل القيادة في جهاز الأمن على الورق. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن يكون صدفة، إلا أن ذلك الورق كان من وزارة الدفاع السورية وحمل شعار القسم المسؤول عن الاقامة والأثاث.
لم يكن ما وضعه بكر على الورق، صفحة تلو الأخرى، ومع مربعات واضحة لمسؤوليات الأفراد، سوى مخطط للاستيلاء. لم يكن بيان مبايعة، بل خطة تقنية محكمة لدولة مخابراتية إسلامية – خلافة تدار من منظمة تشبه وكالة مخابرات ستاسي الداخلية، سيئة الصيت، في ألمانيا الشرقية.
لقد تم تطبيق هذه الخطة بدقة مذهلة في الأشهر التي تلت إعدادها. تبدأ الخطة دائماً بالتفصيل نفسه ، فهي تجند التابعين تحت ذريعة مكتب دعوة (مركز إسلامي تبشيري). ويتم اختيار شخص أو شخصين ممن يحضرون الدروس والندوات الدينية ويوكلون بمهمة التجسس على قُراهم والحصول على معلومات واسعة. وبهذا الخصوص كتب حجي بكر قوائم كما يأتي:
- تحديد العوائل المتنفذة
- تحديد الأفراد المتنفذين في تلك العوائل
- إكتشاف مصدر دخلهم
- تحديد أسماء وأحجام كتائب (الصوار) في القرية
- معرفة أسماء قادتهم، ومن يتحكم بالكتائب، وتوجههم السياسي.
- معرفة نشاطاتهم غير الشرعية (حسب قانون الشريعة) التي من الممكن استخدامها لابتزازهم عند الحاجة.
وقد أُعطيت الأوامر للجواسيس بملاحظة التفاصيل كالسوابق الإجرامية لشخص أو ميوله الجنسية الشاذة أو ارتباطه بعلاقة سرية، وذلك لاستخدام هذه المعلومات لابتزازه لاحقاً. وكتب بكر بضمن ملاحظاته “سنعين أذكى العملاء شيوخاً للشريعة، سندربهم لمدة ونوفدهم بعد ذلك”. كما أضاف إلى الحاشية بأن عدداً من “الإخوة” سيتم اختيارهم لتزويجهم ببنات أكثر العوائل نفوذاً “لضمان التغلغل في هذه العائلات دون إدراكها لذلك”.
كما تقع على عاتق الجواسيس مسؤولية جمع أكبر قدر من المعلومات عن البلدات المستهدفة، مثل هوية سكانها ومن المسؤول عن إدارتها، وتحديد العوائل المتدينة والمدارس الفقهية التي ينتمون لها، وعدد المساجد في البلدة، وهوية أئمتها وعدد زوجاتهم وأطفالهم وما هي أعمارهم. فضلا عن تفاصيل أخرى تشمل طبيعة خطب الإمام وتوجهاته إن كانت أقرب للصوفية، وإن كان مع النظام أم مع المعارضة، وموقفه من الجهاد. كما سعى بكر لمعرفة إن كان الإمام يتلقى راتباً ومن يدفعه، ومن المسؤول عن تعيين الإمام، وأخيراً معرفة كم من الناس في البلدة مؤيدون للديمقراطية.
كانت وظيفة المخبرين تتلخص في تقفي آثار أصغر الشقاقات وكذلك أعمقها، مما يمكن استخدامه لزرع الفرقة وقهر السكان المحليين. كان من ضمنهم جواسيس تابعين للمخابرات سابقاً فضلا عن معارضين للنظام كانوا قد تشاجروا مع إحدى مجموعات الثوار. بينما كان بعضهم شباناً وفتية وجدوا في هذا العمل ما يسد شوقهم للمغامرة أو حاجتهم للنقود. ومعظم المخبرين الذين جندهم بكر كأولئك في تل رفعت كانوا في بداية العشرينات من العمر، لكن بعضهم كان في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره.
تضمنت الخطط أيضاً أموراً مثل التمويل والمدارس والحضانات والإعلام والنقل، ولوحظت قواسم مشتركة بينها جميعاً تم الإعداد لها بدقة فائقة في الهياكل التنظيمية المرسومة وقوائم المسؤوليات والتقارير المطلوبة ألا وهي المراقبة والتجسس والقتل والخطف.
وفي مخططاته تلك، عين بكر أميراً أو قائداً لكل مجلس محافظة مهمته عمليات القتل والخطف والقنص والاتصالات والتشفير، فضلا عن تعيينه أميراً آخر ليشرف على بقية الأمراء (في حال عدم قيامهم بمهامهم بشكلٍ وافٍ). مما يجعل نواة هذه الدولة الدينية تحاكي خلية شيطانية، بدقتها وتركيبها المصمَّم على نشر الخوف.
كانت الخطة تقضي منذ البداية بعمل أجهزة المخابرات بشكل متوازٍ مع بعضها البعض حتى على مستوى المحافظات. إذ يترأس قسم المخابرات العامة أميراً للأمن يشرف بدوره على نوابه في المقاطعات المختلفة. ويتلقى هولاء النواب تقارير من رؤساء الخلايا الجاسوسية ومدراء المعلومات الاستخباراتية لكل مقاطعة. كما يتلقى نائب الأمير تقارير أيضاً من أفراد الخلايا التجسسية على المستوى المحلي. فالهدف كان أن يراقب الجميع بعضهم. ويترأس أمير المقاطعة كذلك مدربي القضاة الشرعيين لتقصي المعلومات بينما يتولى الأمير المحلي مهمة الإشراف على قسم منفصل “لضباط الأمن”.
الشريعة والمحاكم وفرض الطاعة كلها تخدم هدفاً واحداً وهو المراقبة والسيطرة، حتى أن الكلمة التي استخدمها بكر في وصفه لأتباعه من المسلمين الحقيقيين هي “التكوين”، وهي كلمة ليست دينية بل مصطلح تقني يستعمل في علم الجيولوجيا أو البناء. ومع ذلك وجدت هذه الكلمة طريقها منذ 1,200 عام خلت إلى الشهرة حيث استعملها علماء الخيمياء الشيعة كمصطلح يصف خلق حياة اصطناعية. وفي “كتاب الأحجار” الذي كتبه العالم الفارسي جابر بن حيان نجد رموزاً وكتابات سرية عن خلق إنسان قزم. جاء فيه “الغاية هي خداع الجميع، عدا أولئك الذين يحبون الله”. قد يروق هذا لواضعي استراتيجيات الدولة الإسلامية على الرغم من أنّهم يرون الشيعة كفرة لا يؤمنون بالإسلام الحقيقي، إلا أنه بالنسبة لحجي بكر فإن الله والدين البالغ من العمر ألف وأربعمئة عام لم يتجاوزا كونهما أدوات يستخدمها على هواه لبلوغ غايته الأسمى.
البدايات في العراق
لقد بدا وكأن الكاتب البريطاني جورج أورويل كان المثل الأعلى لهذه النسخة من المراقَبة المصابة بجنون العظمة، التي كانت أسهل بكثير،فكل ما عمله بكر هو تعديل بسيط على ما تعلمه في الماضي، ففي أجهزة صدام حسين الأمنية التي تعرف كل شيء، لم يكن أحد، حتى جنرالات أجهزة المخابرات، على ثقة من عدم تجسس أحد عليه. وقد وصف الكاتب العراقي المغترب كنعان مكية “جمهورية الخوف” هذه، في كتابه، بأنها دولة يمكن لأي كان فيها أن يختفي ببساطة ويمكن فيها لصدام أن يختتم تسلمه الرسمي للسلطة في 1979 بأن يكشف عن مؤامرة زائفة.
هناك سبب بسيط لغياب أي نبوءات في كتابات بكر عن قيام الدولة الإسلامية التي يُزعَم أن الله أمر بها، فقد كان بكر يؤمن أن المعتقدات الدينية المتطرفة وحدها لا تكفي للوصول إلى النصر، لكنه كان يؤمن أنه يمكن استغلال معتقدات الآخرين لذلك الغرض.
في عام 2010 قام بكر مع مجموعة صغيرة من ضباط المخابرات العراقيين السابقين بتنصيب (أبو بكر البغدادي) أميراً ومن ثم “خليفة” – أي القائد الرسمي للدولة الإسلامية. وكانت حجتهم في اختياره هي أن البغدادي رجل دين متعلم ويمكنه أن يعطي طابعاً دينياً للجماعة.
كان بكر رجلاً “قومياً، وليس إسلامياً” كما وصفه الصحفي العراقي هشام الهاشمي، وكان ضابطاً في قاعدة الحبانية الجوية مع قريب للهاشمي. وأضاف الهاشمي أن “العقيد سمير”، كما يسميه الهاشمي،“كان على درجة عالية من الذكاء والصرامة وبارعاً في الأمور اللوجيستية.” ولكن عندما قام رئيس سلطة الاحتلال الأمريكي آنذاك بول بريمر بـ “إصدار مرسوم لحل الجيش العراقي في آيار 2003 غضب بكر وأضحى عاطلاً عن العمل.”
وهكذا وبجرة قلم سُرقت حياة الآلاف من الضباط السنة المدربين جيداً وخلقت أمريكا لنفسها بذلك أذكى وألد الأعداء. عمد بكر إلى التخفي حينها وقابل أبو مصعب الزرقاوي في محافظة الأنبار غرب العراق، وكان الزرقاوي أردني المولد قد أدار معسكراً لتدريب الحجاج الإرهابيين من أنحاء العالم في أفغانستان. واكتسب في عام 2003 شهرة عالمية بكونه العقل المدبر خلف الهجمات التي شُنت على الأمم المتحدة والجيش الأمريكي والمسلمين الشيعة، حتى أن قائد القاعدة السابق أسامة بن لادن كان يعده متطرفاً،ومات الزرقاوي في عام 2006 إثر غارة جوية أمريكية.
وبالرغم من علمانية حزب البعث الذي كان مسيطراً في العراق اشترك التنظيمان في قناعة مفادها أن السيطرة على الشعوب يجب أن تكون بيد قلة من النخبة تكون فوق الحساب لأنها تحكم باسم الهدف الأكبر وتكتسب شرعيتها إما من الله أو من أمجاد تاريخ العرب. ويكمن سر نجاح الدولة الإسلامية في خليط من المتضادات: المعتقدات المتطرفة لجماعة والحسابات الاستراتيجية لجماعة أخرى.
أصبح بكر تدريجياً أحد القادة العسكريين في العراق وسُجن في معسكر بوكا الأمريكي وفي أبو غريب بين عامي 2006 و2008، ونجا من حملات الاعتقالات والقتل التي شنتها الوحدات الخاصة الأمريكية والعراقية التي كانت تهدد وجود سَلَف الدولة الإسلامية في 2010 وهي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.
وبالنسبة لبكر وغيره من الضباط السابقين ذوي الرتب العالية كانت هذه فرصتهم للسيطرة على السلطة في دائرة أصغر من الجهاديين، إذ كانوا قد استغلوا وقتهم في معسكر بوكا بإنشاء شبكة كبيرة من العلاقات، لكن كبار القادة كانوا على معرفة مسبقة ببعضهم لمدة طويلة،فقد كان (حجي بكر) وضابط آخر جزءاً من وحدة صغيرة للاستخبارات تابعة لوحدة مضادات الطائرات، كما كان رجلان آخران من قادة الدولة الإسلامية ينحدران من مجتمع سني تركماني صغير في بلدة تلعفر، أحدهما كان ضابط مخابرات برتبة عالية كذلك.
في عام 2010، كانت فكرة محاولة هزيمة قوات الحكومة العراقية عسكرياً، تبدو عقيمة، لكن منظمة سرية قوية كانت قد تشكلت وتجسدت بأعمالها الإرهابية وعمليات الابتزاز باسم الحماية، ثم استشعر قادتها وجود فرصة لهم عند اندلاع الثورة ضد ديكتاتورية آل الأسد في سوريا. ومع نهاية عام 2012، وتحديداً في الشمال، لحقت الهزيمة بقوات الحكومة السورية القاهرة وتم طردها. فعمت الفوضى وأصبح هناك المئات من المجالس المحلية وكتائب الثوار ولم يكن أحد مدركاً لما يجري، وكانت تلك المرحلة الحرجة هي ما يسعى إلى استغلالها الضباط السابقون في الجماعة.
تختلف التفسيرات حول ظهور الدولة الإسلامية وصعود نجمها بناء على اختلاف المفسرين، فخبراء الإرهاب ينظرون للدولة الإسلامية على أنها فرع من القاعدة ويعزون ضعف ضرباتها حتى اليوم إلى ما يعدونه خللاً في قوة الدولة التنظيمية، أما خبراء الجرائم فيرون أن الدولة الإسلامية أشبه بالشركات المافياوية التي تسعى إلى تعظيم أرباحها. في حين أن ما يلفت نظر خبراء العلوم الإنسانية هو التصريحات المتعلقة بيوم القيامة، من القسم الإعلامي في الدولة الإسلامية، وتمجيد الموت والاعتقاد بأن الدولة الإسلامية تسعى في مهمة مقدسة.
إلا أن رؤى يوم القيامة وحدها غير كافية للسيطرة على المدن والاستيلاء على الدول،فالإرهابيون لا يقيمون دولاً، ومن غير المحتمل أن ترفع المنظمات الاجرامية الحماسة بين داعميها حول العالم لدرجة أن يتخلوا عن دنياهم ويسافروا إلى دولة الخلافة مع احتمال أن يلاقوا حتفهم فيها.
ولا تشترك الدولة الإسلامية مع أسلافها، كالقاعدة، بالكثير،باستثناء الطابع الجهادي، فلا يوجد أي طابع ديني لأفعالها أو تخطيطها الإستراتيجي أو تغييرها حلفاءها على نحو يبدو مجرداً من المبادئ، أوحملاتها الإعلامية المطبَّقة بدقة. والإيمان فيها، حتى بأكثر صوره تطرفاً، ليس إلا وسيلة من وسائل عدة لبلوغ غاية، والقاعدة الوحيدة التي تطبقها هي توسيع رقعة نفوذها مهما بلغ الثمن.
تطبيق الخطة
كان توسع الدولة الإسلامية قد تم بدون أي صخب لدرجة أنه استوقف العديد من السوريين بعد عام ليراجعوا متى بدأ الجهاديون بالظهور في صفوفهم، فمكاتب الدعوة التي افتتحت في العديد من المدن في شمال سوريا في ربيع عام 2013 كانت تبدو كمكاتب تبشيرية بريئة على شاكلة الجمعيات الخيرية الإسلامية المتوفرة حول العالم.
وعندما افتُتِح مكتب للدعوة في الرقة كان “كل ما قالوه هو أنهم “إخوة” ولم يذكروا شيئاً عن الدولة الإسلامية” بحسب كلام طبيب هرب من المدينة، وأقيم مكتب للدعوة كذلك في منبج – وهي مدينة ليبرالية في محافظة حلب – في ربيع عام 2013، قال عنه ناشط في الحقوق المدنية “لم ألحظه في البداية،فلقد كان متاحاً للجميع افتتاح ما يشاؤون، ولم نكن نشك أبداً بأن أحداً غير النظام يمكن أن يشكل تهديداً لنا إلّا عندما بدأ القتال في كانون الثاني، أدركنا حينها أن داعش قد استأجرت عدداً من الشقق لتخبئ فيها رجالها وأسلحتها.”
حصل الشيء نفسه في الباب والأتارب واعزاز، كما أقيمت مكاتب للدعوة في محافظة إدلب المجاورة في بدايات عام 2013 في بلدات سرمدا وأطمة وكفر تخاريم والدانا وسلقين،ووسعت الدولة الإسلامية وجودها حال تشخيصها لعدد كاف من “الطلاب” الذين من الممكن تجنيدهم كجواسيس. وقامت باستئجار مبانٍ إضافية في الدانا ورفعت الإعلام السوداء وأغلقت الطرقات، أما في البلدات التي لاقت منها مقاومة كبيرة أو التي لم تستطع إيجاد عدد كافٍ من الموالين فيها فاختارت أن تنسحب منها مؤقتاً. كانت طريقة عملها في البداية تعتمد على التوسع دون المخاطرة بمواجهة مفتوحة، وعلى خطف أو قتل “الأفراد العدائيين” مع إنكار أي دور لها في هذه الأعمال المشينة.
أمّا المقاتلون أنفسهم فقد بقوا في الخفاء لمدة من الزمن في البداية،ولم يحضرهم بكر مع طليعة المقاتلين الذين معه من العراق مما بدا منطقياً. في الحقيقة حرصوا على منع المقاتلين العراقيين من القدوم إلى سوريا، وعملوا على ألا يجندوا عدداً كبيراً من السوريين، بل اختاروا أعقد الخيارات بقيامهم بجمع كل المتطرفين الأجانب الذين قدموا إلى المنطقة منذ صيف عام 2012: طلاب من السعودية، موظفون من تونس، طلاب تركوا الدراسة من أوروبا، جميعهم بلا خبرة عسكرية، ليشكلوا بهم جيشاً إلى جانب المقاتلين الشيشان والأوزباكستانيين الذين مروا بتجارب مشابهة متخذين من سوريا مركزاً لهم تحت قيادة عراقية.
ومع نهاية عام 2012 تم إنشاء معسكرات في أماكن عدة ، في البداية لم يعرف أحد لمن تنتمي تلك المجموعات، كانت المعسكرات منظمة بشكل صارم وكانت تحتوي على جنود جاؤوا من بلدان عدة ، ولم يكن أحد منهم يتحدث إلى الصحفيين، قلة منهم جاءوا من العراق، وكان القادمون الجدد يخضعون للتدريب لمدة شهرين، ويتم تدريبهم على الطاعة العمياء للقيادة المركزية. كان التنظيم سرياً وكان له أيضا ميزة أخرى،فعلى الرغم من أنه كان فوضوياً بالضرورة في البداية إلا أنه أخرج قواتاً تدين له بولاء تام، وكان الجنود الأجانب منهم لا يعرفون أحداً غير رفاقهم، ولم يكن لديهم أي سبب لإظهار الرأفة ويمكن إرسالهم لأماكن مختلفة، وكان ذلك يمثل تناقضاً صارخاً مع الثوار السوريين الذين كان تركيزهم الأكبر ينصب على الدفاع عن مدنهم وكان عليهم رعاية أسرهم والمساعدة في أعمال الزراعة. وفي خريف عام 2013 أظهرت سجلات الدولة الإسلامية 2,650 مقاتلاً أجنبياً في محافظة حلب وحدها،وشكّل المقاتلون التونسيون ثلث العدد الكلي، يليهم السعوديون فالأتراك فالمصريون، ثم، بأعداد أقل، يأتي المقاتلون الشيشان والأوربيون والأندنوسيون.
لاحقا أيضا، فاقت أعداد الثوار السوريون فريق الجهاديين بكثير، وعلى الرغم من انعدام ثقة الثوار بالجهاديين إلا أنهم لم يتعاونوا معهم لمحاربة الدولة الإسلامية لأنهم لم يرغبوا في المخاطرة بفتح جبهة ثانية. أما الدولة الإسلامية فقد عززت نفوذها عن طريق خدعة بسيطة، كان جنودها دوما يظهرون متخفين بأقنعة سوداء، ولم يكن ذلك يُظهرهم بشكلٍ مرعبٍ فقط، ولكن أيضاً لم يتمكن أحد من معرفة أعدادهم الفعلية، فعندما يظهر 200 محارب في خمس أماكن مختلفة واحداً تلو الآخر، فهل يعني ذلك أن لدى الدولة الإسلامية 1000 محارب؟ أم 500؟ أم أكثر من 200 بقليل؟ فضلا عن ذلك،كان الجواسيس دائماً حريصين على أن تكون قيادة الدولة الإسلامية على اطلاع دائم بمواطن ضعف السكان أو تفرقهم أو مواطن وجود صراعات محلية مما سمح لها أن تعرض خدماتها كقوة حامية من أجل الحصول على موطئ قدم.
الاستيلاء على الرقة
الرقة التي كانت مدينة خاملة تقع على نهر الفرات،قُدّر لها أن تصبح نموذجاً لغزو الدولة الإسلامية الكامل، بدأت العملية بمهارة، ثم أصبحت تدريجياً أكثر وحشية، وفي النهاية انتصرت الدولة الإسلامية على الخصوم الأكبر منها دون قتال.”لم نكن يوماً ضليعين في السياسة“ هذا ما ذكره أحد الأطباء الهاربين من الرقة إلى تركيا، ”كما أننا لم نكن متدينين ولم نكن نصلي كثيراً“.
عندما سقطت الرقة في أيدي الثوار في آذار 2013، تم انتخاب مجلس مدينة على الفور، نظم المحامون والأطباء والصحفيون أنفسهم، وتم إنشاء تجمعات نسوية، كما تم تأسيس”جمعية الشباب الحر”، وكذلك حركة “من أجل حقوقنا” والعشرات من المبادرات الأخرى،وكان أي شيء يبدو ممكناً في الرقة،لكن بنظر بعض من فروا من المدينة كان ذلك مؤشراً على بداية سقوطها.
وبحسب خطة (حجي بكر) فإن مرحلة التسلل تبعها التخلص من أي شخص يحتمل أن يكون قائداً أو خصماً، وكان أول من تم استهدافه هو رئيس مجلس المدينة الذي اختطف في منتصف شهر آيار 2013 من أشخاص مقنعين، تلاه اختفاء شقيق أحد الكتاب البارزين، وبعد ذلك بيومين اختفى أيضاً الرجل الذي قاد المجموعة التي رسمت علم الثورة على جدران المدينة.
وقد شرح أحد أصدقائه قائلاً “كان لدينا فكرة عن خاطفه ولكن لم يجرؤ أحد على فعل أي شيء”، وبدأ الخوف يسيطر على الأجواء، وبدءاً من شهر تموز اختفى العشرات ثم المئات من الناس، أحيانا كان يتم العثور على جثثهم، ولكنهم كانوا عادة يختفون دون أثر. وفي شهر آب أرسلت القيادة العسكرية للدولة الإسلامية سيارات عدة بقيادة انتحاريين لمقر لواء أحفاد الرسول التابع للجيش السوري الحر لتقتل بذلك عشرات المقاتلين وتدفع بمن تبقى منهم على قيد الحياة إلى الهرب، بينما اكتفى الثوار الآخرون بالنظر فقط، فقد عقدت قيادة الدولة الإسلامية شبكة من الصفقات السرية مع الألوية بحيث ظن كل لواء منهم بأن الدولة الإسلامية تستهدف الألوية الأخرى فقط بهجماتها.
وفي 17 تشرين الأول 2013 دعت الدولة الإسلامية القادة المدنيين كافة ورجال الدين والمحامين في المدينة إلى إجتماع، في ذلك الوقت ظن البعض أنها قد تكون إشارة للمصالحة، ومن بين الـ300 شخص الذين حضروا الاجتماع عبّر اثنان منهم فقط عن اعتراضهم على إستيلاء الدولة الإسلامية على المدينة وعمليات الاختطاف والقتل التي نفذتها. أحد هؤلاء كان يدعى (مهند حبايبنا) وهو ناشط في مجال الحقوق المدنية وصحفي معروف في المدينة، وبعد خمسة أيام من الاجتماع عثر عليه مكبلاً ومقتولاً برصاصة في رأسه، وقد استلم اصدقاؤه رسالة بالبريد الالكتروني من مصدر مجهول تحتوي على صورة جثته، وفيها عبارة واحدة:”هل أنت حزين على صديقك الآن؟“، وخلال بضع ساعات فر حوالي 20 عضواً قيادياً من المعارضة إلى تركيا، وهكذا انتهت الثورة في الرقة.
وبعد مدة قصيرة، تعهد 14 من زعماء أكبر القبائل بالولاء للأمير أبو بكر البغدادي،وكان هناك فيلم مصور عن تلك الاحتفالية، لقد كان شيوخ تلك القبائل نفسهم من تعهدوا بالولاء للرئيس السوري بشار الأسد قبل عامين فقط.
مقتل (حجي بكر)
حتى نهاية عام 2013 كانت كل الأمور تسير حسب خطة الدولة الإسلامية، أو على الأقل حسب خطة (حجي بكر) ، وسعت الخلافة رقعتها قرية تلو القرية دون أي مقاومة موحدة من الثوار السوريين، بالتأكيد،فلقد بدا الثوار مشلولين أمام قوة الشر للدولة الإسلامية.
ولكن عندما قام جلاوزة الدولة الإسلامية بتعذيب طبيب، هو قائد ثوري محبوب، بوحشية حتى الموت في شهر كانون الأول من عام 2013، حدث ما هو غير متوقع،إتحدت الألوية السورية العلمانية منها مع أجزاء من جبهة النصرة المتطرفة لمحاربة الدولة الإسلامية، وعبر هجومهم على الدولة الإسلامية، في وقت واحد وفي كل مكان، تمكنوا من سلب الإسلاميين تفوقهم التكتيكي وهو قدرتهم على تحريك الوحدات بسرعة حيثما كان هناك حاجة طارئة لها.
في غضون أسابيع تم طرد الدولة الإسلامية من مناطق واسعة في شمالي سورية،وحتى مدينة الرقة، عاصمة الدولة الإسلامية، كادت أن تسقط لولا وصول 1,300 مقاتل من الدولة الإسلامية من العراق،لكنهم لم يسيروا إلى المعركة ببساطة وإنما اتخذوا أسلوباً مخادعاً كما يذكر الطبيب الفار قائلاً”في الرقة كان هناك العديد من الألوية المتحركة بحيث لم يعرف أحد بالضبط من هم الآخرون، وفجأة بدأت مجموعة ترتدي ملابس الثوار بفتح النار على الثوار الآخرين، وهكذا فروا جميعهم ببساطة“.
تنكر بسيط ساعد مقاتلي الدولة الإسلامية على النصر، فقط خلعوا اللباس الأسود ولبسواالسراويل الجينز والسترات بدلاً عنه، وقد فعلوا الشيء نفسه في جرابلس، البلدة الحدودية، وفي مرات عدة عندما كان الثوار يحتجزون سائقين انتحاريين من الدولة الإسلامية في مواقع أخرى، كان السائقون يسألون بدهشة”أنتم سُنة أيضاً؟ لقد أخبرنا أميرنا أنكم كفار من جيش الأسد“.
عندما اكتملت الصورة،بدت منافية للعقل، فمن يدّعون بأنهم مطبقو إرادة الله على الأرض، يتوجهون لقهر امبرطورية عالمية مستقبلية، ولكن كيف؟ بملابس النينجا والحيل الرخيصة وخلايا جاسوسية مموهة لتبدو كأنها مكاتب تبشيرية. إلا أن الحيلة نجحت فقد حافظت الدولة الإسلامية على نصرها في الرقة وتمكنت من إعادة السيطرة على بعض المناطق التي خسرتها،ولكن ذلك النصر جاء متأخراً بالنسبة للمخطٍّط العظيم (حجي بكر).
بقي (حجي بكر) في مدينة تل رفعت الصغيرة حيث كان للدولة الإسلامية اليد العليا لمدة طويلة، ولكن عندما هاجمها الثوار في نهاية شهر كانون الثاني 2014 انقسمت المدينة خلال بضعة ساعات فقط، حيث بقي نصفها تحت سيطرة الدولة الإسلامية بينما انتزع النصف الآخر أحد الألوية المحلية، وقد علِق حجي بكر في النصف الخطأ، ولكي يبقى متخفياً امتنع عن الانتقال إلى أحد المقرات العسكرية المحمية التابعة للدولة الإسلامية. وعند ذلك، أصبح الأب الروحي للوشاية ضحية لها على يد أحد جيرانه الذي قال”شيخ داعشي يسكن في الجوار“، توجه على اثر هذه المعلومة قائد محلي يدعى عبد الملك حدبة ورجاله إلى منزل بكر، فتحت إمرأة الباب وقالت بفظاظة”زوجي ليس هنا“.
فردّ الثوار: ولكن سيارته مركونة هنا.
في تلك اللحظة ظهر (حجي بكر) أمام الباب بملابس النوم فأمره حدبة بمرافقتهم بينما طلب بكر بأن يسمح له بارتداء ملابسه، فرفض طلبه حدبة قائلا: تعال معنا حالاً!
وبرشاقة مفاجئة بالنسبة لسنه، قفز بكر للخلف وركل الباب فأغلقه، وذلك حسب رواية إثنين من شهود العيان، ثم اختبأ تحت الدرج وصرخ قائلاً ”أرتدي حزاماً ناسفاً وسوف أنسف الجميع“ ثم خرج حاملاً رشاش كلاشنيكوف وأخذ يطلق النار، حينها أطلق حدبة النار عليه وأرداه قتيلاً.
وعندما عرف الرجال لاحقاً هوية من قتلوا، قاموا بتفتيش المنزل وجمعوا كل الحواسب الآلية وجوازات السفر والهواتف الخليوية وشرائح الاتصال وجهاز تتبع المواقع والأهم من كل ما سبق هي الوثائق، ولم يعثروا على أية نسخة من القرآن في أي مكان من المنزل.
مات (حجي بكر) واعتقل الثوار زوجته، وفيما بعد قام الثوار بمبادلتها برهائن الدولة الإسلامية الأتراك بطلب من أنقرة ، وكانت وثائق بكر الثمينة مخبأة في غرفة بقيت فيها عدة أشهر.
مخبأ ثانٍ للوثائق
استمرت دولة (حجي بكر) بالعمل حتى من دون مؤسسها، وجاء اكتشاف ملف آخر ليؤكد دقة تنفيذ خططه نقطة بنقطة، عندما أجبرت الدولة الإسلامية على التخلي سريعاً عن مقراتها في حلب في كانون الثاني 2014 حاول مقاتلوها حرق الأرشيف الخاص بها ولكنهم واجهوا مشكلة شبيهة بتلك التي واجهها البوليس السري لألمانيا الشرقية قبل 25 سنة خلت، وهي أنهم يملكون الكثير من الملفات.
بعض الملفات بقيت سليمة وسقطت بأيدي لواء التوحيد الذي كان أضخم مجموعة ثورية في ذلك الوقت، وبعد مفاوضات مطولة وافقت الجماعةعلى تسليم الوثائق لشبيغل بحقوق نشرٍ حصرية،جميع الوثائق باستثناء قائمة بأسماء جواسيس الدولة الإسلامية داخل لواء التوحيد.
وأظهر فحص مئات الصفحات من الوثائق نظاماً بالغ التعقيد يتضمن التسلل ومراقبة كل المجموعات بما فيها أفراد الدولة الإسلامية، واحتفظ المسؤولون عن أرشيف الجهاد بقوائم طويلة تبين أسماء المخبرين الذين تم زرعهم في ألوية الثوار والميليشيات الحكومية، كما دونوا أيضاً أسماء جواسيس مخابرات الأسد بين الثوار.
”كانوا يعلمون أكثر مما نعلم، أكثر بكثير“، هذا ما ذكره أمين عهدة الوثائق، كان بين تلك الوثائق الملفات الشخصية للمقاتلين، وتشتمل على رسائل مفصلة وطلبات التحاق من مقاتلين أجانب مثل الأردني (نضال أبو عياش) الذي أرسل مراجعه الإرهابية كافة وأرقام هواتفهم ورقم ملف قضية جنائية مرفوعة ضده، كما تضمن طلبه أيضا هواياته وهي: الصيد والملاكمة وصنع القنابل.
أرادت الدولة الإسلامية معرفة كل شيء ولكن في الوقت نفسه كانت تريد خداع الجميع فيما يتعلق بأهدافها الحقيقية، فعلى سبيل المثال أحد التقارير المكون من صفحات عدة يحتوي على قوائم دقيقة بجميع الذرائع التي قد تستخدمها الدولة الإسلامية لتبرير استيلائها على مطحنة الدقيق شمالي سوريا. ويتضمن تبريرات مثل اختلاس مزعوم وأيضاً التصرفات الشاذة عن الدين للعاملين فيها، أما الواقع، الذي يتضمن فكرة أنّ المرافق المهمة استراتيجياً كافة مثل المخابز الصناعية وصوامع الحبوب والمولدات يجب الاستيلاء عليها وارسال معداتها لعاصمة الخلافة غير الرسمية في الرقة،فيجب أن يبقى سراً.
مرة بعد مرة، كشفت الوثائق عن النتائج المباشرة لخطط (حجي بكر) بالنسبة لتأسيس الدولة الإسلامية، مثلاً يجب السعي إلى الزواج من الأسر ذات النفوذ، كما تضمنت ملفات حلب قوائم لأربعة وثلاثين مقاتل يرغبون بالزواج فضلا عن احتياجات منزلية أخرى، فأبو لقمان وأبو يحيى التونسي، مثلاً، أشاروا إلى أنّهم يحتاجون لشققٍ، وأبو صهيب وأبو أحمد أسامة طلبا أثاث غرفة نوم، أما أبو البراء الدمشقي فطلب مساعدة مالية فضلا عن أثاث كامل، بينما طلب أبو عزمي غسالة اوتوماتيكية.
تبديل التحالفات
ولكن خلال الشهور الأولى من عام 2014 بدأت وصية أخرى من وصايا (حجي بكر) في أداء دور حاسم، وهي اتصالاته مع استخبارات الأسد التي دامت عقداً من الزمن.
أصيب نظام دمشق بالذعر في عام 2003 بعد انتصار الرئيس الأمريكي آنذاك (جورج دبليو بوش) على (صدام حسين) خوفاً من أن تكمل قواته مسيرها نحو سوريا للإطاحة بالأسد أيضاً. لذا نظّم ضباط الاستخبارات السورية على مدى السنوات اللاحقة نقل آلاف المتطرفين من ليبيا والسعودية وتونس إلى القاعدة في العراق، حيث دخل 90% من الانتحاريين إلى العراق عبر سوريا،فتطورت علاقة غريبة ما بين الجنرالات السوريين والجهاديين الدوليين والضباط السابقين العراقيين الذين كانوا يدينون بالولاء لصدام – مشروع مشترك لأعداء لدودين اجتمعوا مراراً غرب دمشق.
في ذلك الوقت، كان الهدف الأساسي هو تحويل حياة الأمريكيين في العراق إلى جحيم، وبعد عشر سنوات أصبح لدى (بشار الأسد) حافزاً مختلفاً يدعوه لإعادة التحالف إلى الحياة، فقد أراد أن يبدو أمام العالم أقل شرٍّ من عدة شرور، وكلما كان الإرهاب الاسلامي أكثر بشاعة كان أفضل، لذلك فهو أهم من أن يتركه بيد الإرهابيين. وعلاقة النظام بالدولة الإسلامية، كما كانت مع سلفها قبل عقد من الزمان، محددة ببراغماتية تكتيكية بالكامل، إذ يحاول كلا الطرفين استخدام الآخر على افتراض أن يبرز كقوة أعظم قادرة على دحر حلفاء الأمس السريين، وفي المقابل لم يمانع قادة الدولة الإسلامية الحصول على المساعدة من القوات الجوية للأسد على الرغم من كل تعهدات المجموعة بابادة الشيعة الكفرة. وقد بدأ سلاح الجو السوري في كانون الثاني 2014 بقصف مواقع الثوار ومقارهم بشكل منتظم وحصري خلال المعارك ما بين الدولة الإسلامية والثوار.
وخلال المعارك ما بين الدولة الإسلامية والثوار، في كانون الثاني 2014، كانت طائرات الأسد تقصف بانتظام مواقع الثوار فقط بينما كان أمير الدولة الإسلامية يأمر مقاتليه بالامتناع عن إطلاق النار على الجيش. لقد كان ترتيباً أصاب العديد من المقاتلين الأجانب بالذهول، فقد كانوا يتخيلون الجهاد بشكل مختلف.
وقد ألقت الدولة الإسلامية بكامل ترسانتها على الثوار وأرسلت من الانتحاريين إلى صفوفهم خلال بضعة أسابيع أكثر ممن أرسلتهم خلال السنة السابقة بأكملها إلى صفوف الجيش السوري، وبفضل المزيد من الغارات الجوية تمكنت الدولة الإسلامية من إعادة غزو المناطق التي خسرتها لمدة بسيطة.
لا شيء يمثّل التحول التكتيكي للتحالفات أكثر من مصير الفرقة 17 في الجيش السوري، فلقد كانت قاعدتهم المنعزلة قرب الرقة تحت حصار الثوار منذ أكثر من عام، لكن وحدات الدولة الإسلامية دحرت الثوار هناك واستعادت قوات الأسد الجوية قدرتها على استخدام القاعدة لتموين طلعاتها دون خوف من الهجوم.
ولكن بعد نصف عام، عندما سيطرت الدولة الإسلامية على الموصل واستحوذت على مخزن ضخم للأسلحة هناك، شعر الجهاديون بالقوة الكافية لمهاجمة من ساعدوهم في السابق، واقتحم مقاتلو الدولة الإسلامية الفرقة 17 وقتلوا الجنود الذين كانوا يحمونهم منذ مدة قريبة.
ما يمكن أن يحمله المستقبل:
إنّ الانتكاسات التي عانتها الدولة الإسلامية خلال الشهور القليلة الماضية كالهزيمة في كوباني الكردية وخسارة مدينة تكريت العراقية أعطت الانطباع بأنّ نهاية الدولة الإسلامية قد قربت، وكأنها في جنون عظمتها قد تمددت لأكثر من طاقتها وفقدت بريقها وهي الآن تتراجع وستختفي قريباً،لكن تفاؤلاً مثل هذا هو على الأغلب سابق لأوانه،فقد تكون الدولة الإسلامية قد فقدت العديد من مقاتليها، إلا أنها استمرت بالتوسع في سوريا.
صحيح أن تجارب الجهاديين في حكم منطقة جغرافية معينة قد فشلت في الماضي، إلا أن ذلك كان في معظمه يعود إلى قلة خبرتهم في إدارة منطقة أو حتى دولة، وهذه بالضبط هي نقطة الضعف التي أدركها استراتيجيو الدولة الإسلامية منذ مدة طويلة وتخلصوا منها. ففي دولة الخلافة بنى القادة نظاما أكثر استقراراً ومرونة مما يبدو عليه من الخارج.
قد يكون (أبو بكر البغدادي) هو القائد الرسمي إلا أنه من غير الواضح مدى النفوذ الذي يتمتع به، فعلى أي حال، عندما قام مبعوث (أيمن الظواهري) بالاتصال بالدولة الإسلامية، فانّه اتصل (بحجي بكر) وضباط استخبارات آخرين وليس بالبغدادي، وقد تذمرالمبعوث لاحقاً من “تلك الأفاعي المزيفة التي تخون الجهاد الحقيقي”.
يوجد داخل الدولة الإسلامية هياكل دولة، وبيروقراطية، وسلطات، لكن هناك أيضاً تركيب قيادة موازي، مثلاً، وحدات النخبة إلى جانب القوات العادية، قادة آخرون إلى جانب قائد الجيش الصوري (عمر الشيشاني)، سماسرة السلطة الذين بمقدورهم نقل أو تخفيض رتبة الأمراء الإقليميين وأمراء البلدات أو حتى التخلص منهم حسب الرغبة.فضلا عن ذلك، لا يتم اتخاذ القرارات، في العادة، في مجالس الشورى التي تعد أعلى السلطات التشريعية،وإنما تتخذ القرارات من “أهل الحل والعقد”، وهي مجموعة سرية اتخذت إسمها من إسلام العصور الوسطى.
بإمكان الدولة الإسلامية التعرف على جميع أشكال التمرد الداخلي وقمعها، وفي الوقت نفسه يفيد نظام المراقبة المحكم في الابتزاز المالي للخاضعين للمراقبة.
قد تكون الغارات الجوية بقيادة الولايات المتحدة نجحت في تدمير حقول ومصافي النفط،لكن لا أحد يحول دون قيام السلطات المالية للدولة الإسلامية باستنزاف أموال الملايين من الأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرتها بوساطة الضرائب والرسوم الجديدة أو ببساطة عبر مصادرة الممتلكات، فالدولة الإسلامية تحيط علماً بكل شيء عبر جواسيسها، ومن البيانات التي اختلستها من البنوك ومكاتب تسجيل العقارات ومكاتب تصريف العملات، وهي على علم بمن يملك أي بيوت وأي حقول، وتعرف من يمتلك الخراف أو الكثير من المال. قد لا يسر ذلك الناس لكن لا توجد هناك مساحة كافية لتنظيم صفوفهم وحمل السلاح والتمرد.
وبينما يركز الغرب أنظاره على احتمالات الهجمات الإرهابية لم يعط سيناريو آخر حقه من الاهتمام، وهو الحرب الداخلية بين المسلمين السنة والشيعة، اذ قد يسمح هذا النزاع للدولة الإسلامية بأن تتحول من منظمة إرهابية مكروهة إلى قوة مركزية.
لقد وقعت، بالفعل، الجبهات في كل من سوريا والعراق واليمن في هذا الشرخ الطائفي حيث يقاتل الأفغان الشيعة الأفغان السنة في سوريا، وتستفيد الدولة الإسلامية في العراق من همجية الميليشيات الشيعية الوحشية. وفيما لو استمر هذا النزاع الإسلامي العتيق بالتصاعد فإنه قد ينتقل إلى دول متعددة الطوائف مثل السعودية والكويت والبحرين ولبنان.
في هذه الحالة من المحتمل أن تتحول دعاية الدولة الإسلامية حول قرب علامات الساعة إلى حقيقة، وفي مجراها هذا، قد تتأسس دكتاتورية مطلقة باسم الله.
رابط المصدر :