تعد ليبيا من الحالات التي تميز الدول الفاشلة. ويعتبر كثير من الباحثين أن انهيار نظام معمر القذافي، كان يمثل فرصة واعدة لليبيا كي تتحول الى نظام ديمقراطي مستقر. فلدى ليبيا موارد نفطية هائلة تضعها في المرتبة التاسعة عالمياً، وكانت قدرتها التصديرية تصل الى مليون ونصف برميل من النفط، وثلاثة مليارات متر مكعب من الغاز يومياً ومع تعداد سكان يصل الى ما يقارب الست ملايين نسمة.
ولكن مع استمرار الصراع الداخلي، فإن ليبيا بدأت تتجه إن لم تكن قد تحولت بالفعل إلى دولة فاشلة. فالصراعات تتوزع على أسس محلية وعشائرية واثنية ووطنية ودينية، بل وأصبحت تتحرك حسب تنازع النفوذ الاجنبي في ليبيا، الذي بدأ يأخذ اشكالاً أكثر خطورة مما مضى في تغذية الاقتتال الليبي-الليبي.
بدأ الصراع يؤثر على حياة الليبيين بشكل خطير، ومع ارتفاع أعداد الضحايا الى عدة آلاف، وتشرد ما يقارب ربع مليون نسمة، فإن إمكانية التفاؤل بمستقبل مزدهر للبلد لا تبدو كبيرة.
ينقسم البلد حالياً بين برلمانين متنازعين. “مجلس النواب”، الذي يصنف على أنه منتخب ديمقراطياً ويتخذ مقره في مدينة طبرق ويترأسه عقيلة صالح. و”المؤتمر الوطني العام” الذي انتهت صلاحية تفويضه منذ فترة ليست بالقصيرة، الذي يسيطر عليه الاسلاميون ويستقر في مدينة طرابلس ويتراسه نوري بوسهمين. وقد عين كل برلمان حكومة لليبيا برئاسة رئيس للوزراء، بما في ذلك قادة للأركان لقواتها المسلحة. وتعترف الامم المتحدة، والولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا بـ”مجلس النواب” الذي شكل حكومة يتراسها عبدالله الثاني، بينما تقاطع تركيا “مجلس النواب” وتدعم بشدة “المؤتمر الوطني العام.”
الحرب الأهلية الليبية
شهد عام 2014 تطوراً سيئاً للأوضاع الأمنية في ليبيا الى درجة أنها أصبحت تصنف على أنها حرب أهلية. ففي الشمال الغربي تنتشر مجاميع إسلامية في مناطق مصراتة، وقد احتدم الصراع بين تلك المجاميع وحلفائها من جهة وبين المجاميع المعادية لها من القوميين العرب بقيادة مقاتلين من الزنتان وحلفائهم القبليين. وقد ادى الصراع الى تدمير مطار طرابلس الدولي. أما في منطقة خليج سرت وطبرق، والتي تمثل العمق النفطي لليبيا، فقد فرض الفيدراليون من الأمازيغ في وقت سابق حصاراً على تصدير النفط للضغط على حكومة طبرق من أجل حصولهم على استقلال اكبر في مناطق برقة الشرقية. وفي جنوب شرق خليج سرت تتمركز جماعات انصار الشريعة في سرت، درنة وبنغازي. وتتحالف مع انصار الشريعة جماعات جهادية أخرى، حيث تمكنت من احتلال مدينة بنغازي. وتخوض هذه الفصائل معارك مع قوات يقودها الجنرال حفتر، الذي يقاتل ببقايا قوات أمنية من العهد السابق. ومع انهيار الدولة، فقد غدت حدود ليبيا البرية مفتوحة على مصراعيها، خاصة من جهة الجنوب أمام القوى المتطرفة. وتصل مسافة الحدود البرية لليبيا الى ما يقارب 4000 كم، بينما تصل الحدود البحرية الى 2000 كم، بمحاذاة السواحل الأوروبية من جهة الجنوب مما جعلها معبراً مفضلاً للاجئين من القارة الافريقية تجاه السواحل الإيطالية. ويبدو أن الصراع الليبي-الليبي والتدخلات الأجنبية في اذكائه قد جعل البلاد واحدة من أخطر مناطق العالم كملاذ آمن أو مصدر للارهاب الذي يتبنى الفكر السلفي في منطقة الشرق الأوسط، أفريقيا وأوروبا. وتشير تقارير غربية بأن تنظيم داعش قد بدأ يستمكن في الأراضي الليبية.
التدخل الخارجي في الشأن الليبي
مع تصاعد احتمالات دخول ليبيا في وضع الدولة الفاشلة، فإن شهية بلدان الاقليم بدأت تنفتح على مواضع النفوذ والتدخل في الشأن الليبي. وتتبنى بعض بلدان المنطقة سياسة تتعامل مع ليبيا على أنها قضية تخص الأمن القومي لها. ويبدو أن مصر والجزائر تتحرك باتجاه انشاء مناطق نفوذ لهما على الحدود الشرقية والغربية لليبيا. خاصة بعد التحاق تنظيم مجلس شورى الشباب الاسلامي بتنظيم داعش المتمركزة في اطراف بنغازي. حيث قامت الطائرات المصرية بقصف مواقع في بنغازي في عدة مناسبات، كان آخرها بعد إقدام تنظيم داعش مؤخراً على إعدام رهائن مصريين من الأقباط، بالاضافة الى قيام قوات خاصة مصرية وإماراتية بتدمير معسكر لتدريب جماعات متطرفة داخل الأراضي الليبية. فيما يتركز التدخل الجزائري على الأساليب المخابراتية، والتمييز بين الاسلاميين المسالمين وغيرهم ممن يتبنون العنف. ويترقب المتابعون للشأن الليبي بحذر مسار تطورات الأحداث غرب ليبيا، وفيما لو تمكنت داعش من ايجاد بؤر لها تستهدف الجزائر من تلك الأنحاء. وفي الوقت نفسه تقوم كل من قطر وتركيا بمساندة القوى الاسلامية في مصراتة التي يطلق عليها “فجر ليبيا”، بينما تقوم مصر، الامارات والسعودية بدعم قوات حفتر المضادة للاسلاميين المتشددين.
حسب تقارير صحفية، فإن الدعم التركي للجماعات الاسلامية المسلحة في ليبيا يبدو أكبر مما كان متوقعاً. فقد كشفت تلك التقارير عن ضبط اليونان لشحنة اسلحة اوكرانية تحوي 20 الف بندقية كانت على متن سفينة تركية متوجهة الى ميناء درنة الليبي. بالاضافة الى عدة حالات أخرى تتضمن تهريب أسلحة ومعدات قتالية الى الاسلاميين وبجهود تركية سواء عبر البحر المتوسط أو عبر السودان. والأخطر من ذلك أن تركيا تقوم بتوفير ملاجئ لأعضاء الجماعات الاسلامية المسلحة في ليبيا، حيث كشفت تقارير بأن “محمد الزهاوي” أحد قادة تنظيم أنصار الشريعة المتطرف قد توفي اثر جراح اصيب بها في إحدى المستشفيات التركية عندما كان يخضع للعلاج، وأن السلطات التركية أعادت جثته إلى مصراتة ليدفن هناك.
دور الأمم المتحدة
تم تعيين ممثل خاص للأمم المتحدة في ليبيا في 1/9/2014 ليترأس بعثة الدعم في ليبيا (UNSMIL) وذلك بهدف مساعدة ليبيا على ادارة التحول الديمقراطي، وتعزيز سيادة القانون ورصد حماية حقوق الإنسان، واستعادة الأمن العام، والتصدي للانتشار غير المشروع للأسلحة، وتنسيق المساعدات الدولية وبناء القدرات. ولم تفلح جهود البعثة لحد الآن في وضع مقاربة تحل الصراع الليبي-الليبي، وآخرها الاجتماع الذي عقد في المغرب في 22/3/2015، الذي على ما يبدو لم يتوصل الى نتائج مهمة في هذا الاتجاه.
الاستفادة من الاخفاقات الليبية والعراق
ومع أن ليبيا كانت من المصدرين المهمين لقيادات ومقاتلي القاعدة وداعش في العالم والعراق. ولكن عراقياً فإن التجربة الليبية الحالية تمثل مثالاً على ما يمكن أن تؤدي إليه الانقسامات السياسية والأثنية والقبلية والتدخلات الخارجية في بلد غني بالموارد الطبيعية. إذ ما أن تندلع شرارة الحروب الأهلية، فإن ديناميكية تلك الحروب تكون هي المحرك الأساس والموجه للمواقف والأهداف والنتائج. وأخطر ما يمكن أن يحدث أن تكتشف القوى الخارجية مكامن الضعف في المجتمعات لتحولها إلى مسائل تتعلق بقضايا أمنها القومي ومصالحها الوطنية، وأن تتحول البلدان المنكوبة الى ساحة صراع بالنيابة عن الآخرين.
هنالك بعض أوجه التشابه من حيث المبدأ بين العراق وليبيا، فكلا البلدين كان يقاد من نظام استبدادي ومتفرد لمدة طويلة من الزمن، والبنية السياسية هشة ومتحركة، وهنالك أخطاء كبيرة ارتكبتها السلطات الليبية التي تشكلت بعد سقوط القذافي في محاولتها وضع حلول مستعجلة لمشاكل انهيار الأمن، ومنها السماح بتشكيل جماعات مسلحة تعمل بشكل شبه مستقل عن الدولة وبما يخدم اجندات سياسية. وهنالك بيئة جيوسياسية للبلدين تتداخل فيها مصالح البلدين مع مصالح البلدان الأخرى، وهنالك البيئة الاجتماعية التي تمتلك الاستعداد للاحتراب الداخلي، بعيداً عن المسميات والأسباب، والأخطر من ذلك الثروات الطبيعية الهائلة من النفط والغاز.
لا يمكن استبعاد أن يتم استنساخ النموذج الليبي في العراق، وهو نموذج الاستقطاب على اساس مشروعية وتفويض ممارسة الحكم مع الاستفادة من خطوط الانقسامات السياسية والاجتماعية. ومع أن العراق بلد يسير في افق تجربة ديمقراطية تعطي وضوحاً للسلطة، إلا أن بعض التحركات التي يراقبها المحللون في العراق تشي بوجود مؤشرات على مثل هذا النوع من السيناريوهات. فمع خروج الموصل وأجزاء كبيرة من العراق عن سلطة الحكومة ووقوعها تحت تنظيم داعش، والمطالبة بتأسيس جيوش رديفة للقوات المسلحة العراقية يقودها سياسيون على أسس طائفية، وعرقية ومناطقية، ودينية، وتزايد المطالب باعلان اقاليم مع عدم وضوح رؤية واتفاق يؤكد سلامة البيئة السياسية التي تضمن توحيد العراقيين ضمن بلدهم أوحتى أقاليمهم. وتصاعد النزاعات على الأموال المستحصلة من بيع النفط، والاتهامات بسوء توزيع الثروة على اساس عادل بين العراقيين، والتدخلات الاقليمية والدولية، واستشراء الفساد مع استمرار حلقة العنف. كلها ترشح نشوء جيوب سلطة، كل يسعى الى تثبيت مشروعيته وتثبيت سلطته في مقابل سلطة الدولة ووفق مقاييسه الخاصة وبدعم من هذا البلد أو ذاك. كل ذلك يجعل العراق مرشحاً لأن يستنسخ التجربة الليبية وبشكل أكثر خطورة ودموية.