بقلم منقذ الداغر
العديد من العراقيين السنّة يعيشون الآن تحت سيطرة الدولة الاسلامية، أو (داعش) كما هو متعارف عليها باللغة العربية، وإنّ أيّ حملة لدحر الدولة الاسلامية تعتمد على فهم ما يتطلبه تحفيز أولئك المحصورين تحت ظل وحشية الدولة الاسلامية للعب دورٍ رئيسي في دحرهم، كما فعلت “الصحوة” مع القاعدة في العراق عندما طردتهم إلى خارج محافظة الأنبار عام 2007. إنّ الحصول على معلوماتٍ مفصّلة من استطلاع للآراء العامة لمدة عقدٍ من الزمن، من الممكن أن يساعد في تفسير سبب تهاون الكثير من السنّة العراقيين مع الدولة الاسلامية في هذه المرحلة، وكذلك يفسّر سبب استعدادهم لدعم الجهود الرامية إلى طردهم.
لقد قامت شركتي المختصة بالبحوث والتسويق (IIACSS) باجراء استطلاعات مكثّفة للآراء في جميع أنحاء العراق على مرّ عقدٍ من الزمن، بلغ مجموعها أكثر من مليون مقابلة، وتُجرى هذه المقابلات بشكلٍ شخصي مع أشخاص بعمر 18 عاماً أو أكثر، باستخدام منهجية الاحتمالات العشوائية، ومنذ تقدم الدولة الاسلامية في العراق عام 2014، أجرينا مقابلاتٍ إضافية مع قادة العشائر والمجتمع في مناطق تقع تحت سيطرة الدولة الاسلامية بالاضافة الى مقابلات أجريناها عبر الهاتف في الموصل بعد سقوطها. كذلك أجرينا أربعة دراساتٍ وعشرة مقابلاتٍ معمّقة في النصف الثاني من عام 2014 للتحقيق في مسألة الدولة الاسلامية في العراق. أمّا إقليمياً، فلقد أجرينا ثلاث جولات من الاستطلاعات وجهاً لوجه في ليبيا، وجولتان في سوريا تتضمن كل واحدة على أكثر من ألف مقابلة. إعتمدت بحوثنا على أسس جوهرية، وفي هذا الموضوع، لا نظير لها في العراق، وأشارت نتائج دراساتنا إلى أنّ الدولة الاسلامية غير متوافقة فكرياً مع الكثير من سكان المناطق التي تحتلها الآن، لكنها قادرة على استغلال الاستياء العميق للسكان من الحكومة الحالية لصالحها.
على الرغم من إدعاء الدولة الاسلامية بأنها تمثل الصوت الحقيقي للاسلام، إلا أنّ الدين لم يكن عاملاً رئيسياً في صعودها، على الأقل في العراق، لكن العامل السببي الأكثر أهمية، على الأغلب، هو السخط العميق الذي شعر به السنّة تجاه الحكومة العراقية المركزية، ففي عام 2013، تسبب الغضب الشعبي تجاه معاملة السكان السنّة في محافظتي الأنبار والتأميم (كركوك) بمظاهرات سلمية، بالضبط قبل بضعة أيام قبل أن تحتل الدولة الاسلامية الموصل في حزيران 2014، وقال 91% من الأشخاص الذين أجرينا عليهم إستطلاعاً أن الأمور في العراق كانت تتجه بالاتجاه الخاطئ، في المقابل، 60% من العراقيين، و55% من الشيعة قالوا نفس الشيء.
إنّ بحوثنا لا تجد شكاوى دينية مماثلة، فلقد قمنا خلال بحوثنا في IIACSS بسؤال جميع الأشخاص الذين أجرينا عليهم استطلاعاً إن كانوا يعتقدون أنّ من اللازم أن تكون الدولة والدين بيد سلطة مركزية واحدة أو أن يكونا منفصلين، فقال أكثر من نصف المشاركين، على مدى العقد الماضي من البحث، أنهم يعتقدون أنّ الدين والدولة يجب ان يكونا منفصلين عن بعضهما، بتعبيرٍ آخر، إنّ هدف الدولة الاسلامية في تأسيس دولة الخلافة وفرض الشريعة لا يتوافق مع المعتقدات السياسية للسكان الذين تحكمهم، لذا فانها تفرض نظاماً يرفضه جزء كبير من الناس في تلك المناطق.
إن لم تكن الأسباب دينية، فهل يقبل أولئك العراقيون، الذين هم تحت سيطرة الدولة الاسلامية، بأسيادهم الجدد لأنّ الدولة الاسلامية توفّر نوعيةً من الخدمات الاجتماعية أو الوظائف أفضل من تلك التي كانت متوفرة لديهم؟ حزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، أمثلة جيدة لذلك، فكلا المنظمتين حصلت على تأييدٍ سياسي مميز خلال العقد الماضي لتوفيرهما خدمات إجتماعية فشلت في توصيلها السلطات الحاكمة (سواءاً بسبب اللامبالاة أو الفساد أو عدم النجاح) إلى المواطنين. لكن رغم ذلك، يشير بحثنا إلى أنه لم يكن هنالك فجوة في توفير الخدمات بين الشيعة والسنّة، فانّ المعدلات الأساسية لقناعة العراقيين الشيعة والسنّة بالخدمات، مثل الكهرباء وماء الشرب والمجاري، متساوية بشكلٍ منصف. نفس الشيء فيما يخص التعيينات في الوظائف الحكومية، فلا يوجد هنالك تفاوت كبير بين معدلات تعيين السنّة والشيعة في العراق.
لكن الأمر يختلف في مجاليّ الأمن والعدل، التي شعر فيهما العراقيون السنّة بالحرمان من قبل الحكومة المركزية، فمن بين السنّة المشاركين في الاستطلاع من جميع أنحاء البلد، 60 بالمائة لا يثقون بالنظام القضائي، في حين أنّ 30 بالمائة فقط من الشيعة المشاركين يحملون نفس النظرة. قبل إسبوع من سقوط الموصل بيد الدولة الاسلامية، 80 بالمائة من المشاركين السنّة في المدينة قالوا أنّهم لم يكونوا يشعرون بالأمان في مناطقهم، بالمعنى الأشد، يمكن أن تُعتبر الدولة الاسلامية حلاً (إن لم يكن حلاً مثالياً) لتلك العِلل، فكما يُظهر المخطط التالي، خلال السنوات الأربع الماضية، كان هنالك انحدار مستمر بشكل ثابت في الشعور بالأمان بين أوساط السنّة مقارنةً بالشيعة الذين شعروا بالأمان في مناطقهم:
نسبة المشاركين الذين يشعرون بعدم الأمان في الموصل وصلاح الدين
بين عاميّ 2013 و2014، قبل وصول الدولة الاسلامية، تُظهر استطلاعاتنا زيادةً حادةً بمقدار 60 نقطة بين أوساط السنّة الذين لم يشعروا بالأمان، وعلى ما يبدو، أنّ هذه الطفرة نتجت عن التهديد الذي نظروا إليه من قبل الميليشيات الشيعية في الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية عام 2014. أما السؤال حول كيفية شعورهم اليوم حول أمنهم الشخصي فيستحق استطلاعاً منفصلاً، لكن من الأسلم أن نفترض أنّ أساس وجوهر الخوف قد تغير مع انتزاع الدولة الاسلامية للسلطة في تلك المناطق من الحكومة العراقية.
مع ذلك، فانّ أولئلك الذين هم تحت حُكم الدولة الاسلامية اليوم سيكونون سعداء لرؤية هذه المجموعة تُطرد، ففي المحافظات العراقية ذات الأغلبية السكانية السنيّة، وجدنا أنّ أكثر من 90 بالمائة من السكان الذين شملهم الاستطلاع يرون الدولة الاسلامية منظمةً إرهابية، و80 بالمائة منهم يؤيدون جهداً دولياً لازالتها، وهذا التأييد لتحالفٍ دولي يُحفزه، على الأغلب، نقص الثقة بقوات الأمن العراقية، التي كان تقييمها منخفضاً جداً قبل أن تجتاحهم الدولة الاسلامية في خمس محافظات، ونقص الثقة هذا مرتبطٌ بالاحساس بأنّ أي تأثير غير متكافئ من أي بلد، مثلاً إيران التي ينظر اليها الكثير من العراقيين السنّة بشبهة كبيرة، يمكن أن تزيد من مساوئ الظلم الذي واجهوه في السابق، فالعراقيون السنّة يتوقون اليوم إلى التوازن.
إذا كانت الرغبة الواضحة لقبول بديل متطرف وعنيف، كالدولة الاسلامية، لا تستند على الدين ولا على الفقر أو نقص الخدمات، فأيُّ عاملٍ يمكن أن يكون مسؤولاً عن هذا المستوى من السخط الشعبي على حكومتهم الشرعية؟ نهج الخطأ والصواب الذي انتهجناه وجد أن هنالك سلّة ثالثة تتميّز بنقص الثقة بالحكومة، والمشاعر العميقة بانعدام العدالة، وتنامي مصدر العُزلة الذي يؤدي بالتالي إلى نكران الهوية الوطنية، وبالتالي فانّه من غير المفاجئ أنّنا وجدنا انحداراً لدى المشاركين الذين يقولون أنهم “عراقيون فوق كل شيء”، نزولاً من 80 بالمائة عام 2008 إلى فقط 40 بالمائة عام 2014.
وذلك الاحساس عميق خصوصاً عند السنّة، الذين كان العقد السابق بالنسبة لهم إنحداراً تدريجياً، فقبل الغزو الأميركي عام 2003 كان السنّة يمسكون بمناصب رئيسية في الحكومة وكانوا مسيطرين على فيالق الجيش، أمّا تحت الاحتلال الأميركي، فلقد تم تطبيق سياسة إجتثاث البعث بشكلٍ واسع والتي حرمت مئات الآلاف من السنّة من وظائفهم التي كانوا مؤهلين جداً لها، وأدّت هيمنة الأحزاب السياسية الشيعية، ذات التوجهات الدينية، على الحكومة العراقية بعد انتخابات عام 2005، إلى توزيع الغنائم التي استثنت السنّة. وأكثر من ذلك، فانّ مسوّدة الدستور الجديد في ذلك العام، والذي ألقى بلوم مشاكل العراق السابقة على السنّة، استمر باعطاء حالة خاصة لرجال الدين الشيعة في نفس الوقت الذي أضفى فيه طابعاً مؤسساتياً لاجتثاث البعث.
في انتخابات عام 2010، بالرغم من فوز تحالف علماني يقوده أياد علاوي بمقاعد أكثر في البرلمان من التي حصل عليها التحالف الحاكم بقيادة نوري المالكي، فانّ مساومات ما بعد الانتخابات صبّت في مصلحة تحالف المالكي وأبقته في السلطة، وهذه النتيجة ساهمت بزيادة الاحساس بالظلم في اوساط الكثيرين من السنّة في المجتمع العراقي، وعندما ردّت حكومة المالكي على المظاهرات السنية السلمية بعنف عام 2013، فانّ تلك كانت بالضبط القشّة التي قصمت ظهر البعير.
إنّ دحر الدولة الاسلامية في العراق يتطلب تغيير الظروف على الأرض التي تحت أقدامهم، وذلك يعني معالجة الشروط المسبقة التي أدّت إلى مقاومة قليلة كهذه لقدومهم. في أقل من سنة، شاهد العالم كيف تتم معاملة العراقيين بكافة طوائفهم تحت حكم الدولة الاسلامية، وإنّ تدمير متحف الموصل والمواقع الآشورية القديمة يضرب ما تبقى من الهوية الوطنية العراقية تماماً كما أشعل تدمير مسجد العسكري في سامراء عام 2006 لهيب التوترات الطائفية. ولكي يقف العراقيون معاً ويطردوا الدولة الاسلامية من بلدهم، فإنّهم يحتاجون إلى سببٍ للاعتقاد بأنّ الأمور لن تعود إلى الوضع الراهن غير المرغوب. من الناحية العملية، هذا يعني القيام بعملية إصلاحٍ جدية للمؤسستين العسكرية والقضائية في الحكومة العراقية، وايجاد طريق واقعي للهوية الوطنية التي تضم جميع العراقيين.
رابط المصدر :