نشر ثلاثة باحثين أكاديميين متخصصين بشؤون الأزمات الدولية والأمن خلاصة بحوث ميدانية أجروها لسنوات عدة لمراقبة الأوضاع التي تنشط فيها الجماعات الخارجة عن القانون ومن بينها الإرهابية كداعش. حيث ذكر كل من الي بيرمان، وجوزيف فلتر وجاكوب شابيرو في خلاصتهم المعنونة ” الأسلوب الأمثل لإنهاء داعش” والتي نشرت في 27 / 2 / 2015 ما يلي:
يقوم تنظيم داعش بالتحرك على الأرض على وفق ثلاثة أساليب، فهو من خلال عرضه أساليب وحشية في القتل والانتقام يسعى لتحشيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين أصحاب الإمكانيات، وفي الوقت نفسه فإن التنظيم منخرط في حرب عصابات ضد القوات العراقية، وأيضاً بحرب مشاة تقليدية ضد قوات البيشمركة الكردية وقوى الجيش السوري الحر. ويطرح هذا التنوع في التكتيكات أسئلة عن نوع الحرب التي يواجهها العالم.المشكلة في الحرب ضد داعش، أنها لا توجد بها حدود جغرافية ولا يوجد فيها حلفاء ملتزمون بشكل مطلق. وذلك على عكس ما تتبناه إستراتيجية اوباما لمحاربة التنظيم.
إذ إن الحقيقة تقول إن الحرب ضد داعش هي حروب عدة ضد عدو واحد، مع جبهات مفتوحة عابرة للدول والحدود متحركة بالتزامن مع شبكة معقدة من التوجهات السياسية المختلفة. مما يعني أن هذه الحرب لا يمكن تصنيفها على أنها حروب بين الدول أو أنها عابرة للدول. وهذا يعني أن دور الحلفاء المحليين في هذه الحرب وأحياناً الأهداف المحدودة لهؤلاء الحلفاء تعتبر ذات تأثير كبير فيها. وخلال خمسة أعوام قام الباحثون بدراسة تعقيدات الأزمة العابرة للأمم على الأرض وبشكل أكاديمي وقد أدخلوا أغلب العوامل المؤثرة في هذه الأزمة وقد تم التوصل إلى بعض النتائج المهمة التي قد تنفع الولايات المتحدة وحلفاءها لصياغة استراتيجيات أفضل لمواجهة التنظيم.
الأزمة العابرة للبلدان: انعدام التناسق والمعلومات
الأزمات العابرة للبلدان ليست أمراً جديداً.فمحاولة نابليون للاستيلاء على شبه الجزيرة الأيبيرية، جعلته يخوض غمار حروب كثيرة ولكن صغيرة، أو كما أطلق عليها الأسبان حروب العصابات. وبعد قرن من الزمن، عندما تنازلت اسبانيا عن الفلبين للولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة دخلت في حروب لثلاثة أعوام ضد مجاميع متمردة، وحتى بعد انتهاء الأزمة عام 1902 ، إلا أن العنف استمر لعقود من الزمن. أما على الجبهة الشرقية، وأثناء الحرب العالمية الثانية، فإن جيوش هتلر خاضت حروباً ضد تمرد متنوع بما في ذلك في شبه الجزيرة اليوغسلافية. وقد قامت الحكومة البولندية السرية وجيش التمرد إلاوكراني بحروب ضد السوفييت.
تشير الدراسات إلى أن الفرق بين الأزمات المتناسقة واللامتناسقة العابرة للدول يكمن في أن الحروب الأهلية المتناسقة تعني انخراط أطراف متساوية القدرات في صراع من أجل السيطرة على الأراضي. وكانت المراحل الأخيرة من الحرب الفيتنامية على سبيل المثال تجري حول جبهات محددة بشكل جيد كما هي الحروب بين الدول، وتم تحقيق النصر غالباً من خلال استجماع التفوق في التسليح والعدد والإستراتيجية.لكن الأزمات غير المتناسقة تبنى على قليل من الأزمات العابرة للدول. فكل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ الحرب الكورية، عدا حرب الخليج الأولى، كانت غير متناسقة، وعابرة للدول. وعلى الأرجح ستكون الأمور هكذا نظراً للتفوق التكنولوجي والجيو سياسي الذي تمتلكه الولايات المتحدة. إذ يستطيع الطرف الأقوى السيطرة على الأرض متى شاء ذلك. ولكن يتركز الصراع في الحروب غير المتناسقة على الاحتفاظ بالأراضي وإدارتها والى احتلالها فقط. وأهم فرق هو أن السكان المدنيين يعتبرون عاملاً حيوياً لتحقيق الانتصار في الحروب غير المتناسقة على عكس المتناسقة.
وفي العراق من 2004 – 2010 تمكن المتمردون من شن هجمات بأشكال مختلفة حالما تمكنوا من الحصول على دعم من السكان. وقد منع ذلك الحكومة العراقية من بسط سيطرتها على تلك المناطق. ولكن متى ما بدأ السكان المدنيون بالتعاون مع الحكومة في تحديد المتمردين، أصبح من السهل ضربهم. إذ أن تدفق المعلومات الموثوق بها من قبل المدنيين كان شرطاً لتحقيق الانتصار.
إن التفوق في الحصول على المعلومات يعتبر أحد الدروس التي تم تعلمها من خلال البحوث التي تم إجراؤها. الدرس الثاني المهم هو أن في الحروب غير المتناسقة، فإن حصول أي تغير ولو كان صغيراً في تدفق المعلومات يمكن أن يحقق نتائج مهمة. وهذه التغيرات تحدث بسبب تغيرات عملياتية يومية والتي تسبب أحداث سياسية كبرى.توقعت نماذج قام بتصميمها الخبراء لدراسة التفاعلات المعقدة في هذا النوع من الحروب إلى أن المتمردين يعملون على إنتاج عنف إلى حد يجعل المجتمع يعاني منه بالشكل الذي يضطره إلى التكاتف مع الحكومة. وقد أثبتت الأحداث هذا التوقع. كما أنتج النموذج عدداً من الفرضيات، منها أن تقديم المساعدات ومشاريع إعادة الأعمار الصغيرة تؤدي إلى تقليل العنف الذي يمارسه المتطرفون، وأيضاً لأنها تساهم في تشغيل الأيدي العاملة المحلية وتقديم الخدمات للسكان المدنيين فإنها تساهم في رفع مستوى تدفق المعلومات تجاه السلطة الرسمية.
وفي دراسة أخرى تم إجراء تأثير نشر شبكات الهاتف النقال في المناطق المختلفة على العنف. هل يؤدي ذلك إلى السماح للمتمردين لتنظيم أنفسهم وزيادة مساحة العنف الذي يمارسونه أم أنها تسمح للمدنيين بتقديم المعلومات الأمنية للحكومة، وبالتالي خفض مستوى العنف؟ وقد أثبتت الدراسة أن في مساحة الأزمة غير متناسقة في العراق، فإن زيادة رقعة التغطية لشبكات الهاتف النقال قد أدت بالفعل إلى خفض مستويات العنف، والأهم من ذلك فإن الدراسة وجدت أن مجرد التهديد بقيام المدنيين بنقل المعلومات يستطيع أن يؤدي إلى خفض العنف. وحول المستوى ألمعاشي للناس وعلاقته بالعنف، فإن الدراسة تثبت أنه كلما كان السكان أكثر فقراً، كانوا أكثر ميلاً لرفض المتمردين لأنهم الأكثر تضرراً ومعاناة من عنف المتمردين. باختصار فإن مساعدات صغيرة وذكية تستطيع أن تساهم في خفض مستويات العنف.
حروب متعددة ضد عدو واحد
هل تعتبر الحرب الحالية ضد داعش متناسقة أم غير متناسقة؟ والجواب أن الحرب تحمل الصفتين.إذ أن انخراط الولايات المتحدة في تقديم المساعدة للحكومة العراقية والقوى الكردية يحرك الأزمة بالاتجاه غير المتناسق. وإذا ما استمرت الحرب بهذا المسار، فإنه سيكون حينها من الضروري على الحكومة العراقية وحلفائها أن يقوموا بتقديم ترتيبات سياسية مع المجتمعات لزيادة تدفق المعلومات. فضلاً عن ذلك ، فإن المساعدات يجب أن تكون ذات مستوى منخفض، وأن توجه بواسطة خبراء في التنمية وأن تقدم بشرط تعاون المجتمعات مع الحكومة. وينبغي على القوات العراقية أن تتبع نموذج تفاعل المجتمع الذي طبق أثناء الحملة الأميركية عام 2007 . وتحتاج الحكومة العراقية أن تجد سبلاً لإقناع السنة غير الراضين بأن لهم مستقبلاً في بلدهم، كما فعلت الولايات المتحدة مع القادة العشائريين السنة عامي 2006 و 2007 .
أما في سوريا، وعلى النقيض من ذلك، فإن الأعمال الوحشية التي قام بها نظام الأسد أدت إلى تدخل دولي ونشوء حرب متناسقة على الأغلب. فبينما أوصلت حرب نظام الأسد مع أعداء متعددين الوضع في سوريا إلى حالة الجمود المتناسق، إذ لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يتغلب على جيش الأسد، فإن أزمة متناسقة بدأت تتكشف بين الدولة الإسلامية والجيش السوري الحر. حيث يمكن اللعب على خصائص هذا النوع من الحروب، مثل وضوح الحدود والقوة بين الطرفين المتصارعين. والولايات المتحدة لديها المعرفة بكيفية تقديم المساندة في مثل هذه الأزمة.
التزام وظلال على الخارطة
في الحروب العابرة للدول، من الضروري فهم ليس فقط طبيعة الأزمة ولكن مستوى الحليف على المستوى المحلي. الحقيقة المرة أن بعض الحلفاء غير مستعدين في بعض الأحيان لدفع ثمن تنفيذ السيطرة التامة على مناطقهم. والنقاط السوداء على خارطة العالم تعطي انطباعاً خاطئاً عن مدى تماسك تلك المناطق. ليس فقط لأن 70 % من الأمم التي تمتلك جيوشاً قوية منخرطة في نزاع حدودي بشكل أو بآخر، وكثيراً من تلك الدول تحوي مناطق هي خارجة عن سيطرتها. هذا ما يحصل فعلياً في المناطق القبلية التي تدار فيدرالياً في باكستان، والتي تم تسليمها لسيطرة القبائل المحلية.
وهذا ما يحدث في أصقاع واسعة من اليمن، وأيضاً في مناطق في أميركا الجنوبية التي تخضع لسيطرة منظمات المخدرات. ولا يرجع سبب عدم قيام الحكومات ببسط سيطرتها على تلك المناطق بسبب ضعف القدرة أو الإرادة، ولكن لأن العوائد السياسية والاقتصادية الناتجة عن ذلك قليلة على الأغلب، حتى مع تسبب تلك المناطق لمشاكل حقيقية لبقية أرجاء العالم.
لهذا السبب يجب طرح السؤال عند حصول أزمة عابرة للدول، هل تقوم الحكومات بتحشيد مواردها من أجل تحقيق الفوز، أم أنها ببساطة لا تشعر بأن هذه المنطقة أو تلك تستحق عناء الحرب من أجلها. هذا يضيف مستوى جديداً في توقعاتنا فيما يخص الحروب المتناسقة.
ربما يكون الحليف المحلي مستعداً لتنفيذ غارات، ولكنه غير مستعد لتقديم حكم كاف لضمان تدفق معلومات تكتيكية وحساسة من المدنيين، فقد لوحظ في العراق إن الحكومة لا تقوم بمحاولات جادة لبسط سيطرتها على بعض المناطق، وقد تنازلت عن الكثير من المناطق السنية في العراق وبسرعة كبيرة لصالح تنظيم الدولة الإسلامية على الرغم من تفوقها في العدد والتكنولوجيا العسكرية. وقد قامت الولايات المتحدة بمساعدة العراق في شن حرب متناسقة للسيطرة على محافظة الأنبار الغربية عام 2007 ، لتجد بعدها إن الحكومة العراقية افتقرت الإرادة الحكم على تلك المناطق. وتعتبر الأنبار الآن معقلاً للدولة الإسلامية.
لذا ومن أجل شن حرب فعالة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فإن على الولايات المتحدة أن تجلس مع حلفائها الفاعلين في العراق وسوريا لتحدد المناطق التي تهمهم بشكل كاف لتوجيه القوات وبالتالي حكم تلك المناطق. ومثل هذه الأزمة تجعل الوضع يبدو وكأن الحرب لا تجري بين أطراف كل في منطقته، ولكن لتبدو أشبه ما تكون بسلسلة من المواقع المنتشرة على الخارطة، وتتميز بمستويات من التناسق وانعدام التناسق. ولكن ستبقى هنالك مناطق، خاصة في سوريا، لن تتمكن لا حكومة الأسد ولا الجيش السوري الحر من السيطرة عليها وهنالك القليل من الممكن عمله بشأنها.
هذا يجرنا إلى القضية الصعبة التي تتعلق بالفضاءات غير القابلة للحكم، والتي لا تخضع لأية دولة أو حليف عابر للدول (غير مرتبط بدولة). إذ لا يمكن شن حرب متناسقة أو غير متناسقة في المناطق الخارجة عن السيطرة، وهذه المناطق تمتلك خطورة استثنائية لأنها تحتضن أكبر التهديدات الإرهابية، وتشكل خطراً على باريس كما على بغداد.
في هذا المجال تمتلك الولايات المتحدة خيارين للتعامل مع مثل هذه الفضاءات. الأول، تمكين الحلفاء من أجل السيطرة عليها من خلال امتيازات، مثل برامج تطوير تجعلها أكثر جاذبية، أو من خلال المساعدة في إخراج القادة غير المتعاونين مثل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ولكن فعل ذلك قد يشكل تحدياً بحد ذاته، كما تثبت حالة باكستان. والفشل في مثل هذه الإستراتيجية، يؤدي إلى انتهاج الخيار الثاني، التحرك لقمع التهديد الإرهابي بشكل مباشر.
وتمتلك الولايات المتحدة استراتيجيات لمثل هذا النوع من الحروب، وتم تطويرها في أفغانستان وباكستان. ويعني ذلك إدخال الطائرات المسيرة ، والقوات الخاصة، والاستخبارات وبشكل أحادي (دون طلب التعاون). ولن يمكن تجنب تنفيذ مثل هذه الإستراتيجية في بعض مناطق سوريا.
إن التزام الحلفاء مهم أيضا. فالولايات المتحدة ستبقى معتمدة على كيف يسيطر حلفاؤها الأوروبيون على التطرف لسكانها المسلمين. النتيجة هي أن مكافحة الإرهاب الفعالة تتطلب تعاوناً بين الدول التي تسعى لحكم مواطنيها ومناطقها. ولكن في الوقت نفسه يجب الاعتراف بمحدودية العمل مع دول وحلفاء غير واضحين ومحدودي الغايات، مثل العراق، والجيش السوري الحر والبيشمركة.
إن الفشل في تحديد نوع الحرب التي يتم التورط فيها قد يؤدي إلى ضياع هائل وتوقعات غير حقيقية، والفشل في تشخيص الأسباب بشكل دقيق للفضاءات غير القابلة للحكم. أن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليست حرباً من المدرسة القديمة للحروب والتي تتضمن دولاً تتصارع من أجل السيطرة على الأراضي. وبدلاً من ذلك فإن الولايات المتحدة تقاتل في حروب مختلفة ومتنوعة ضد العدو نفسه، متناسقة، وغير متناسقة وخليط منهما كجزء من الجهود لمكافحة التهديدات الإرهابية. والخطوة الأولى لتحقيق الانتصار قد يتضمن تشكيل خارطة تفصيلية متحركة عابرة للدول يحدد فيها نوع الحرب ومكانها ، وتطرح فيها توقعات عملية وتنظم الحلفاء بشكل ملائم للتعامل مع الأشكال المختلفة من الأزمات بأساليب مختلفة باستخدام استراتيجيات قائمة على الأدلة.