تمثّل الآثار والنُصُب التذكارية ومواقع التراث الثقافي تأريخنا، ورمز ماضينا، لأن ووجودها الحالي يسمح لنا بالاتصال بأجدادنا بلمسة واحدة، ومن طريقها تروي لنا قصة التي مع مرور الوقت تصبح جزءاً من هويتنا الثقافية.
لقد أدركت الأنظمة السياسية والشخصيات الحاكمة أهمية هذه الرموز المادية في جميع أنحاء العالم وعبر الزمن، وقد استغل القادة المعالم الأثرية والمباني علاماتٍ مرئيةً لحكمهم، إذ كان موقع تلك المعالم الأثرية أمام مرأى العامة كخلفية مثالية لنقل الرسائل الأيديولوجية إلى الناس؛ وبالتالي فإن مسألة الحفاظ على الجانب الثقافي بإنشاء هذه المعالم تعدُّ مسألة سياسية إلى حد كبير، إذ يختار صنّاع القرار التراث ليُنقلوا إلى الأجيال المقبلة استناداً إلى تناسب النصب التذكاري أو الآثار، مع سرده الخاص للأحداث الماضية والإطار الأيديولوجي؛ وعلى هذا النحو يُقال: إن التراث لا يمكن ألّا يكون له علاقة بالسياسة على الإطلاق.
إن القيمة التي يضعها القادة باستخدام الأشياء الثقافية وسيلةً للقيم لمواطنيهم تصبح واضحة بنحوٍ خاص في وقت الانتقال السياسي، إذ تدمر ذكريات الحكم الماضي، ولاسيما بعد بناء نصب تذكارية جديدة لإظهار مجموعة جديدة من المعايير الثقافية والسياسية()، وإن الأمثلة على هكذا إجراءات متعددة ويمكن العثور عليها في جميع البلدان، في كل قرن عبر المشهد السياسي، من الملوك إلى الأنظمة الشيوعية.
وتماماً مثل بقية دول العالم، فقد شهد العراق العديد من التغييرات في السلطة عبر تأريخه؛ وبالتالي حدثت تغييرات في المناظر الطبيعية لمدنها الرئيسية. وفي الآونة الأخيرة أدت عقيدة تقديس الشخصية التي أنشأها صدام حسين وأتباعه إلى تفشي آثار النصب التذكارية، وبناء المباني استناداً إلى دوافع سياسية، مثل تماثيل صدام، وقصوره، ومباني حزب البعث؛ بهدف تثبيت صورة الرئيس في أنحاء العراق؛ لتكريس الولاء للنظام في عقول الشعب، وإيصال الأيديولوجية الجديدة بالمعالم المرئية. وبعد سقوط النظام في عام 2003، كان تمزيق رموز الدولة -آنذاك- استجابة فورية من الشعب العراقي، إذ مثلت صورة إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس التغييرات التي تحدث في العراق.
وفي الوقت نفسه، بقيت العديد من المعالم التي تجسد فترة الحكم الطويلة التي تذكر العديد بالنظام القمعي الذي قد ألحق الألم والمعاناة بشعبه. فكيف نعالج هذه البقايا المرئية من الماضي الصعب؟ أيجب علينا تدمير المواقع التراثية التي ترمز إلى التمييز والعنف والكراهية للآخرين؟ أسنمحو جزءاً من تأريخنا؟ أيمكن أن يؤدي الحفاظ على هذه الرموز إلى زيادة فرص الأجيال المقبلة في تحديد قيم مماثلة لتلك التي يتبعها النظام؟ أو قد يؤدي إلى نسيان الماضي وضحاياه؟
إن جميع هذه التساؤلات يجب أخذها في الحسبان حين تقييم كيفية التعامل مع هذه الآثار والنصب التذكارية للماضي المثير للجدل، مع مراعاة المسؤولية التي تقع على عاتقنا تجاه الأجيال المقبلة حين اتخاذ قرار بشأن مصير بقايا أسلافهم، سواء أكانوا سيئين أم جيدين؟ ليس العراق الوحيد الذي بحاجة إلى إيجاد الإجابات المناسبة عن هذه الأسئلة، والبلدان الأخرى التي وجدت نفسها في مواقف سياسية مماثلة قبل عدة عقود يمكن أن تكون أمثلة عن كيف ينظر الناس إلى عملية تدمير النصب التذكارية أو المحافظة عليها بعد فقدان النظام للسلطة.
ويهدف هذا البحث إلى تقديم نظرة شاملة عن كيفية تعامل العراق مع النصب التذكارية والآثار والمباني المتبقية من نظام صدام حسين، ومماثلة ذلك مع كيفية تعامل كلٍّ من ألمانيا، والولايات المتحدة، ودول من الاتحاد السوفيتي السابق مع تراثها الصعب؛ من أجل التوصل إلى استنتاجات لاتباع طريقة بنّاءة يسير على منوالها العراق في مجال الحفاظ على تراثه.