تخطت الحرب الأهلية في سوريا عامها الرابع، فيما يستمر الصراع فيها بشكل أكثر دموية وقسوة ودماراً، ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على اتجاهات يتملس منها السوريون والعالم مآل الأمور في هذا البلد ومصيره، ومن هي الجهة التي ستستطيع حسم الأمور فيه. ويبدو أن الحرب الأهلية السورية صنعت ديناميكياتها ومساراتها الخاصة بها، التي تخطت مسألة تغيير النظام السوري، وحولت سوريا إلى موقع خطير يعبث فيه الارهاب والتطرف، ولتحول بقايا البلد إلى واحد من أهم مراكز إشاعة عدم الاستقرار في المنطقة والعالم.
تناقلت وسائل الإعلام في 2015/09/04 بأن القوات الروسية بدأت بإنشاء قاعدة لها في سوريا، وتحديداً بالقرب من مدينة اللاذقية السورية التي تقع على البحر المتوسط وتتميز بأغلبيتها العلوية. وقد جاءت هذه الأنباء لتؤكد أن نهجاً روسياً جديداً تجاه الأزمة السورية بدأ يتبلور مؤخراً بشكل أكثر وضوحاً وعلناً مما كان عليه في السابق. ويأتي هذا النهج بعد ورود معلومات بأن نظام بشار الأسد أصبح أكثر ضعفاً مما كان عليه، وأنه أصبح طرفاً يتنازع الصراع في معركة مع عشرات التنظيمات السورية التي تتقاتل فيما بينها، كل حسب أجندته والطرف الاقليمي الذي يدعمه. وتؤشر مديات التدخل الاقليمي في معادلة الصراع السورية، وبغض النظر عن أهداف وغايات هذا التدخل بأنها ستمهد الطريق لخارطة جديدة في سوريا، قد تعيد الشكل الذي صاغته فرنسا لسورية أثناء الانتداب الفرنسي ما بين الأعوام 1920-1924.
الموقف الاقليمي والدولي من الأزمة السورية
تتباين مواقف البلدان المعنية والمؤثرة في الصراع السوري، استراتيجياً وتكتيكياً، مما يعكس عدم تبلور موقف أو إرادة موحدة لوقف الحرب الأهلية السورية، على رغم مخاطر استمرارها الشديدة على أمن واستقرار المنطقة وبلدانها.
فالولايات المتحدة، التي يبدو أنها تتحرك وفق استراتيجية “احتواء” متعددة الاتجاهات في سوريا، تبدو غير مستعجلة في وضع سياسة واضحة لايقاف الصراع. فهي تتحرك بالشكل الذي يجعل تنظيم داعش وأطراف الصراع السوري الأخرى تحت السيطرة، بما لا يجعل أي طرف يمتلك القدرة على حسم الوضع لصالحه (ومن بين ذلك تنظيم داعش). كما يبدو أن واشنطن تعول على أن تتحول سوريا إلى “فيتنام في الشرق الأوسط” تستنزف ايران وحزب الله اللبناني، على الرغم من أن البلدان التي تسعى لإسقاط نظام بشار الأسد، ومنها تركيا، قطر، السعودية هي الأخرى منخرطة وبشكل عميق في هذا الصراع الدموي مع ما يعنيه ذلك من استنزاف لمواردها ورصيدها المعنوي هناك. يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لا ترغب أن تقوم هي لوحدها بدفع فاتورة التغيير في سوريا كما حصل سابقاً في العراق. ويظهر أن الولايات المتحدة تنظر إلى موجات الهجرة الجماعية التي اجتاحت أوروبا بسبب الأزمة السورية أنها قد توقظ الأوروبيين تجاه خطورة الأوضاع في المنطقة، وتجعلهم ميّالين بشكل أكثر جدية لدعم اي جهد تقودهُ الولايات المتحدة مستقبلاً (بعد استلام ادارة أميركية جديدة مقاليد الحكم في واشنطن عام 2017)، لتوجيه ضربات ضد تنظيم داعش، أو تغيير معادلات الصراع في سوريا.
ولكن الأوروبيين غير متفقين أيضاً على استراتيجية واضحة لإيقاف الحرب الأهلية السورية أو إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش. وعلى الرغم من الضغط الشديد الذي تتعرض له أوروبا بسبب التدفق المستمر للاجئين إليها (أغلبهم سوريون)، الذي وصل عددهم الى أكثر من نصف مليون نسمة حسب آخر إحصائية لمنظمة الهجرة الدولية، وتزايد عدد الجهاديين من رعايها الذين قدر عددهم تقرير نشره الكونغرس الأميركي في 2015/09/28 بالألاف والذين التحقوا بصفوف تنظيم داعش. لذا فإن أوروبا ستجد نفسها مضطرة لا محالة للتدخل في إيجاد حل للصراع السوري، ومحاربة تنظيم داعش بشكل أكثر فعالية. لأن تعقيدات هذا الصراع بدأت تؤثر على أمن بلدانها القومي، ومن ذلك العمليات التي قام بها جهاديون من تنظيم داعش في قلب العاصمة الفرنسية باريس التي استهدفت صحيفة شارلي هيبدو وأودت بحياة العشرات.
لا تتفق باريس ولندن وبرلين تماماً حول مقاربة أوروبية موحدة تجاه سوريا. فباريس، التي لها إرث تاريخي في صياغة سوريا الحديثة، قررت أن تشارك في ضرب مواقع تنظيم داعش الموجودة في الأراضي العراقية والسورية من الجو ، كما أيدت ضمناً إقامة منطقة عازلة فيها، ومن بين ذلك حظر الطيران في الأجواء السورية، حسب تصريحات لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي في نيويورك يوم 29/9/2015. وعلى النقيض من ذلك فإن الموقف الألماني يرفض إقامة مثل هذه المنطقة العازلة، نظراً لحساسية ألمانيا من إمكانية تحول هذه المنطقة إلى ملاذ آمن للمجموعات المتشددة والتي تحظى بدعم خفي من قبل الحكومة التركية، وتعرّض الوجود الكردي في المنطقة الشمالية المحاذية للحدود التركية للخطر، كما تقدم ألمانيا الدعم للأكراد في سوريا والعراق ولا تشارك بشكل مباشر في عمليات ضد تنظيم داعش في العراق أو سوريا. أما لندن، فهي على الرغم من مشاركتها في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش من الجو، إلا أنها ما تزال تتحرك باتجاه اضعاف نظام بشار الأسد بالشكل الذي يسمح بسقوطه، ولكن ليس قبل وضع ترتيبات سياسية للأوضاع في المنطقة. ويبدو أن هذه البلدان بالاضافة إلى حلفائها الاقليميين تحبذ رؤية نظام بشار الأسد يسقط، ولكنها تنظر بقلق شديد إلى البدائل المحتملة لسقوطه، ومنها صعود تنظيم داعش وسيطرته على مقاليد الأمور في سوريا والمنطقة، وبالتالي فإن كل العمليات تتحرك في أفق خلق توازن عسكري يخدم مصالحها من خلال مبدأ اللاغالب ولا مغلوب حالياً. ويمكن القول أن هنالك ثلاثة معسكرات تتقاتل بالوكالة في سوريا. معسكر مؤيد لنظام بشار الأسد ويدعمه بشكل مباشر ممثلاً بايران وروسيا، ومعسكر مناوئ لنظام الأسد ويسعى الى اسقاطه ولكن بتمهل، وتقوده الولايات المتحدة والبلدان الغربية الأخرى، وبلدان تسعى إلى اسقاطه وعلى عجل، وهي تركيا وقطر والعربية السعودية.
على الأغلب سيولد هذا الصراع تعقيدات جديدة للوضع في سوريا والمنطقة، وسيجعل تقسيم سوريا أمراً أكثر احتمالاً. بل وصنعت الحرب الأهلية السورية نافذة استراتيجية لكثير من القوى الدولية والاقليمية تجد من خلالها الفرصة لتحقيق مصالحها في المنطقة والعالم على المدى المتوسط والبعيد.
الانتداب الفرنسي – جذور التقسيم السورية
بعد مؤتمر سان ريمو ، وهزيمة الملك فيصل في معركة ميسلون مع الجيش الفرنسي، قامت فرنسا عام 1920 بتقسيم سوريا التي كانت تقع تحت انتدابها الى ستة دول هي، دمشق، حلب، العلويين، جبل الدروز، سنجق الاسكندرونة (يعرف حالياً هاتي ويقع في تركيا)، ولبنان الكبير الذي أصبح الجمهورية اللبنانية فيما بعد وكان لكل دولة علمها وبرلمانها. ولكن في عام 1922 قامت فرنسا بتغيير الوضع التقسيمي الى انشاء فيدرالية هشة بين دول دمشق، حلب والعلويين تحت اسم الفيدرالية السورية. ولم تضم الفيدرالية الدويلات الأخرى. وسرعان ما انفصلت دويلة العلويين عن الفيدرالية بعد أن اتفقت حلب ودمشق ليشكلا الدولة السورية عام 1924. وقد تم انشاء الدولة السورية عام 1930 بدستور جديد.
يبدو من هذا الاستعراض التاريخي المختصر أن سوريا كدولة منذ بداية تأسيسها كانت تحمل علامات التفكك، وعلى الرغم من سيطرة نظام مركزي على الدولة في سوريا منذ عام 1930 الى عام 2011، إلا أن المجتمع السوري لم يكن موحداً على المستويات الطائفية والعرقية كما يظن البعض، وكان التوحيد قسرياً ووفق آليات دكتاتورية قاسية.
ومع ضعف وانهيار سلطة النظام في بعض المناطق، برزت إلى السطح سيناريوهات التقسيم وتزايدت احتمالاته مع استمرار الحرب الأهلية، خصوصاً أن سوريا مقسمة فعلياً على أرض الواقع وفق المتغيرات التي أفرزتها الحرب الأهلية فيها. وقد يكون الحل الفرنسي من عشرينيات القرن الماضي مع اضافة العامل الكردي هو أحد الاحتمالات التي يمكن اعادة طرحها لمواجهة أوضاع مضطربة ودموية عصية الحل.
الدور الروسي الجديد
كانت روسيا منذ اشتعال الأزمة السورية عام 2011 من أهم البلدان الداعمة لنظام بشار الأسد في دمشق. وكان الدعم سياسياً وعسكرياً، مباشراً أحياناً، وغير مباشر أحياناً أخرى، عبر دعم إيران، الحليف الأساسي للنظام في المنطقة. ولدى روسيا قاعدة بحرية في ميناء طرطوس السوري. ولكن انشاء قواعد جوية في مدينة اللاذقية يضيف اوتاداً إضافية وأكثر عمقاً للوجود الروسي في مناطق العلويين.
لم يأت اختيار مدينة اللاذقية لانشاء الموقع الجديد للقاعدة العسكرية الروسية من فراغ. فاللاذقية هي عاصمة الاقليم العلوي الذي يمتد على الساحل السوري على البحر المتوسط، وتعتبر مؤمنة نسبياَ من اضطرابات الحرب الأهلية. إستراتيجياً فإن القاعدة أو القواعد الروسية التي تم أو يتم إنشاؤها في اللاذقية لا تبعد كثيراً عن أكبر قاعدة عسكرية بريطانية في البحر المتوسط في قبرص. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه القواعد ستكون مجاورة لحدود حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة الجنوب، مما يعنيه ذلك من إحداث تغيير استراتيجي في توازنات المنطقة وعلاقة روسيا بحلف الناتو. ويمكن الربط بين الخطوة الروسية تلك وبين التطورات السياسية الحاصلة في أوكرانيا منذ أكثر من عام. خاصة بعد أن صوت البرلمان الأوكراني في كانون الأول عام 2014 على إلغاء وضع الحياد الذي كانت تتبناه أوكرانيا، والذي فسح المجال لها لمستوى تعاون أكبر وأعمق مع حلف الناتو، مما قد يؤهلها لدخول الحلف في فترة قادمة. وتنظر روسيا بقلق شديد إلى مثل هذه الخطوة التي ستجعل قواعد حلف الناتو على حدودها الغربية مباشرة، وهو ما دعاها للاستيلاء على قاعدة القرم البحرية، وإنشاء منطقة عازلة لا تخضع للحكومة الأوكرانية ويسكنها سكان روس تفصل بينها وبين أوكرانيا. ومع إقامة هذه القواعد العسكرية الروسية في منطقة ملتهبة كسوريا، فإنه قد تم تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وسيأخذ الصراع في المنطقة ابعاداً أكثر دراماتيكية خلال المدى المنظور.
تسعى روسيا أن تحصل على موطئ قدم دائم لها في الشرق الأوسط. ورغم التكلفة الباهظة لمثل هذا النوع من الاستراتيجيات، ورغم الصعوبات المالية التي شهدها الاقتصاد الروسي نتيجة انخفاض اسعار النفط العالمية، وإلقاء روسيا باللائمة على السعودية لهذا الانهيار، إلا أن موسكو فيما يبدو أضحت مستعدة أكثر من قبل لأن تقوم بالمخاطرة وأن تتدخل مباشرة في منطقة تشهد اضطرابات وصراعات وعدم استقرار، رغم تجربتها المريرة السابقة في أفغانستان.
تمثل الحرب الأهلية السورية نافذة استراتيجية تستفيد منها موسكو في الضغط على حلف الناتو، والضغط على مساحات النفوذ والتأثير الاقليمي في الشرق الأوسط، سواء كانت تلك المساحات دولاً أو مجاميع سياسية أو مسلحة تعمل خارج إطار الدول وذلك من خلال استخدام سياسة القواعد العسكرية. ومن المرجح أن يصبح التواجد الروسي المسلح في المنطقة ورقة من أوراق التأثير للسياسة الخارجية الروسية.
النتائج المتوقعة
لا يمكن الحكم على وجه التحديد على الآثار المتوقعة لاقامة القواعد العسكرية الروسية في اللاذقية، ولكن من المؤكد أن القواعد الروسية قد ولدت حراكاً سياسياً دولياً للتعاطي مع الحرب الأهلية السورية وفق أطر وسياقات يبدو أنها ستختلف عما كان معهوداً عليه خلال الفترة التي سبقت الاعلان عن اقامة تلك القواعد. وعلى الرغم من أهمية عدم الاستعجال في الحكم على طبيعة التحركات السياسية الحالية فيما يتعلق بالشأن السوري، روسياً، وأميريكاً وأوروبياً، إلا أن التصريحات أصبحت أكثر واقعية تجاه كثير من مفردات المشهد السوري المعقدة، ومنها رأس النظام السوري.
ستجد أنقرة نفسها بوضع غير مريح بوجود قواعد عسكرية روسية على بعد كيلومترات من حدودها الجنوبية، خاصة أن أنقرة تعتبر لاعباً مهماً في الصراع السوري، ومن أشد الداعمين لازاحة بشار الأسد، الذي يحظى بدعم موسكو حالياً. وتطمح تركيا إلى تنصيب حكومة موالية لها في دمشق. وقد يؤدي التواجد العسكري الروسي إلى تغير في العلاقات التركية – الروسية باتجاه أكثر سلبية. وقد حاولت تركيا جاهدة إنشاء منطقة عازلة في داخل الأراضي السورية لكن دون جدوى. وسيكون للوجود الروسي في سوريا تأثير معطل لأية محاولات لفرض مناطق عازلة أو مناطق حظر طيران في سوريا.
لا يعرف إلى أي مدى ستستمر روسيا في دعم نظام بشار الأسد، ولكن من المؤكد أن وجود القواعد العسكرية الروسية في مدينة اللاذقية سيكون وجوداً طويل الأمد، بغض النظرعما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا. بل وستساهم هذه القواعد العسكرية الروسية في تسريع عملية تقسيم سوريا واقامة دويلة علوية تتحالف مع روسيا على المدى المتوسط.
سعودياً، يبدو أن العربية السعودية مستاءة جداً من التحرك الروسي الأخير. حيث أعلن عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي في 2015/09/29 في نيويورك عن رفض العربية السعودية للموقف الروسي، بل وصرح بأن النظام السوري قد يواجه الخيار العسكري لإزاحته. ويعتبر هذا تحدياً واضحاً للموقف الروسي الداعم للنظام. ومن المؤكد أن البون الواضح في الموقفين السعودي والروسي سيترك آثاراً كبيرة ليس فقط على مشهد الصراع السوري، ولكن على الوضع في المنطقة ايضاً. إذ لا ترغب العربية السعودية بأن تدخل في نزاع مباشر في المنطقة مع روسيا، وهي اصلاً متورطة في نزاع بالوكالة مع ايران في الحرب الأهلية السورية وغيرها من المناطق. وتعتقد العربية السعودية أن التواجد العسكري الروسي في اللاذقية سيعطي دعماً إضافياً لإيران في سوريا والمنطقة وستعتبره عملاً موجهاً ضد مصالحها. وبالعودة إلى تصريح وزير الخارجية السعودي، الذي رفض قيام روسيا بعملياتها منفردة ضد التنظيم، فإن السعوديين ربما فهموا بأن اي نجاح قد يحققه الروس ضد التنظيم سوف يؤدي إلى تحجيم نفوذهم في المنطقة، وخصوصاً أن نفوذهم في سوريا يستند على دعم بعض الفصائل الاسلامية المتشددة التي تعمل ضد النظام.
أصبح تنظيم داعش مؤخراً الورقة الأكثر استخداماً ورواجاً لأغلب التحركات السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة، والتي تستخدم التنظيم كغطاء أو قناع لسياسات وأجندات خفية لا تحبذ البلدان الإعلان عنها صراحة. فتركيا شنت حملة عسكرية تحت غطاء محاربة تنظيم داعش لضرب حزب العمال الكردستاني لأسباب سياسية تتعلق بوضع حزب العدالة والتنمية. وتقوم بلدان أخرى باستخدام ورقة محاربة داعش لتوسيع نفوذها الاقليمي. كما تقوم البلدان الغربية باستخدام ورقة محاربة داعش لغرض ترسيخ تواجدها العسكري ونفوذها في بلدان المنطقة. كما تقوم بلدان أخرى باستخدام ورقة تنظيم داعش للدفع باتجاه تنفيذ الاجندة الخاصة بها، من خلال توفير الدعم والامكانيات اللوجستية والمادية والاعلامية له. ويبدو أن روسيا وجدت ورقة محاربة التنظيم ورقة رابحة لمد نفوذها واقامة وجود دائم لها في المنطقة. ولا يمكن الحصول على معلومات حول الأساليب التي ستتبعها روسيا لتنفيذ أية عمليات مفترضة ضد التنظيم، وما إذا كانت تلك العمليات ستنجح في الحد من تمدد التنظيم وتعاظم قوته في سوريا والمنطقة، أو دعم بقاء بشار الأسد لفترة أطول في الحكم،. ولكن من المؤكد أن روسيا ستستفيد كثيراً من هذه الورقة لاضفاء شرعية على تواجدها في المنطقة، وتحت ذريعة الدفاع عن مصالحها وحماية أمنها القومي.
سياسياً، فإن الواقع السوري مفكك بشكل سيكون من الصعب جمعهُ كما كان في السابق. فتنظيم داعش يسيطر على مساحات كبيرة من سوريا، وهنالك جماعات مسلحة مختلفة صنعت لنفسها مناطق مستقلة. وهنالك المناطق التي يسكنها الأكراد. ويأتي التدخل الإقليمي ليزيد البلد تفككاً إلى تفككه. فإيران تدعم النظام السوري، وتركيا تدعم جماعات إسلامية وأخرى تسعى لاسقاط النظام، وهنالك السعودية وقطر والولايات المتحدة، وبلدان أخرى. ويأتي التواجد العسكري الروسي في ظل هذه الظروف ليجعل الأمور تتجه فعلياً إلى مزيد من التشرذم والانقسام وهي وقائع على الأرض تستقرأ المستقبل في سوريا والمنطقة.
فمع تجذر الحرب الأهلية في المجتمع السوري، وتعمق التدخلات الاقليمية والدولية في تلك الحرب، واحتدام التنافس، فإن هذا الصراع يزيد احتمالية تشرذم الدولة السورية الحالية الى دويلات، يتقاسم كل طرف دويلة يرعاها. ويلاحظ أيضاً أن كل طرف إقليمي أو دولي قد رسم حدود مصالحه ونفوذه في سوريا. فكل بلد داخل في الصراع السوري يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في منطقة أو شريط جغرافي يعتبره حيوياً لمصالحه في سوريا. فإيران وحلفاؤها يتحرك مسرح عملياتهم في حماية العاصمة السورية، والطرق المؤدية منها وإليها، وتأمين المنطقة الحدودية مع لبنان والطرق والمناطق التي تربط الساحل السوري مروراً إلى اللاذقية. أما تركيا فمع اهتمامها باسقاط النظام السوري من خلال التركيز على دمشق، إلا أنها مهتمة بالمنطقة التي تقع بقرب حدودها كحلب، والمناطق التي يقطنها الأكراد، كما تهتم الأردن بمناطق درعا والمنطقة القريبة عليها. أما المنطقة المحاذية للعراق، فيبدو ولأسباب مجهولة قد تركت تماماً ليتصرف بها تنظيم داعش كما يشاء. ويبدو أن شن القوات الروسية عملياتها الجوية ضد داعش، وفي حمص تحديداً يتحرك في أفق تأمين مناطق الساحل السوري وممرات مناطق العلويين التي تتواجد فيها القواعد العسكرية الروسية.
ولا يمكن استبعاد الجانب الاقتصادي من لعبة المصالح والصراع في سوريا. وحسب تقرير لوكالة الطاقة الأميركية فإن ما يسمى بـ”حوض الشام”[1] البحري في البحر المتوسط والذي يمتد جزء منه في السواحل السورية يتوفر على احتياطيات نفطية تقدر بـ 1.7 مليار برميل، و122 ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. ويذكر التقرير أن احتياطيات الغاز الطبيعي تلك تستطيع تغطية احتياجات المنطقة من الغاز الطبيعي “الى أمد غير محدود.”[2] ومن هنا قد يفهم أن أحد أسباب الصراع السوري هو السيطرة على موارد مهمة للطاقة للمستقبل في الحقول المحتملة للغاز والنفط في البحر المتوسط. ويعرف عن تركيا أنها تحاول ضمان مصادر مستقرة ورخيصة للطاقة لتغطية خططها التنموية الطموحة مستقبلاً، كما يعرف عن روسيا، إيران وقطر أنها من أهم البلدان المصدرة للغاز في العالم، ويعرف عن العربية السعودية أنها تعتمد على النفط كوسيلة وحيدة تحفظ لها وضعها كدولة. كما تقع مقرات إدارة أهم شركات الطاقة متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وتعتبر الولايات المتحدة وأوروبا من أهم الاسواق المستهلكة للنفط في العالم.
التأثيرات المحتملة على العراق
تأريخياً فقد كان لسوريا تأثيرات مباشرة ومهمة على العراق. وتعود هذه التأثيرات إلى العقود الأولى للعصر الإسلامي في المنطقة. واستمرت هذه التأثيرات حتى العصر الحديث، فقد كانت سوريا مثار قلق واضطراب ضد حكومة نوري السعيد أبان الحكم الملكي لحد عام 1957، كما كان حزب البعث في العراق يقاد من قيادات سورية رفيعة المستوى كانت تخطط له استراتيجياته وتعطيه الغطاء الايديولوجي والسياسي الذي كان يحتاجه. وتواصل التأثير السوري السلبي على الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق بعد سقوط النظام حزب البعث، حيث استخدم النظام السوري أدوات دعم الإرهاب وآوى القيادات البعثية الهاربة لضرب وضع النظام الذي نشأ في العراق بعد عام 2003. ويستمد تنظيم داعش الكثير من مقومات وجوده وحركته وعملياته في العراق من سوريا، حيث الدعم اللوجستي، والتسليحي والرجال، وتقع عاصمة التنظيم حالياً في مدينة الرقة السورية. وملخص القول أن سوريا كانت دوماً مصدر عدم استقرار للعراق. وينظر المراقبون بترقب إذا ما كان الدور الروسي سيغير من هذه المعادلة السورية السلبية تجاه العراق.
ولا يخفى أن الصراع في سوريا يلقي بظله على الوضع في العراق. ومع تشابه البلدين في كثير من المجالات، ومنها صياغتهما وفق مقاييس سلطات الانتدابين الفرنسي والبريطاني. ومع استمرار الصراع السوري، فإن مساحة عدم الاستقرار في المنطقة ستتسع، وستطال العراق، مهما حاول العراق أن يدرء بنفسه عنه. فشبح التقسيم الذي يخيم على سوريا، وسقوط مناطق واسعة تحت سيطرة تنظيم داعش، وتعمق التدخلات الاقليمية، وضعف سلطة الدولة، واستشراء ثقافات العنف والتطرف، والحروب بالوكالة كلها موجودة في العراق ولكن بشكل مختلف وأقل حدة عنه في سوريا.
وجاء الإعلان عن قرب افتتاح مكتب تنسيق مشترك ضد تنظيم داعش يضم العراق، ايران، سوريا وروسيا مفاجئاً للمتابعين للشأن العراقي. ويأتي هذا الإعلان متزامناً مع الخطوة الروسية في اللاذقية والبدء بالعمليات العسكرية الروسية في سوريا. مما يعني أن العراق قد انضم فعلياً إلى محور اقليمي أمني جديد. وعلى الرغم من أن المصالح العراقية هي التي يجب أن تكون المعيار في أي قرار يتخذه العراق خاصة فيما يتعلق بأمنه واستقراره، إلا أن هذه الخطوة فيما يبدو لن تمر دون ردود أفعال من بلدان الجوار. ومن المتوقع أن يكون رد الفعل الغربي أقل حدة، نظراً لوجود تفاهمات غير مكتوبة بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران لمحاربة تنظيم داعش، ولكن وفق خرائط توزع مناطق النفوذ بينها في المنطقة. ومن المتوقع أن يؤدي تقارب العراق مع روسيا بالتزامن مع وجود عسكري روسي في سوريا إلى تعقيد الوضع السياسي في العراق وعلى الخطوط الطائفية والإثنية.
داخلياً، جاء أول رد فعل من اتحاد القوى العراقية السنية متسقاً مع الموقف السعودي الرافض لأي دور روسي في المنطقة، حيث أعلن رفضه لهذا التنسيق، وعن مخاوفه من أن يكون ذلك موجهاً ضد “مكون عراقي محدد.” وهنا لابد للحكومة العراقية أن ترسل رسائل تطمين للواقع السياسي العراقي، وبلدان الجوار بأن هذا التقارب لا يضع العراق جزء من اية استراتيجية روسية أوسع في المنطقة وتحت أي عنوان. وأن الغاية الوحيدة للعراق هي محاربة تنظيم داعش وانهاء وجوده على أراضيه. كما ينبغي على الحكومة العراقية أن تنسق مستويات التعاون التي تراها مناسبة مع أي بلد أو تحالف لضمان أمن العراق القومي بالشكل الذي لا يجعله يخسر أي جهد أو مساعدة من أية بلد يود تقديم المساعدة ضد التنظيم. كما لا ينبغي للعراق أن يكون جزء من أي حلف أو منظومة أمنية تتشكل ضد بلد أو بلدان بعينها وأن لا يكون داعماً لأي نظام مرفوض من شعبه في سوريا أو غيرها. ومن وجهة نظر متفائلة، فإن أي نجاح يحققه المجتمع الدولي أوالتعاون الاقليمي في القضاء على داعش سيخلق بيئة أكثر هدوء لحل الأزمات الداخلية والبينية في المنطقة بعيداً عن عنف وتطرف التنظيم.
كما ينبغي على الحكومة العراقية أن تعمل بجد على تقوية وضع الدولة العراقية، لأن تقوية وضع الدولة سيعني ضبطاً أكثر في سد مساحات التدخل الخارجي في الشأن العراقي ومنع تحوله إلى ساحة صراع بالوكالة، أو حصول استقطابات سياسية جديدة في العراق.
ومع هشاشة الوضع السوري، وتحوله إلى صراع متعدد الأطراف من أجل النفوذ والهيمنة بالوكالة. فإنه من المثير للاهتمام أن نرى كيف ستؤول إليه الأمور في سوريا. خصوصاً أن المسارات الجديدة التي صنعتها الحرب الأهلية هناك ستؤدي بسوريا إلى التقسيم بأسرع مما كان متوقعاً. وسيحاول كل جزء في سوريا البحث عن حليف قوي يتكئ عليه لحماية نفسه في المستقبل.
[1] Lavent basen
[2] Overview of oil and natural gas in the Eastern Mediterranean region, EIA, August 15, 2015.